تشير قاعدة بيانات سرية تابعة للجيش الإسرائيلي إلى أن الغالبية الساحقة من الستة آلاف فلسطيني الذين اعتُقلوا في غزة ومحتجزين في ظروف مروّعة داخل السجون الإسرائيلية هم من المدنيين، وذلك وفق ما خلص إليه تحقيق مشترك.
حسب ما كشفه تحقيق مشترك أجرته مجلّة +972 وموقع “لوكال كول” وصحيفة “الغارديان”، فلسطيني واحدٌ فقط من كل أربعة فلسطينيين أسرهم الجيش الإسرائيلي في غزة تبيّن أنه مقاتل فيما يشكّل المدنيون الغالبية العظمى من “المقاتلين الخارجين عن القانون” الذين جرى احتجازهم في السجون الإسرائيلية منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.
تستند هذه المعطيات إلى أرقام مستمدة من قاعدة بيانات سريّة تديرها شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (المعروفة بالاختصار العبري “أمان”)، إضافة إلى إحصاءات رسمية عن السجون الإسرائيلية قدّمتها الدولة في إجراءات قضائية. وتظهر شهادات لمعتقلين فلسطينيين سابقين وجنود إسرائيليين خدموا في مرافق الاحتجاز أن إسرائيل تعمّدت خطف مدنيين جماعيًا واحتجازهم لفترات طويلة في أوضاع مروعة.
أظهرت بيانات نشرتها الدولة في أيار/مايو ردًا على التماسات قُدّمت للمحكمة العليا أنه تم اعتقال ستة آلاف فلسطيني في غزة خلال الأشهر الـ19 الأولى من الحرب واحتُجزوا في إسرائيل بموجب قانون “المقاتلين الخارجين عن القانون”، الذي يتيح سجن الأشخاص إلى أجل غير مسمّى من دون توجيه تهم أو محاكمة بمجرد وجود “أسس معقولة” للاعتقاد بمشاركتهم في “أنشطة عدائية ضد دولة إسرائيل” أو بانتمائهم لتنظيم يقوم بذلك.
مع ذلك، يصف الساسة والجيش والإعلام الإسرائيليون بشكل روتيني جميع معتقلي غزة بأنهم “إرهابيون”، فيما لم تعترف الحكومة باحتجاز أي مدنيين. أما إدارة السجون الإسرائيلية فقد زعمت في تقارير علنية دون تقديم أدلة أن معظم “المقاتلين الخارجين عن القانون” المحتجزين هم من حركة حماس أو حركة الجهاد الإسلامي.
لكن البيانات المستقاة في منتصف أيار/مايو من قاعدة بيانات “أمان” ــ التي وصفها مصدر استخباراتي بأنها المرجع الوحيد الموثوق لمعرفة من يعتبرهم الجيش مقاتلين فعليين في غزة ــ كشفت أن إسرائيل اعتقلت فقط 1450 شخصًا من الأجنحة العسكرية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، ما يعني أن نحو ثلاثة أرباع الستة آلاف معتقل لم يكونوا منتمين إليهما.
تتضمن قاعدة البيانات، التي كُشف عنها مؤخرًا عبر +972 و”لوكال كول” و”الغارديان” أسماء 47653 فلسطينيًا يعتبرهم الجيش من مقاتلي حماس والجهاد الإسلامي (وتُحدَّث القائمة بانتظام لتشمل من جرى تجنيدهم بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر). وحتى منتصف أيار/مايو، كانت إسرائيل قد اعتقلت نحو 950 مقاتلًا من حماس و500 من الجهاد الإسلامي، وذلك وفق تلك البيانات.
لا تتضمن القاعدة معلومات عن عناصر الفصائل المسلحة الأخرى في غزة الذين تُظهر تقارير إدارة السجون أنهم يشكّلون أقل من 2 بالمئة من المعتقلين المصنفين على أنهم “مقاتلون خارجون عن القانون”. كما أن نحو 300 فلسطيني إضافي محتجزون في إسرائيل بتهم تتعلق بالمشاركة في هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر وهؤلاء لا يُعرَّفون كـ”مقاتلين خارجين عن القانون” بل كمعتقلين جنائيين، إذ تدّعي إسرائيل امتلاكها أدلة كافية لمحاكمتهم.
حصلت +972 و”لوكال كول” و”الغارديان”على البيانات الرقمية دون أسماء المعتقلين أو المواد الاستخباراتية التي يُزعم أنها تدينهم، والتي تثير مصداقيتها شكوكًا واسعة خاصة في ظل اتهامات واهية استُخدمت ضد شخصيات مثل الصحفي في قناة الجزيرة أنس الشريف الذي اغتيل الشهر الماضي.
خلال مسار الحرب وبسبب الاكتظاظ الشديد في السجون جزئيًا، أفرجت إسرائيل عن أكثر من 2500 معتقل صنّفتهم سابقًا “كمقاتلين خارجين عن القانون”، ما يوحي بأنها لم تعتبرهم مقاتلين فعليين. كما أُفرج عن 1050 آخرين في صفقات تبادل أسرى بين إسرائيل وحماس. وأكدت منظمات حقوقية وجنود إسرائيليون أن نسبة المقاتلين بين من جرى اعتقالهم في غزة أقل حتى مما تكشفه البيانات المسرّبة. ففي كانون الأول/ ديسمبر 2023، وبعدما أثارت صور عشرات الفلسطينيين المقيّدين والمجرّدين من ملابسهم موجة غضب عالمي، أقرّ ضباط كبار لصحيفة “هآرتس” بأن “85 إلى 90 بالمئة” منهم لم يكونوا أعضاء في حماس.
