أعلن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية، الثلاثاء 2 سبتمبر/أيلول 2025 عن عقوبات ضد شبكة دولية متهمة بتهريب النفط الإيراني والالتفاف على العقوبات الأمريكية المفروضة، يقودها رجل أعمال عراقي كويتي يدعى خالد حميد السامرائي، وتُدر سنويًا 300 مليون دولار تصب في خزانة طهران وشركائها.
تأتي تلك العقوبات في إطار مواجهة نفوذ إيران في العراق، وتهدف إلى إضعاف قدرة النظام الإيراني على تمويل أنشطته العدائية، وفق ما ذكر وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت، كما أنها تأتي استكمالًا للعقوبات السابقة التي صدرت في 3 يوليو/تموز 2025 ضد شبكة أخرى متورطة في أنشطة مماثلة.
تُعد إيران ثالث أكبر منتج للنفط ضمن منظمة أوبك، حيث يبلغ إنتاجها نحو 3.3 ملايين برميل يوميًا، ما يعادل حوالي 3% من الإنتاج العالمي، وتصدر نحو 1.8 مليون برميل يوميًا من النفط الخام والمكثفات، وهو أعلى مستوى للصادرات منذ الانسحاب الأمريكي الأحادي من الاتفاق النووي عام 2018 وفرض واشنطن لحزمة جديدة من العقوبات.
Today, Treasury’s Office of Foreign Assets Control sanctioned a prominent businessman and his network of companies and vessels that smuggle Iranian oil disguised as Iraqi oil to avoid U.S. sanctions. This network generates over $300 million annually for Tehran.
— Treasury Department (@USTreasury) September 2, 2025
وتواجه طهران منذ عام 1979 عقوبات أمريكية مشددة شملت قطاع النفط والبتروكيماويات، ما كان له أثره على الاقتصاد الإيراني الذي تعرض لهزات عنيفة قوضت نفوذ الجمهورية الإسلامية وكبلت أيديها إلى حد ما نحو التوسع والهيمنة الإقليمية، ما دفع الإيرانيين للبحث عن الأبواب الخلفية للالتفاف على تلك العقوبات وتحقيق الحد الأدنى من الدخل والتنمية التي تسمح لها بالبقاء على الساحة.
ويعد العراق البوابة الكبرى لتصدير النفط الإيراني عبر شبكات معقدة من الشركات الوهمية والأساليب الملتوية، وهي البوابة التي ساعدت الإيرانيين في امتصاص العقوبات الأمريكية المشددة، وتفريغها من كثير من تأثيرها المتوقع، ما كان له أثره الواضح على العلاقات العراقية الأمريكية ومآلاتها المستقبلية.
الاقتصاد الموازي.. جبرًا لا خيارًا
منذ سقوط الملكية وإعلان الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعرضت طهران لموجات متتالية من العقوبات، ما بين أمريكية وأوروبية، فضلًا عن قرابة 6 قرارات صادرة عن مجلس الأمن فرضت قيودًا مشددة على الاقتصاد الإيراني، تنوعت بين عقوبات مصرفية ومالية، تضييق على الشحن البحري، وحظر على الاستثمار في قطاعي النفط والغاز.
ومن أبرز تلك القرارات الصارمة كان القرار 1929 لعام 2010 والذي يعتبره اقتصاديون القرار المدمر للاقتصاد الإيراني، حيث منع الاستثمارات الأجنبية في النفط والغاز، وفرض قيودًا مصرفية وتأمينية واسعة، مما أسفر عن تراجع صادرات النفط من 2.5 مليون برميل يوميًا عام 2011 إلى نحو 1.1 مليون برميل في 2013، وانكمش الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 1.5% سنويًا، بينما ارتفع التضخم إلى 35%.
العقوبات هنا لم تقتصر على بعدها الاقتصادي وفقط، بل تجاوزت ذلك إلى تهديد المجتمع الإيراني وتفتيت لحمته وبث الفتنة بين صفوفه، خاصة بعد ارتفاع معدلات البطالة والفقر وانخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي بصورة كبيرة، ما قد ينذر بانفلات العقد والانقلاب على النظام الذي وجد نفسه مضطرًا للبحث عن أي بدائل وبأي طريقة للخروج من تلك الكماشة المفروضة عليه من كافة الجوانب.
