تتلمّس سوريا طريقها نحو إعادة الإعمار بعد سقوط نظام بشار الأسد، عقب 14 عامًا من حرب دمّرت معظم مقومات البقاء وأرهقت المجتمع، إذ يعيش تسعة من كل عشرة سوريين تحت خط الفقر ويواجهون انعدام الأمن الغذائي، فيما تعطّلت أو دُمّرت 50% من البنية التحتية للبلاد، وأصبح أكثر من ثلاثة أرباع السكان يعتمدون على شكل من أشكال المساعدات الإنسانية.
في ظل هذه الظروف المعقّدة، رفضت الإدارة السورية الجديدة الاستدانة الخارجية من صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، وأحدثت “صندوق التنمية” بمرسوم رئاسي ليكون مشروعًا وطنيًا طويل الأمد، وليس أداة إسعافية، مهمته الأساسية إعادة الإعمار التي تتراوح تكلفتها وفق التقديرات بين 250 و400 مليار دولار أمريكي.
وينطلق الصندوق في 4 من سبتمبر/أيلول الحالي، ويحظى بحشد ودعوات من مسؤولين حكوميين وإعلاميين وناشطين وفنانين للمساهمة في دعم الصندوق لتحقيق تنمية مستدامة، تبدأ من عودة النازحين إلى بلداتهم الأم وصولًا إلى دعم القطاعات الأساسية، في مهمة تحتاج إلى الكثير من الوقت والمال.
في هذا التقرير، نسلط الضوء على “صندوق التنمية” ومهامه وخططه في إعادة الإعمار، ونناقش مع خبراء وباحثين التحديات سواء الداخلية أو الخارجية أمام إعادة الإعمار، وعوامل وشروط نجاح الصندوق.
لا استدانة رغم اتساع الفجوة التمويلية
رغم ضخامة الاحتياجات واتساع الفجوة التمويلية في سوريا، توالى الحديث بعد سقوط النظام السابق، على لسان مسؤولين سوريين عن رفض اتباع سياسة الاستدانة والقروض الخارجية، والاعتماد على آليات وموارد محلية خشية تفاقم الأزمات بدلًا من حلها، وهو ما أكده حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر حصرية قبل خمسة أيام من إحداث “صندوق التنمية”، قائلًا إن الحكومة لن تلجأ إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي.
وشدد حصرية على أن الحكومة تسعى إلى بناء اقتصاد صحي قائم على الإنتاج والصادرات، دون الاعتماد على فوائد مرتفعة أو مغريات استثمارية محفوفة بالمخاطر، مع اعتماد خيار الإصدارات المحلية من الصكوك كأداة تمويل رئيسية، بالتوازي مع استمرار التدفقات النقدية من خلال الاقتراض الداخلي والخارجي لمدة تُقدّر ما بين 15 إلى 20 عامًا.
وتعكس الأرقام والإحصائيات المحلية والدولية حجم الاحتياج في سوريا، وانهيار الاقتصاد وتدهور البنية التحتية وتهالك القطاعات والبيئة، حيث تضررت أو دُمرت الطرق والجسور ومحطات الطاقة ومطاحن الحبوب ومرافق التخزين والمخابز، وعجز السوريون عن الوصول إلى الخدمات الأساسية، بالإضافة إلى خطر الذخائر المتفجرة ومخلفات الحرب المستمرة في تهديد حياة المدنيين.

ولا تزال سوريا واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في العالم حيث يحتاج أكثر من 16 مليون شخص إلى المساعدة الإنسانية، ويعاني 9.1 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي، ويُصنّف سوء التغذية لدى الأمهات وسوء التغذية الحاد لدى الأطفال دون سن الخامسة ضمن حالات الطوارئ العالمية. كما يُقدَّر ما بين 40 إلى 50% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و15 عامًا خارج النظام التعليمي.
ومنذ عام 2011، فقد أكثر من 5.4 مليون شخص وظائفهم، وقفزت معدلات الفقر من 33% إلى 90%، في حين ارتفع الفقر المدقع من 11% إلى 66%، أي ما يعادل ستة أضعاف. وعلى المستوى الاقتصادي، انكمش الناتج المحلي الإجمالي من 62 مليار دولار أمريكي عام 2010 إلى أقل من نصف ذلك اليوم، وسط تقديرات بخسائر إجمالية تتجاوز 800 مليار دولار.
