مع بداية كل موسم دراسي في المغرب، يتجدد النقاش حول أعطاب المنظومة التعليمية التي يبدو أنها أعطاب مزمنة، فعلى الرغم من توالي المشاريع الإصلاحية التي رُصدت لها ميزانيات ضخمة، وتعيين لجان ملكية وحكومية تتناوب على صياغة “رؤى استراتيجية”، إلا أن الواقع يبقى هو نفسه منذ عقود: مدارس متهالكة، مستويات ضعيفة، هدر مدرسي متفاقم، وأجيال تُدفع إلى سوق العمل وهي عاجزة عن مواكبة رهانات التنمية، ليتموقع التعليم بذلك في ذيل التصنيفات الدولية.
ومنذ استقلال المغرب إلى “القانون الإطار” لسنة 2019، يبدو أن ما يُسوّق كمشاريع إصلاحية غالبًا ما يتحول إلى حلقات جديدة في مسلسل إطالة عمر الأزمة، حتى صار سؤال الإرادة السياسية مطروحًا بحدة، فهل الهدف فعلًا هو إصلاح التعليم، أم الإبقاء عليه في حالة عجز مُدبَّر يخدم فئات محددة؟
المحطات الكبرى “للإصلاح”
من الأدلة البارزة على فشل الإصلاحات التي تستهدف التعليم في المغرب، أن ما كتبه المفكر محمد عابد الجابري في كتابه “أضواء على مشكلة التعليم في المغرب” منذ سنة 1973، ما زال مرجعا يمكن الاستعانة به اليوم.
قبل فرض الحماية الفرنسية على المغرب عام 1912، كانت البنية التعليمية في البلاد تقليدية، حيث كانت تعتمد أساسا على الكتاتيب القرآنية والمدارس العتيقة المرتبطة بالزوايا والمساجد، والتي ركّزت على تحفيظ القرآن والعلوم الشرعية، لكنها عجزت عن ملاحقة التحولات المعرفية والعلمية التي عرفها العالم في القرن التاسع عشر.
ومع دخول الاستعمار، أُدخلت “المدرسة الحديثة”، ليس لتثقيف المغاربة أو النهوض بوعيهم، وإنما لتكوين نخبة محدودة تخدم الإدارة الاستعمارية وتساعدها على بسط السيطرة. منذ تلك اللحظة، وُلد التعليم المغربي مشطورًا إلى نصفين، الأول عبارة عن مدرسة تقليدية تحمل إرث الماضي، والثاني مدرسة حديثة صُممت على مقاس المستعمر، لتنشأ هوة اجتماعية وثقافية لم تلتئم إلى اليوم.
بعد حصول المغرب على الاستقلال عام 1956، صار التعليم ورشًا استراتيجيًا لبناء الدولة الوطنية، فرُفعت شعارات كثيرة على غرار “التعميم” و”التعريب” و”المغربة”، خاصة مع اللجنة الملكية التي أُسست سنة 1957، واصطدمت بواقع هشاشة البنية التحتية ونقص الأطر التربوية، وسيطرة الإرث الاستعماري على المناهج والإدارة.
ونتيجة لفشله في تسديد ديونه لمؤسسة صندوق النقد الدولي، وضع المغرب سنة 1983 برنامج “التقويم الهيكلي”، فكان من نتائجه أن جميع الإصلاحات التعليمية التي جاءت بعد ذلك كان هدفها الأول هو تقليص ميزانية القطاع.
ومع توالي العقود، أطلقت الدولة مشاريع كبرى أبرزها “الميثاق الوطني للتربية والتكوين” سنة 1999 الذي بُشّر به كـ”منقذ” من رداءة المدرسة، وكان من أهدافه إصلاح نظام التعليم بالمغرب لجعله متوافقًا مع متطلبات العصر ومتطلبات الهوية الوطنية والدينية، وتعزيز الجودة والإنصاف وتعميم التمدرس، بالإضافة إلى ربط التعليم بسوق الشغل وتنمية الكفاءات الفردية والمجتمعية، وغيرها من الأهداف التي يبدو أنها لم تجد بعد طريقها إلى التحقق، وهو ما أكده تقرير المجلس الأعلى للتعليم الذي خلص إلى وجود بون شاسع بين ما تم التخطيط له وما تم تحقيقه.