من هنا طرق الإيرانيون أبواب الاقتصاد الموازي، أو كما يطلق عليه “اقتصاد الظل”، حيث الالتفاف على العقوبات المفروضة عليهم عن طريق السوق السوداء، والنوافذ الخلفية، عبر بيع النفط في السوق السوداء واستخدام العملات الرقمية، ورغم تبعات هذا المسار وما ينطوي عليه من تداعيات إلا أنه ظل الخيار الوحيد أمام الجمهورية الإيرانية.
ووفقًا لتقديرات إدارة معلومات الطاقة الأميركية، حققت صادرات طهران النفطية عبر التهريب 53 مليار دولار في عام 2023 و54 مليار دولار عام 2022، وبناءً على بيانات منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، كان الإنتاج خلال عام 2024 عند أعلى مستوياته منذ عام 2018، حيث حققت صادرات بقيمة 67 مليار دولار.
ولعب العراق دورًا محوريًا في منظومة تهريب النفط الإيراني، حيث حقق عوائد تتراوح بين 1–3 مليارات دولار سنويًا من تصدير الوقود عبر شبكات مشتركة مع فصائل عراقية مسلحة ونظام التخصيص الحكومي، وفق ما ذهبت رويترز، فيما تذهب تقارير استقصائية عن سوق النفط العالمي إلى أن إيران تحقق ما بين 35 – 50 مليار دولار سنويًا عائدات تجارة النفط المهرّب، فيما تحقق 12 – 20 مليار دولار من تهريب البتروكيماويات.
ورغم العقوبات المغلظة التي فرضها الغرب والمجتمع الدولي على طهران، وكل من يغرد معها خارج السرب بعيدًا عن سياسة تقويض النفوذ الإيراني الإقليمي، إلا أن ذلك لم يثنها عن المضي قدمًا في هذا المسار الذي أصبح مسألة حياة أو موت بالنسبة للنظام الإيراني المدافع عن بقائه على قيد الحياة بعدما أغلق الأمريكان والمعسكر الغربي برمته كافة الخيارات القانونية.
شبكة التهريب.. خريطة الرحلة
في فبراير/شباط 2023 خرجت ناقلة النفط “ريمي” من ميناء البصرة النفطي جنوب العراق باتجاه ماليزيا، كانت محملة بمليون برميل نفط من العراق، وترفع علم بنما، وكانت شهادة المنشأ التي اطلعت عليها وكالة رويترز” تشير إلى أن السفينة جرى تحميلها بالنفط الخام من العراق.
هذا ما تم توثيقه على الأوراق، لكن الواقع يشير إلى عكس ذلك بحسب الوثائق التي حصلت عليها الوكالة الإنجليزية، إذ تبين أن الناقلة كانت جزءًا من شبكة واسعة لتهريب النفط عبر أسطول شركة “صحارى ثاندر” الإيرانية، حيث تحمل سفينة إيرانية النفط الخام من موانئ طهران ثم تنقله إلى الناقلة “ريمي” في عرض البحر، ومنها تتجه صوب ميناء البصرة العراقي، للحصول على وثيقة منشأ كون هذا النفط المحمل عراقيًا بما ييسر عملية تصديره للخارج بسهولة ودون أي مشاكل.
وافتضح هذا الأمر بعد تسريب أكثر من 10 آلاف رسالة بريد إلكتروني تبين خلالها أن “ريمي” ناقلة وهمية، تقوم كحلقة وصل لنقل النفط الإيراني إلى الموانئ العراقية بأوراق مزورة، وقد كشفت تلك الرسائل عن شحن مجموعة “صحارى ثاندر” الإيرانية ما يقارب 20 مليون برميل من النفط إلى أنحاء مختلفة من العالم بقيمة 1.7 مليار دولار أميركي خلال الفترة من مارس/آذار 2022 إلى فبراير/شباط 2024.