وكانت سوريا تحتل المرتبة 115 على مؤشر التنمية البشرية في عام 2010، وهو ترتيب يقارب مستويات البلدان متوسطة الدخل، إلا أنها تراجعت إلى المرتبة 157 بحلول عام 2024. كما تشير التقديرات إلى أن متوسط النمو السنوي خلال السنوات الخمس الماضية لم يتجاوز 1.3%، وهو ما يعني أن استعادة مستويات ما قبل الحرب قد تستغرق 55 عامًا ما لم يتحقق تسارع كبير في وتيرة التعافي الاقتصادي.
ولا تتوفر أرقام دقيقة عن حجم الدمار الذي طال قطاع الإسكان في سوريا، إلا أن التقديرات تشير إلى تدمير نحو 328 ألف منزل بشكل كامل من أصل 5.5 ملايين منزل كانت موجودة في البلاد عام 2010.
“تكاتف اجتماعي رغم المأساة”.. مشاهد للدمار في مدينة #داريا بريف دمشق. pic.twitter.com/9OaqM4BdH4
— نون سوريا (@NoonPostSY) September 2, 2025
ويُقدَّر أن منزلًا واحدًا من بين كل ثلاثة منازل قد دُمّر أو تضرر خلال سنوات النزاع، ما يترك نحو 5.7 ملايين شخص في حاجة إلى دعم في مجال المأوى، بحسب عبد الله الدردري، مساعد مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومدير المكتب الإقليمي للدول العربية.
وبلغ عدد النازحين داخليًا في سوريا حوالي 7.4 مليون شخص بنهاية عام 2024، وبدأت عودتهم تدريجيًا إلى مناطقهم الأصلية بعد سقوط نظام بشار الأسد، حيث عاد أكثر من 1.7 مليون نازح، منهم ما يزيد عن 880 ألف فرد غادروا مواقع النازحين داخليًا في الشمال السوري.
ما خطة الصندوق ومصادر تمويله؟
في 9 من يوليو/تموز الماضي، أصدر الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، مرسومًا يقضي بإحداث مؤسسة ذات طابع اقتصادي، بمسمى “صندوق التنمية“، ويعد كيانًا من كيانات المجلس الأعلى للتنمية الاقتصادية. والهدف الأساسي منه قيادة عملية إعادة الإعمار وتأهيل البنية التحتية، وإحداث تنمية مستدامة في الاقتصاد السوري، وتوظيف الموارد والطاقات المحلية والدولية لخدمة هذا الهدف.
يتمتع الصندوق بالاستقلالية المالية والإدارية، ويرتبط برئاسة الجمهورية، ويعمل على تحديد لوائح تنظيمية واضحة، تشمل سياسات التمويل والصرف والاستثمار، وضمان الشفافية من خلال آليات رقابية عن طريق شركات حسابية حيادية لتدقيق المراجعات المالية الدورية للصندوق.
ويعتمد الصندوق على موارد أساسية ومصادر تمويل متعددة، وهي بحسب نص المرسوم ومدير عام الصندوق، صفوت رسلان:
- التبرعات الفردية من السوريين داخل سوريا وخارجها، وتبرعات من مؤسسات سورية أو غير سورية، أو تمويل حكومي.
- التبرعات الدورية عبر برنامج “المتبرع الدائم” والذي يتيح اشتراكات شهرية ثابتة.
- الإعانات والهبات والتبرعات التي يقبلها الصندوق وفق القوانين والأنظمة النافذة.
- شراكات مع صناديق تنمية مشابهة في العالم “صناديق صديقة”.
ويقول مدير عام “صندوق التنمية“، صفوت رسلان، إن أبرز أولويات الصندوق إنهاء واقع المخيمات، ثم إعادة الإعمار وتأهيل البنية التحتية من كهرباء وشبكة مياه ومدارس وقطاع الصحة، مضيفًا أن القائمين على الصندوق يجرون مسحًا كاملًا للاحتياجات الأساسية عبر تنسيق مباشر مع المحافظات والوزارات، مع الاستناد إلى الأرقام المتوفرة من جهات محلية ومنظمات دولية، مؤكدًا أن الاحتياجات هائلة وتتراوح من 250 مليار دولار إلى 300 مليار دولار لإعادة البناء، حسب قوله.