ثم بعد ذلك جاءت “الرؤية الاستراتيجية 2015-2030” لتُعلن عن إصلاح عميق يعالج أعطاب الميثاق، قبل أن يتبنى البرلمان “القانون الإطار” سنة 2019، باعتباره أول تشريع ملزم للإصلاح.
لكن الملاحظ أن كل هذه المشاريع تسير إلى النتيجة ذاتها، إذ استمر غياب أثرٍ ملموس على مستوى جودة التعليم أو مخرجاته، ومعه استمر المغرب في احتلال المراتب المتأخرة في التصنيفات الدولية.
أسباب الإخفاق المستمر
يعتبر متابعون أن المرة الوحيدة التي شُخصت فيها أوجه الخلل في النظام التعليمي المغربي، كان بعد تشكيل لجنة وطنية فتحت مشاورات واسعة مع مختلف الفاعلين سنة 1994، والتي أفضت إلى إصدار ما سُمّي بـ”وثيقة المبادئ الأساسية” في يونيو 1995.
هذه الوثيقة اعتُبرت آنذاك مرجعًا مهمًا لأنها وضعت الأصبع على مكامن الخلل في النظام التعليمي، وأكدت على أن التعليم قضية وطنية واستراتيجية لا تخص الحكومات وحدها، وإنما المجتمع بكامله.
ومن أبرز ما شددت عليه الوثيقة هو ضرورة تعميم التعليم وإلزاميته، بالإضافة إلى مجانيته باعتبارها شرطا لضمان تكافؤ الفرص، إلى جانب الدعوة إلى تحسين وضعية الأطر التعليمية وتوفير موارد مالية إضافية للقطاع، مع تبني الشفافية واللامركزية في التدبير.
لكن هذا المسار لم يكتمل، ففي العام نفسه أصدر البنك الدولي تقريرًا أوصى فيه بمراجعة جذرية للتعليم العمومي، وذلك من خلال الدعوة إلى فرضِ رسومٍ على المدارس الثانوية والجامعات، وفتح المجال بشكل أكبر أمام القطاع الخاص، وتقليص الدعم للخدمات الاجتماعية المرتبطة بالمدرسة، وربط تمويل التعليم بآليات محاسبيّة صارمة.
وقد بدا واضحًا أن هذه التوصيات تتعارض مع ما جاء في الوثيقة الوطنية، خاصة في مسألة المجانية وتوسيع قاعدة المستفيدي،. وهكذا وُضع التقرير الدولي فوق الطاولة باعتباره المرجع الجديد، ليُطوى عمليًا ما أنجزته اللجنة الوطنية.
ومع نهاية التسعينيات، تبنت الدولة هذه التوجهات عبر إطلاق “الميثاق الوطني للتربية والتكوين” الذي تماهى إلى حد بعيد مع التصورات التي حملها تقرير البنك الدولي، مكرّسًا حضور القطاع الخاص بشكل كبير، لينتقل مسار إصلاح التعليم من مقاربة جماعية تتطلّع إلى عدالة تعليمية واجتماعية، إلى خيارات ركزت على الكلفة المالية أكثر من أي شيء آخر، وهو التوجه الذي أضر بجودة التعليم.
من المستفيد؟
تشير المؤشرات الوطنية والدولية إلى أن المدرسة المغربية تعيش أزمة بنيوية عميقة، تتجلى أساسًا في ضعف التحصيل لدى التلاميذ، حيث يعجز أغلب تلامذة الابتدائي عن بلوغ الكفايات الأساسية في اللغات، ما يكشف عن قصور في المقاربات البيداغوجية المعتمدة. أما على مستوى الثانوي، فقد صنّف تقرير بيزا 2023 المغرب في مراتب جد متأخرة عالميًا، وهو ما يعكس محدودية تكوين المتعلمين في مجالات التفكير النقدي والتحليل.