أما عن خط السير فجرى نقل النفط بواسطة السفن المملوكة للأسطول الإيراني من ميناءي بندر عباس في إيران والفجيرة في الإمارات إلى فنزويلا ومورمانسك شمال روسيا وسلسلة من الموانئ في الصين، التي تعد الوجهة الأبرز للنفط الإيراني.
وبحسب التسريبات وقاعدة بيانات الشحن العامة (إكويسيس) فقد كانت هناك 92 شركة مالكة أو مشغلة للسفن المشاركة في أنشطة “صحارى ثاندر” التي تمتلك أسطولًا يبلغ 34 سفينة، من أبرزها إلى جوار “ريمي” الناقلة “ديون” المؤهلة لحمل 2.2 مليون برميل والتي شاركت في 33 عملية نقل بين السفن إلى 11 سفينة مختلفة، بإجمالي 5 ملايين برميل من النفط خلال الفترة المذكورة.
إلى جانب هذا الأسلوب الذي يعتمد على نقل النفط من سفينة لأخرى، تتعدد استراتيجيات وأدوات طهران لتهريب نفطها للخارج التفافًا على العقوبات الأمريكية والغربية، منها الأسطول الخفي والذي هو عبارة عن شبكة واسعة من ناقلات نفطية مسجلة بأسماء مزيفة أو في دول مثل بنما وجزر مارشال، تقوم بتغيير هويتها بشكل متكرر، وتلغي جهاز التعرف الأوتوماتيكي AIS، وتحول التتبع، وتستخدم شركاء وهميين للتهريب في المياه الدولية.
وفي عهد حكومة محمد شياع السوداني هربت إيران عبر العراق 500,000 إلى 750,000 طن شهريًا من النفط (المازوت) الثقيل المخصص للأسفلت -عبر طرق مخصصة ومزيفة وبمساعدة الفصائل المسلحة الموالية لطهران في الداخل العراقي- إلى آسيا، حققت عائدات سنوية تتراوح بين 1 مليار إلى أكثر من 3 مليارات دولار.
ومن أشهر شبكات التهريب التي ثبت تورطها في الآونة الأخيرة تلك التي يقودها رجل الأعمال العراقي الكويتي وليد خالد حميد السامرائي، والتي تضم عددًا من الشركات مثل Babylon Navigation DMCC وGalaxy Oil FZ LLC، والتي تعتمد على مزج النفط الإيراني بالنفط العراقي وبيعه على أنه عراقي المنشأ، ما يدر على إيران وشبكته نحو 300 مليون دولار سنويًا.
وقد فرضت الولايات المتحدة عقوبات عليه شملت تجميد أصوله وحظر التعامل معه من قبل أي جهة أمريكية، إلا أن خارطة علاقاته المتشابكة والمعقدة تسمح له بالالتفاف على تلك العقوبات والاستمرار في نشاطه الذي يدر عليه وعلى طهران أرباحًا طائلة أهلته لأن يكون له نفوذه في إيران والعراق ولدى بعض الحكومات الإقليمية التي يصدر لها هذا النفط.
يرافقه في تلك المهمة رجل الأعمال العراقي البريطاني، سليم محمد سعيد، الذي تربطه علاقة بحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وتحديدًا بعائلة الطالباني، وقد أسس عددًا من الشركات في العراق وبريطانيا، أبرزها شركة VS Tankers FZE، التي استخدمها كواجهة لعمليات التهريب، واتهم بتهريب النفط الإيراني عبر بعض الدول منها السعودية وسلطنة عُمان والإمارات.
تشير التقديرات إلى أن شبكته ساهمت في ضخ أكثر من 500 مليون دولار سنويًا إلى الحرس الثوري الإيراني، خاصة فيلق القدس، وحقق أرباحه تلك من خلال تعدد أدوات التهريب التي يستخدمها مثل النقل البحري من سفينة إلى أخرى، ووثائق شحن مزورة، ورشاوى لمسؤولين عراقيين لتسهيل العمليات.
ماذا عن العلاقات الأمريكية العراقية؟
أثار تحول العراق لأحد أهم المنافذ الإيرانية للالتفاف على العقوبات المفروضة على طهران حفيظة الولايات المتحدة بشكل كبير، خاصة وأن عمليات التهريب تتم غالبًا تحت غطاء الفصائل المسلحة المدعومة من إيران، وعليه يرى الأمريكان أن مثل هذه الممارسات تقوض سياستها في “الضغط الأقصى” على النظام الإيراني.
