تسارعت الخطوات الإسرائيلية نحو ضم الضفة الغربية رسميًّا، في سياق ممتد من السياسات التي تبنتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، والتي تهدف إلى تعزيز المشروع الاستيطاني وابتلاع المزيد من الأراضي الفلسطينية. وقد اتخذت هذه السياسات أحيانًا شكل قرارات معلَنة، لكنها غالبًا ما تم تمريرها ضمن خطوات عملية غير مُعلَنة.
منذ تشكيل الحكومة اليمينية الحالية في “إسرائيل”، تصدر غلاة المستوطنين المشهد السياسي، وتضمنت الاتفاقات الائتلافية بنودًا واضحة تضمن رفع وتيرة الاستيطان إلى أقصى حدودها، بل وتجاوز القيود المحدودة التي فرضتها حكومات سابقة على بعض الإجراءات الاستيطانية.
وعلى الرغم من أن فكرة ضم الضفة ليست جديدة، فإن خطواتها العملية بقيت مُعلَّقة منذ ولاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، حين تم ربط “إعلان” تجميدها آنذاك بتمهيد الطريق أمام اتفاق التطبيع الإماراتي – الإسرائيلي برعاية واشنطن.
اليوم يعود الملف إلى طاولة القرار الإسرائيلي بقوة، بعدما تعهَّد وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش أن يكون العام 2025 “عام السيادة على الضفة الغربية”. وترافق ذلك مع إجراءات متسارعة يشرف عليها مباشرة من خلال صلاحياته في وزارة الحرب، فيما يظل الموقف الأمريكي متسمًا بالصمت الإيجابي إزاء هذه التحركات. وينحصر الجدل الداخلي الإسرائيلي في حدود الضم وشكله، لا في مبدئه أو مشروعيته.
تقويض إمكانية الدولة الفلسطينية
تنطلق الاستراتيجية الإسرائيلية من فرضية جوهرية مفادها أنه لن تُكتَب حياة لأي كيان فلسطيني مستقبلي إلا إن توفرت له وحدة جغرافية متماسكة، وهو ما تعمل “تل أبيب” على تقويضه تقويضًا منهجيًّا عبر سياسات الاستيطان والضم. فالآلة الاستيطانية لم تكتفِ بابتلاع الأرض، بل سعت إلى تقسيم الضفة الغربية وتحويلها إلى “كانتونات” معزولة، بما ينزع عن الفلسطينيين أي إمكانية لقيام دولة ذات سيادة.
ومنذ وصول اليمين الصهيوني إلى الحكم بزعامة حزب “الليكود”، انتقل الاستيطان من كونه ذريعة أمنية في العقود الأولى لقيام “إسرائيل” إلى مشروع عقائدي وديني يستند إلى مبررات تاريخية وسياسية.
ركز هذا المشروع على السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي، لا سيما المرتفعات الاستراتيجية، وتوفير عمق جغرافي وبشري يُكرِّس الهيمنة الإسرائيلية في الضفة. إذ تجلت هذه السياسة في بُعدين متوازيين:
-
الأول: التغلغل داخل المناطق الفلسطينية المأهولة لخلق فواصل استيطانية تعزل المدن والبلدات عن بعضها.
-
الثاني: توسيع رقعة البؤر الاستيطانية العشوائية التي تتحول بسرعة إلى كتل مترابطة، ما يعني عمليًّا السيطرة على المساحات الفارغة والمرتفعات وتحويلها إلى جدار بشري يقسم الضفة إلى جزر منفصلة.
هكذا تكثَّف الاستيطان في القدس ومحيطها، وجنوبي الخليل، وعلى طول المرتفعات الشرقية والغربية، وفق رؤية أريئيل شارون الذي عدَّ الكتلة الفلسطينية الكثيفة والمتماسكة تشكِّل تهديدًا للتوسع الاستيطاني.
ومع مرور العقود، تحولت المستوطنات إلى ظاهرة بنيوية، إذ باتت تسيطر على نحو 42% من مساحة الضفة، فيما ابتلعت المستوطنات 68% من أراضي المنطقة “ج”، وهي المنطقة الأغنى بالموارد الطبيعية والغابات والطرق الحيوية.
وبموازاة ذلك، جرى تفتيت المجتمعات والأسواق الفلسطينية، ومنع أية إمكانية لتحقيق تنمية اقتصادية أو اجتماعية، في خرق فاضح لحقوق الإنسان، وتحويل فكرة “الدولة الفلسطينية” إلى مجرد وهم سياسي.
ولم تُوقف أيةُ حكومة إسرائيلية هذا المسار، حتى في ظل اتفاقيات “أوسلو” التي كان يُفترض أن تمهِّد تدريجيًا نحو إقامة دولة فلسطينية عبر مفاوضات الحل النهائي، وهو ما يعني إيجاد حلول فعلية للأراضي التي يُسيطر عليها الاستيطان.