كما أن الهدر المدرسي يزيد من تعقيد الوضع، إذ يغادر مئات الآلاف من التلاميذ مقاعد الدراسة سنويًا، خاصة في الوسط القروي، بفعل الهشاشة الاجتماعية وضعف جاذبية المناهج. يضاف إلى ذلك أن إتقان اللغات الأجنبية والعربية الفصحى يظل ضعيفًا، مما ينعكس سلبًا على متابعة الدراسات العليا والاندماج في سوق الشغل.
ورغم إعلان وزارة التربية الوطنية عن خارطة طريق تمتد إلى سنة 2026، تهدف إلى تحسين التعلّمات وتوسيع تدريس اللغات، إلا أن التطبيق يصطدم بنقائص واضحة، أهمها ضعف تكوين المدرسين، محدودية المناهج التقليدية، وقلة الاستثمارات الموجهة لتطوير الجودة، فالقسم الأكبر من الميزانية يذهب إلى الأجور وتسيير القطاع، بينما تظل الموارد المرصودة للتجديد التربوي والبنيات التحتية محدودة.
يضاف إلى كل ما سبق الاكتظاظ الذي تعرفه الحجرات الدراسية والاحتقان الذي يشهده القطاع بين المدرّسين والوزارة الوصية، إذ لا تخلو أي سنة من فترات إضراب الأساتذة عن العمل، وهو ما يزيد المشهد قتامة. أمام كل هذه المعطيات يُطرح سؤال جوهري عمن هم المستفيدون من هذا الوضع؟ فإذا كان التلميذ والأسرة هما أكبر ضحايا الأزمة، فإن المستفيدين كُثر:
أولًا: قطاع التعليم الخصوصي الذي انتعش بفضل تدهور المدرسة العمومية، حيث صارت الأسر تُجبر على دفع تكاليف إضافية لضمان تعليم أفضل لأبنائها، وهو ما أدى إلى نمو كبير في قطاع التعليم الخاص في المغرب مقارنة بجيرانه، إذ اضطر أكثر من 61 ألف تلميذ إلى الانتقال من التعليم العمومي إلى الخاص خلال الموسم الدراسي 2022/2023، وذلك بمعدل زيادة يفوق 18% مقارنة مع الموسم الذي قبله. كما أن بعض المتدخلين في إصلاح منظومة التعليم هم مستثمرون في القطاع الخاص، وهو ما يزيد من الشكوك حول وجود رغبة حقيقية للإصلاح.
ثانيًا: نخبٌ سياسية واقتصادية تدرك جيدا أن بقاء العموم في حالة ضعف معرفي يضمن استمرار الهشاشة الاجتماعية، وبالتالي سهولة التحكم في المجال السياسي.
ثالثًا: شركات استشاراتٍ ومكاتب دراسات دولية ومحلية استفادت من صفقات إعداد الرؤى وخطط الإصلاح، دون أن تكون معنية بالنتائج الفعلية.
على مدى عقود، عرفت المدرسة المغربية مشاريع إصلاح أدت إلى “إفساد” التعليم، إذ لم تتجاوز عتبة الشعارات والوعود، والنتيجة هي أن جيلا بعد جيل يُدفع إلى الهامش، في حين تتسع الهوة بين الخطاب الرسمي والواقع.
أمام هذه الحلقة المفرغة، يبدو أن السؤال لم يعد يتعلق بكيفية الإصلاح، وإنما يتعلق بوجود إرادة سياسية لإصلاح حقيقي من الأساس. فهل تملك الدولة المغربية الجرأة لفتح هذا الورش بما يليق بمستقبل الأجيال، أم أن استمرار “إفساد” التعليم سيبقى استراتيجية مقصودة لإبقاء المجتمع في وضع قابل للضبط والتحكم، والدفع نحو خوصصة القطاع بالكامل؟
إن جوهر الأزمة على ما يبدو يكمن في غياب الإرادة السياسية الحقيقية لإصلاح جذري، فهناك أطرافٌ داخلية تستفيد من رداءة المدرسة العمومية وتجد مصلحة في استمرار الوضع على ما هو عليه.