وكانت الإدارة الأمريكية قد اتهمت بعض المليشيات العراقية بأنها شريكة مباشرة في عمليات التهريب، وبالتالي أدرجت بعض قياداتها على قوائم العقوبات، فيما تمارس واشنطن ضغوطها المتواصلة على بغداد لضبط الحدود ووقف تهريب النفط والغاز والكهرباء، رغم النفي الرسمي العراقي لتلك الاتهامات التي وضعت الحكومة في موقف حرج.
وتجد بغداد نفسها في مأزق كبير، فمن جهة تعتمد على الدعم الأمريكي، عسكريًا واقتصاديًا، وتتجنب إغضاب الولايات المتحدة تجنبًا للعقوبات، ومن جهة أخرى تواجه نفوذًا إيرانيًا عميقًا في الساحة السياسية والاقتصادية والأمنية، يجعل من الصعب منع التهريب كليًا خاصة مع تغلغل الفصائل المسلحة الموالية لها، ومن هذا المنطلق هناك من يرى أن الحكومة العراقية تنظر لعمليات التهريب كجزء من “توازنات القوة الداخلية”، وليس مجرد نشاط اقتصادي غير شرعي.
ثمة مؤشرات تذهب باتجاه تأثير تهريب النفط الإيراني عبر البوابة العراقية على العلاقات الثنائية بين واشنطن وبغداد، منها التوتر السياسي والدبلوماسي بين الحين والآخر، إذ دومًا ما توجه الولايات المتحدة انتقادات متتالية للعراق بسبب ضعف الرقابة الحدودية وعدم القدرة على كبح نفوذ المليشيات، علاوة على التهديد الأمريكي الدائم بفرض عقوبات على شركات أو مؤسسات عراقية يُشتبه في مساعدتها لإيران.
وهو ما ألقى بظلاله على منسوب الثقة في العراق كحليف أمريكي إقليمي، حيث زادت شكوك الأمريكيين حول جدية الجمهورية العراقية في الالتزام بالتحالف الأمني والاقتصادي مع واشنطن، ما كان له أثره في المسار التفاوضي بشأن عدد من الملفات الأخرى مثل بقاء القوات الأمريكية، أو الدعم الاقتصادي للعراق من البنك الدولي وصندوق النقد، حيث يمكن أن تربط واشنطن هذه الملفات بمدى التزام بغداد بكبح تهريب النفط.
ويمثل تهريب النفط الإيراني عبر العراق ملفًا شائكًا في العلاقات الأمريكية–العراقية، إذ تعتبره واشنطن تحديًا مباشرًا لعقوباتها على طهران، بينما تجد بغداد نفسها عالقة بين مطرقة الضغوط الأمريكية وسندان النفوذ الإيراني، ومن ثم فإن استمرار الظاهرة مرجح أن يُبقي العلاقات بين البلدين في حالة توتر وعدم ثقة، ويجعل العراق دائمًا مهددًا بخسارة امتيازات اقتصادية ودعم دولي.
في الأخير.. بات واضحًا من تتبع مسار العقوبات الأميركية والشبكات الموازية لتهريب النفط الإيراني عبر العراق أن المواجهة بين واشنطن وطهران لم تعد مقتصرة على ساحات الدبلوماسية أو الميدان العسكري، بل باتت معركة اقتصادية مركبة، تتشابك فيها مصالح دول وشركات وأطراف إقليمية ومحلية.
فبينما تسعى إيران إلى الحفاظ على شرايينها المالية عبر “الاقتصاد الموازي”، ترد الولايات المتحدة بتكثيف العقوبات والضغط على بغداد لتضييق الخناق على هذه الشبكات، وفي ظل تعقيدات المشهد العراقي، وتشابك النفوذ الأميركي والإيراني داخله، يبدو أن ملف تهريب النفط سيظل ورقة مساومة أساسية بين الأطراف الثلاثة، وسيبقي العلاقات الأميركية–العراقية رهينة حالة من الشك والتوتر المستمر.