ورغم عدم بدء العمل التشغيلي لصندوق التنمية، توجد جملة من التحديات وفق رسلان، من أبرزها الصعوبات المتعلقة بآليات إيصال الأموال من المتبرعين في الخارج إلى الداخل، إذ إن رفع العقوبات لم يُزل بالكامل العقبات المالية، حيث لا تزال بعض المصارف تمتنع عن تنفيذ التحويلات الخارجية، ما يعرقل تدفق الدعم المطلوب.
وتُبذل الجهود لتجاوز هذه العوائق بالتنسيق مع القطاع المصرفي السوري، كما يواجه الصندوق تحديات لوجستية مرتبطة بالبنية التحتية المتضررة، بما في ذلك مبانٍ حكومية متهالكة تُستخدم حاليًا في تسيير أعمال الصندوق.
ويؤكد رسلان بأن القائمين على الصندوق يعملون على خلق بيئة شفافة وتعزيز الثقة والرقابة، مضيفًا أن آليات وعملية التمويل قائمة على التبرعات غير المشروطة، وهي تبرعات موجهة إلى بناء تنمية مستدامة، بدون شروط أو محددات تُخلُ باستقلالية الصندوق والقرار السوري، معتبرًا أن الصندوق ليس أداة إسعافية، إنما مشروع وطني طويل الأمد و”للمستقبل البعيد جدًا”.
وزير الطوارئ وإدارة الكوارث، رائد الصالح، اعتبر أن الصندوق هو الأول من نوعه في البلد، وقائم على أبناء سوريا، لتنفيذ مشاريع متعلقة بالتنمية والاستدامة للمناطق المدمرة، وعلى رأس الأولويات بناء نظام إنذار مبكر ومراكز للدفاع المدني وإدارة الطوارئ في المحافظات السورية، لتكون أكثر قدرة على الاستجابة وأكثر قربًا من الناس.
أما وزير التربية، عبد الرحمن تركو، فاعتبر أن انطلاق الصندوق سيلعب دورًا كبيرًا في دعم مختلف مجالات التنمية المستدامة ومنها قطاع التعليم، خاصةً إعادة بناء المدارس المدمّرة في سوريا.
ويرى المحاضر في كلية الاقتصاد بجامعة “غازي عينتاب” بريف حلب، صلاح الدين الجاسم، أنه لا يمكن اعتبار إنشاء الصندوق بديلًا كاملًا عن الاستدانة من الخارج، إذ إن الفجوة التمويلية الهائلة التي تتطلبها عملية إعادة الإعمار تتجاوز بكثير ما يمكن أن توفره التبرعات الفردية أو الشراكات المحدودة.
ويقول الجاسم في حديثه لـ”نون بوست” إن الصندوق يشكل أداة مكملة تهدف إلى تقليل الاعتماد على القروض الخارجية، وتعزيز التمويل المحلي والذاتي بما يحافظ على القرار الاقتصادي السيادي.
دعوات وتقديرات تحيط بإعادة الإعمار
تعرِّف الأمم المتحدة إعادة الإعمار بأنها إعادة البناء والترميم المستدام على المدى المتوسط والطويل للبنى التحتية الحيوية المرنة والخدمات والإسكان والمرافق وسبل العيش المطلوبة للأداء الكامل للمجتمع أو المجتمع المتضرر من الكارثة، بما يتماشى مع مبادئ التنمية المستدامة و”إعادة البناء بشكل أفضل”، لتجنب أو تقليل مخاطر الكوارث في المستقبل.
مع أن التعريف يضع إطارًا عامًّا، إلا أن التقديرات المالية ظلت متباينة، فمثلًا في عام 2017، قدّرت الأمم المتحدة تكلفة إعادة إعمار سوريا بنحو 250 مليار دولار أمريكي، ويقول بعض الخبراء إن الرقم قد يصل إلى 400 مليار دولار.