“بنرفض نترك أرضنا تحت أي ظرف”.. فلسطينيون من الضفة الغربية يرفضون المشروع الاستيطاني “E1” الذي يهدد بتهجيرهم وعزل منطقتهم عن شرق القدس المحتلة. pic.twitter.com/hl5FSGqiaz
— نون بوست (@NoonPost) August 21, 2025
وأما الحقائق على الأرض فتروي قصة مغايرة تمامًا، فقد تضاعف عدد المستوطنات أربع مرات منذ 1992، إذ كانت في الضفة 172 مستوطنة يقطنها 248 ألف مستوطن، ليتجاوز العدد 444 مستوطنة وبؤرة يعيش فيها نحو 950 ألف مستوطن مع نهاية 2023. وأما الائتلاف الحكومي الحالي فقد رفع وتيرة الاستيطان إلى أقصى درجاتها، بدءًا من تعديل “قانون فك الارتباط” لإعادة الاستيطان في شمالي الضفة، وصولًا إلى إحياء مخطط E1 الذي يقسم الضفة إلى نصفين ويحوِّل المدن الفلسطينية إلى جزر معزولة بلا تواصل جغرافي.
وفي تعبير صريح عن الهدف النهائي، قال بتسلئيل سموتريتش إنه “لا تُمحى الدولة الفلسطينية عن الطاولة بالشعارات، بل بالأفعال”، ملخِّصًا بذلك جوهر المشروع الاستيطاني؛ وهو إعدام أية إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقبلًا.
إجراءات الضم تمضي.. ما الخلاف إسرائيليًّا؟
يقوم مشروع الضم على أساس أن “إسرائيل” ستتعامل مع الضفة الغربية بصفتها جزءًا من أراضيها السيادية، بحيث تُطبَّق عليها القوانين الإسرائيلية، دون منح الفلسطينيين حقوقًا متساوية، فلا تصويت ولا ترشُّح ولا حتى حرية تنقُّل بين المدن دون تصاريح أمنية من جيش الاحتلال.
وعلى الرغم ن أن الإجراءات على الأرض تُترجَم ابتلاعًا ممنهجًا للضفة وإعدامًا لوحدتها الجغرافية، بما ينسجم مع خطط اليمين الصهيوني الساعية إلى تفريغ الضفة أو تحويل من تبقَّى من الفلسطينيين إلى سكان معزولين في معازل جغرافية محكومة بترتيبات عشائرية، فإن “رسمنة” هذا الواقع بالضم الرسمي ما يزال محل جدل داخل الحكومة الإسرائيلية، لا من حيث المبدأ، بل من حيث التوقيت والحجم.
تقرير لموقع “واللا” العبري أشار إلى وجود إجماع داخل الحكومة على “الرغبة في بسط السيادة على الضفة”، لكن الخلاف يتمحور حول ما إذا كان الإعلان ينبغي أن يكون ردًّا على توجهات دولية للاعتراف بدولة فلسطينية، أم خطوة أيديولوجية خالصة.
وفيما يُصر بتسلئيل سموتريتش على أنه يجب أن يُطرح الضم بوصفه مسألة أيديولوجية بحتة، يواصل بنيامين نتنياهو المماطلة بانتظار وضوح الحدود المقبولة أمريكيًّا.
صحيفة “معاريف” العبرية ذكرت أن نتنياهو وجَّه وزراءه بالامتناع عن الحديث علنًا بشأن فرض السيادة، خشية إرباك الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ودفعه إلى التراجع عن دعمه الصامت للخطة، وأفادت الصحيفة بأن اجتماعات حكومية كان مقررًا عقدها لمناقشة الضم أُجِّلت دون إعلان أسباب واضحة، ما يعكس حساسية النقاشات خلف الكواليس.
قرار مفاجىء.. #ترامب يوقع على إلغاء عقوبات فرضتها إدارة #بايدن على مستوطنين إسرائيليين في الضفة الغربية، وسط ترحيب من اليمين المتطرف الإسرائيلي. pic.twitter.com/7kogCPErKf
— نون بوست (@NoonPost) January 21, 2025
في المقابل، صعَّد سموتريتش خطابه، معلنًا أن “إسرائيل” تعتزم ضم 82% من الضفة الغربية، داعيًا نتنياهو إلى اتخاذ “قرار تاريخي” يكرِّس الضم أمرًا واقعًا. وأكد في مؤتمر صحفي مع قادة المستوطنين أن ثمة إجماعًا إسرائيليًّا على رفض الدولة الفلسطينية، مضيفًا: “بعد السابع من أكتوبر، لا أحد تقريبًا يعتقد أن “إسرائيل” يمكن أن تسمح بقيام عشرين نسخة من غزة في الضفة”.