وفي تقديرات أخرى أكثر تفصيلًا في عام 2018، قدّر خبراء “الاسكوا” حجم الدمار في رأس المال المادي وتوزيعه القطاعي في سوريا عام بأنه يتجاوز 388 مليار دولار أمريكي، بينما قاربت التكلفة المادية الفعلية للدمار 120 مليار دولار. ولا تشمل هذه الأرقام الخسائر البشرية الناجمة عن الوفيات أو فقدان الكفاءات البشرية والعمالة الماهرة بسبب النزوح، والتي تُعتبر من أهم مقومات الاقتصاد السوري.
وفي مارس/ آذار الماضي، قدّر رئيس مركز “حرمون للدراسات”، سمير سعيفان، تكلفة إعادة الإعمار المادي في سوريا بـ150 مليار دولار، لافتًا إلى وجود تكاليف أخرى لإعادة الإعمار المجتمعي، من جهود وحوارات مع الناس لإعادتهم إلى بيوتهم.
في المقابل، لا تزال المؤشرات الميدانية تعكس واقعًا معقّدًا، فرغم دخول سوريا حقبة جديدة في عام 2025، إلا أن الأزمة الإنسانية لم تنتهِ، إضافة إلى ظروف أمنية متوترة في بعض المناطق السورية، وشبه جفاف تشهده سوريا، وهو الأسوأ منذ أكثر من 36 عامًا، وله آثار مدمرة على الأمن الغذائي والحصول على المياه ومخاوف الصحة العامة ذات الصلة.
ومنذ سقوط نظام الأسد، توالت الدعوات المحلية والدولية والأممية للبدء بإعادة الإعمار في سوريا على اعتبارها لحظة مفصلية، أحدثها من نائبة المفوض السامي لشؤون اللاجئين لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، كيلي كليمنتس، التي طالبت المجتمع الدولي بتقديم الدعم لإنهاء نزوح ملايين السوريين، قائلة إن المجتمع الدولي يجب أن يلعب دورًا فعالًا في دعم جهود الاستقرار والتعافي، ومساعدة السوريين على إعادة بناء بلدهم وإعادة تشكيله.
وفي مارس/ آذار الماضي، وجّهت الأمم المتحدة نداء إلى المجتمع الدولي بغية التحرك العاجل للاستثمار في إعادة إعمار سوريا وتنميتها، مشددة على أن توسيع الخدمات أمرًا ضروريًا لتحقيق ذلك، مشيرة إلى أن 3.5 مليون نازح ولاجئ مستعدون للعودة إلى ديارهم في العام المقبل، شريطة أن تتوفر لهم الأساسيات من المأوى والكهرباء والمياه والصرف الصحي والتعليم والعمل.
تعقيدات العقوبات وتحديات الداخل
شهدت سوريا مؤخرًا زوالًا تدريجيًا لبعض العقبات الخارجية والضغوط الاقتصادية، من بينها تسديد قطر والسعودية ديونًا مستحقة لدى البنك الدولي تبلغ نحو 15 مليون دولار أمريكي، بالإضافة إلى رفع أو تعليق العقوبات الغربية عن قطاعات رئيسة في الاقتصاد السوري مثل النفط والخدمات المصرفية والتجارة، ما يهيئ البلاد لاستقبال عمليات إعادة الإعمار والاستثمار.
ويشير خبراء وباحثون إلى أن التعقيدات الإدارية في رفع بعض العقوبات، خاصة الأمريكية منها، لا تزال تشكّل أحد أبرز العوائق أمام إعادة شاملة للإعمار، لأن العقوبات معقدة ومتعددة الأوجه، وتنقسم إلى نوعين رئيسيين، تشريعية يصدرها الكونغرس، مثل “قانون قيصر” الذي لا يمكن للرئيس الأمريكي إلغاؤه بمفرده، ويتطلب موافقة الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ، وتنفيذية تعتمد على أوامر رئاسية.
وفي 13 من مايو/ أيار الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن قراره رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا في عهد النظام السابق، خلال كلمة له في منتدى “الاستثمار السعودي الأمريكي” في الرياض، قائلًا “آن الأوان لمنح سوريا الفرصة، وأتمنى لها حظًا طيبًا”.
بعد ذلك، صدرت عدة تراخيص أمريكية بشأن العقوبات على سوريا وإعفاءات تهدف لتسهيل إدخال المساعدات الإنسانية، وضمان عدم إعاقة العقوبات للخدمات الأساسية، بما في ذلك توفير الكهرباء والطاقة والمياه والصرف الصحي، أحدثها إعلان وزارة الخزانة الأمريكية إزالة لوائح العقوبات المفروضة على سوريا من مدونة القوانين الفيدرالية.
بعد أكثر من عقد على الحرب، لا تزال #سوريا تحاول لملمة اقتصادها المنهك. الخصخصة تتسارع، الفقر يتعمّق، والاستثمارات الأجنبية تدخل من بوابة الغموض. فهل ما يحدث هو إعادة إعمار… أم إعادة توزيع؟ pic.twitter.com/FziOZ4P5zn
— نون سوريا (@NoonPostSY) August 5, 2025
رغم هذه التطورات، لا تزال بعض العوائق البنيوية قائمة، بحسب مختصين، إذ يرى بنجامين فيف، وهو باحث ومحلل أول في شركة “كرم شعار” للاستشارات، أنه حتى بعد تعليق معظم العقوبات الأمريكية والأوروبية في عام 2025، يبقى القطاع المصرفي السوري أحد أكبر العوائق أمام إعادة الإعمار. فقد تم فصل معظم المصارف السورية عن الأنظمة المالية الدولية منذ سنوات طويلة، وهي بعيدة عن تلبية معايير الامتثال العالمية.
ويقول فيف لموقع “نون بوست” إن هذا العزل جعل المصارف جهات عالية المخاطر، إذ تنظر المصارف الدولية إليها على أنها غير موثوقة ومعرّضة لاحتمال التورط في غسل الأموال أو خرق أنظمة العقوبات. ومن دون إصلاحات جادة لاستعادة الامتثال وبناء الثقة، سيبقى اندماج القطاع المالي السوري في النظام العالمي صعبًا، مما يحد من تدفق رأس المال والاستثمارات والمساعدات.
أما العائق الثاني من وجهة نظر الباحث فيف، فيتمثل في الغموض القانوني المحيط بالعقوبات الأميركية. فعلى الرغم من تعليق بعض بنود “قانون قيصر”، إلا أن القانون لا يزال قائمًا ويحتفظ بحساسيته السياسية في واشنطن.
ويضيف أن النقاشات في الكونغرس قد تؤدي إلى تعقيد أو حتى تأخير إلغاء “قانون قيصر” بشكل كامل. ورغم أن القانون صُمّم أساسًا لاستهداف نظام الأسد، لا السلطات الحالية، إلا أن بقاؤه قائمًا يردع الشركات عن الانخراط في السوق السورية.
وبالنسبة للمستثمرين المتحفظين، فإن مجرد احتمال إعادة تفعيل العقوبات يكفي لإحداث أثرٍ مثبّط، ويعزّز الانطباع بأن ممارسة الأعمال في سوريا ما زالت محفوفة بمخاطر قانونية وسمعة غير محسومة، وفق الباحث.
من جانبه، يرى المحاضر في كلية الاقتصاد بجامعة “غازي عينتاب”، صلاح الدين الجاسم، أنه في حال تمكن الصندوق من تأمين المبالغ المطلوبة، فإن عملية إعادة الإعمار ستواجه عقبات بنيوية معقدة تتجاوز مسألة التمويل، إذ إن استمرار العقوبات الدولية يعيق وصول التقنيات والمواد الأساسية.
ويقول الجاسم لـ”نون بوست” إن غياب بيئة سياسية وأمنية مستقرة يحد من ثقة المستثمرين ويعرقل تدفق رأس المال، إضافة إلى التحديات المؤسسية المرتبطة بضعف الكفاءة الإدارية وانتشار الفساد، وما يترتب على ذلك من هدر للموارد وتأخير في التنفيذ.
ويضيف الخبير الاقتصادي أن إعادة الإعمار تتطلب معالجة التفاوتات بين المناطق لضمان عدالة توزيع المشاريع، ومنع نشوء أزمات اجتماعية جديدة، فضلًا عن الحاجة الماسة إلى إعادة بناء رأس المال البشري الذي تضرر بفعل النزوح والهجرة، وهو ما يجعل الإصلاح المؤسسي والسياسي شرطًا مكملًا للتمويل، كي تتحول الموارد المتاحة إلى نتائج تنموية ملموسة ومستدامة.