ورأى أن فرض السيادة على الضفة لن يكون فقط ضمانًا لمنع الدولة الفلسطينية، بل أداة للحفاظ على “الأغلبية اليهودية” من خلال قاعدة واضحة: “أقصى مساحة وأقل عدد من السكان”. وختم موجِّهًا كلامه إلى نتنياهو: “ستُسجَّل في كتب التاريخ كقائد عَرف كيف يغتنم اللحظة ويُنقذ إسرائيل من خطر تقسيم الأرض ومن التهديد الوجودي المسمى الدولة الفلسطينية”.
الموقف الأمريكي.. السكوت علامة الرضا!
ما يزال الموقف الأمريكي حيال النوايا الإسرائيلية لضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية يتسم بالغموض، وإن كانت حكومة الاحتلال تراهن على ما هو أكثر من “الصمت الإيجابي” لإدارة دونالد ترامب، وتطمح إلى انتزاع دعم سياسي واعتراف رسمي بالسيادة الإسرائيلية على الضفة، كما حدث في ملفَّي القدس والجولان.
وعلى الرغم من إصرار بتسلئيل سموتريتش على أن الدعم الأمريكي للضم واضح، مستشهدًا بما قاله دونالد ترامب عن ضيق مساحة “إسرائيل” وعدم كفايتها للحماية من التهديدات الأمنية والصاروخية، فإن الواقع يشير إلى محادثات سرية مكثفة يقودها بنيامين نتنياهو عبر وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر مع البيت الأبيض، ووزير الخارجية جدعون ساعر مع السيناتور ماركو روبيو، بهدف الوصول إلى صيغة ضم “مريحة” تحظى بقبول الحزبين الجمهوري والديمقراطي، حتى لا يُبطَل القرار في حال تغيّرت الإدارة الأمريكية.
📌 منذ 7 أكتوبر، قتلت “إسرائيل” 1000 فلسطيني في #الضفة_الغربية.
📌 “إسرائيل” صادرت أراضي أكثر في 2024 مما فعلته خلال 20 سنة.
📌 توزيع أسلحة ودمج المستوطنين في قوات الاحتلال الإسرائيلية مما زاد من عنفهم ضد القرى الفلسطينية.
📌 مخيمات جنين وطولكرم ونابلس تتعرض لهجمات يومية، مع… pic.twitter.com/Sp8tBMer6T
— نون بوست (@NoonPost) July 4, 2025
مصادر سياسية أكدت أن نتنياهو يسعى إلى تمرير قانون ضم لا يبدو راديكاليًّا، ويركِّز على غور الأردن والمناطق الأقل كثافة سكانية بوصفها أوراقًا يمكن تسويقها باعتبارات أمنية. في المقابل، يضغط سموتريتش في اتجاه خطوات أوسع تشمل أجزاء واسعة جدًّا من الضفة، عادًّا أي تأجيل أو تردد يمنح فرصةً لمشاريع الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية.
تسريبات لموقع “أكسيوس” الأمريكي كشفت أن ديرمر وساعر أبلغا مسؤولين أوروبيين بأن “إسرائيل” ستضم مناطق “ج”، التي تشكل نحو 60% من الضفة، إذا مضت بعض الدول في الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وأكد ديرمر لمستشارة الرئيس الفرنسي أن هذه الخطوة قادمة، فيما ربطت المصادر حجمها وتوقيتها بموقف البيت الأبيض.
وفي السياق ذاته، قال السفير الأمريكي في “إسرائيل”، مايك هاكابي، إن إدارة ترامب لم تحسم موقفها بعد، مشيرًا إلى نقاشات إسرائيلية داخلية تتراوح بين الضم الجزئي للمستوطنات والضم الكامل للضفة الغربية.
ونقلت شبكة “سي إن إن” عن مسؤولين إسرائيليين أن نتنياهو يدرس بدائل تمتد من الضم الكامل حتى الضم الجزئي مع فرض عقوبات على السلطة الفلسطينية، ما يعكس تباينًا داخل حكومة الاحتلال نفسها.
تكشف هذه المعطيات أن الخلاف الإسرائيلي- الأمريكي لا يدور حول مبدأ الضم بحد ذاته، بل حول حجمه وتوقيته، وكيفية إخراجه سياسيًّا بما يخدم حسابات واشنطن الإقليمية، خاصةً في ملف التطبيع مع السعودية، إذ تُصرُّ الرياض على مسار سياسي يقود إلى دولة فلسطينية.
وفي المحصلة، يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام اندفاعة صهيونية غير مسبوقة تسعى إلى استغلال لحظة الضعف العربي والصمت الدولي، من أجل تصفية أي أفق لإقامة دولة فلسطينية، وتحويل القضية برمَّتها إلى ملف مغلق بغطاء أمريكي وتواطؤ عالمي.