نجاح الصندوق مرهون بعدة شروط
يعد “صندوق التنمية” خطوة غير مسبوقة في سياق العمل المؤسسي داخل البلاد، رغم وجود مبادرات فردية وتبرعات محلية ومؤسسية على مدى السنوات الماضية، إلى جانب مساهمات مانحين دوليين خصصوا أموالًا لدعم قطاعات ومشاريع محددة في سوريا. غير أن نجاح هذا الصندوق، وفقًا لخبراء، يظل مرهونًا بعدة شروط ومعايير تنفيذية ومؤسسية.
ويقول الخبير الاقتصادي صلاح الدين الجاسم لـ”نون بوست” إن نجاح الصندوق يتوقف على قدرته على جذب استثمارات منتجة، وتوسيع قاعدة موارده عبر شراكات تنموية مبتكرة، الأمر الذي يجعله آلية داعمة وفاعلة، لكن غير كافية وحدها لتغطية كامل الاحتياجات.
وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني: “إعادة إعمار #سوريا لن تفرض من الخارج، بل من قبل الشعب السوري، ونرحب بكل مساهمة في هذا المجال”.@AsaadHShaibani pic.twitter.com/41Tnrdoad1
— نون سوريا (@NoonPostSY) May 31, 2025
وتُظهر تجارب الدول التي أنشأت صناديق تنمية مخصّصة لإعادة الإعمار أن نجاح هذه الصناديق يتطلب قبل كل شيء إطارًا مؤسسيًا راسخًا يقوم على الشفافية والحوكمة الرشيدة، بما يضمن ثقة المساهمين والمستثمرين، إضافة إلى وجود آليات رقابية مستقلة قادرة على محاسبة القائمين على إدارة الموارد وتوجيهها نحو أولويات واضحة وذات جدوى اقتصادية واجتماعية، وفق الجاسم.
ويضيف أن النجاح يرتبط بقدرة الصندوق على توظيف موارده في مشاريع إنتاجية تخلق قيمة مضافة وفرص عمل وتؤمن استدامة مالية، إلى جانب الانفتاح على شراكات إقليمية ودولية تتيح تبادل الخبرات وجذب الاستثمارات، مشددًا على أن الاستقرار السياسي والأمني يظل شرطًا بنيويًا لا غنى عنه، لأنه يمثل البيئة الحاضنة التي تسمح لرأس المال المحلي والخارجي بالمساهمة الفاعلة في عملية إعادة الإعمار.
من جانبه، يرى الباحث بنجامين فيف أن نجاح الصندوق يبقى غير مؤكد، لأن إعادة الإعمار الشاملة في سوريا تتطلب أكثر من 400 مليار دولار، في حين أن الفقر واسع الانتشار، والواقع يحد من قدرة السوريين على تقديم مساهمات محلية.
ويقول فيف لـ”نون بوست” إن قدرة الصندوق على جذب التبرعات الخارجية تعتمد ليس فقط على الثقة الدولية التي كثيرًا ما تقوّضها المخاوف من الفساد وضعف الرقابة، بل أيضًا على الأمن، ففي غياب بيئة مستقرة، سيتردد المستثمرون والمانحون في الالتزام بتقديم الموارد، مما يجعل الصندوق عرضةً لهشاشة الوضع العام في البلاد.
ولكي يؤدي الصندوق دورًا فعّالًا، يرى الباحث بنجامين ضرورة توفر خمسة شروط هي:
- الشفافية والحَوْكَمة السليمة من خلال رقابة مستقلة وتقارير دورية.
- تعزيز التمويل الدولي عبر شراكات مع صناديق التنمية العالمية، وخاصة في مجال البنية التحتية.
- الاستقرار السياسي والأمني لطمأنة المستثمرين.
- دمج الصندوق في إصلاحات اقتصادية أوسع تشمل مكافحة الفساد وتقوية القطاع المالي.
- التعاون النشط مع منظمات مثل الأمم المتحدة لتوجيه المساعدات ودعم عودة اللاجئين.
وحتى في حال تحققت هذه الشروط، فلن يكون الصندوق قادرًا بمفرده على تلبية الاحتياجات الهائلة لإعادة إعمار سوريا، بل سيكون مكملًا لجهد دولي واسع النطاق، وفق فيف.