أما مركز الميزان لحقوق الإنسان في غزة، الذي مثّل مئات المدنيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية، فقد أكد أن عمله “يكشف عن حملة منهجية من الاعتقالات التعسفية التي تستهدف الفلسطينيين بشكل عشوائي بغض النظر عن أي تهمة مزعومة”، وذلك وفقا لنائب المدير سمير زقوت. في هذا الصدد، قال أحد الحقوقيين: “في أحسن الأحوال، قد يكون واحد فقط من بين كل ستة أو سبعة معتقلين له أي صلة بحماس أو بفصائل مسلّحة أخرى، وحتى في تلك الحالات لا تكون بالضرورة من خلال أجنحتها العسكرية. في كثير من الأحيان، يكفي الانتماء السياسي لفصيل فلسطيني حتى تصنّف إسرائيل الشخص كمقاتل”.
وقد أدلى فلسطينيون أُفرج عنهم من مراكز الاحتجاز العسكرية الإسرائيلية وإدارة السجون الإسرائيلية بشهادات عن ظروف قاسية للغاية تخللتها إساءة وتعذيب ممنهجان ما أسفر عن وفاة عشرات المعتقلين خلال احتجازهم لدى إسرائيل.
تجاوز الإجراءات القانونية
صدر “قانون المقاتلين الخارجين عن القانون” سنة 2002 ليتيح لإسرائيل احتجاز أشخاص خلال الحروب دون الاعتراف بهم كأسرى حرب خلافًا لما تفرضه اتفاقيات جنيف. كما يجيز هذا القانون حرمان المعتقل من مقابلة محامٍ لمدة تصل إلى 75 يومًا.
تمدّد المحاكم الإسرائيلية اعتقال الفلسطينيين بشكل شبه تلقائي اعتمادًا على “أدلة سرية” في جلسات لا تستغرق سوى بضع دقائق. ووفقًا لمعطيات صادرة عن منظمة “هموكيد” الحقوقية الإسرائيلية، تحتجز إدارة السجون الإسرائيلية حاليًا نحو 2660 غزيًا اعتُقلوا بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر بصفة “مقاتلين خارجين عن القانون” — وهو العدد الأعلى منذ بداية الحرب. وتعتقد منظمات قانونية أن مئات آخرين لا يزالون محتجزين في مرافق اعتقال عسكرية إسرائيلية بانتظار نقلهم إلى إدارة السجون الإسرائيلية. وفي أيار/مايو، قال الجيش إن العدد الإجمالي للمعتقلين المصنفين على أنهم “مقاتلون خارجون عن القانون” في السجون ومراكز الاحتجاز معًا بلغ 2750.
قالت جيسيكا مونتيل، مديرة “هموكيد”: “لو اضطرت إسرائيل لمحاكمة جميع المعتقلين لوجب صياغة لوائح اتهام بجرائم محددة وتقديم أدلة، والإجراءات القانونية مرهقة، لهذا أنشؤوا قانون المقاتلين الخارجين عن القانون لتجاوز ذلك كلّه”. وأضافت أن هذا القانون سهّل “الإخفاء القسري لمئات بل لآلاف الأشخاص” المحتجزين فعليًا من دون أي رقابة خارجية.
أوضحت طال شتاينر، المديرة العامة للجنة الشعبية لمناهضة التعذيب في إسرائيل، أن كون ثلاثة أرباع المحتجزين كمقاتلين خارجين عن القانون لا يُسجَّلون في بيانات الجيش كأعضاء في الأجنحة العسكرية لحماس أو الجهاد الإسلامي “ينسف المبرر الكامل لاعتقالهم”، مضيفة أن الالتماسات القانونية التي قدّمتها ضد الاعتقالات الجماعية دفعت الدولة إلى تزويدها ببيانات عدد المعتقلين منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. وأضافت شتاينر: “بمجرد بدء موجة الاعتقالات الجماعية في غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، برزت مخاوف جدية من احتجاز العديد من الأشخاص غير المتورطين دون سبب”. وتابعت: “تأكدت هذه المخاوف عندما علمنا أن نصف من اعتُقلوا في بداية الحرب أُفرج عنهم لاحقًا، ما يثبت أنه لم يكن هناك أي أساس لاعتقالهم في المقام الأول”.
كشف ضابط في الجيش الإسرائيلي قاد عمليات اعتقال جماعية في مخيم خان يونس للاجئين لمجلة +972 و”لوكال كول” و”الغارديان” أن مهمة وحدته كانت “تفريغ” المخيم ودفع سكانه للنزوح جنوبًا مشيرًا إلى أنه في إطار هذه المهمة جرى اعتقال أعداد كبيرة من المدنيين ونقلهم إلى مرافق عسكرية حيث صُنِّفوا كمقاتلين خارجين عن القانون.
قال الضابط: “كان الجميع يُساقون في قوافل طويلة بأكياس على رؤوسهم باتجاه الساحل نحو المواصي. [جرى اقتيادهم إلى] ما كنّا نسمّيه منشأة تفتيش، حيث يخضع الناس للفحص. كل ليلة كانوا يحمّلون شاحنة مكشوفة بعشرات أو مئات الرجال معصوبي الأعين ومقيّدي الأيدي يكونون مكدّسين فوق بعضهم. كل ليلة شاحنة كهذه تتجه إلى إسرائيل”.
وأضاف أن الجيش لم يفرّق “بين إرهابي دخل إسرائيل في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وبين موظف يعمل في سلطة المياه بخان يونس”، مشيرًا إلى أن الاعتقالات نُفّذت بشكل شبه عشوائي بما في ذلك بحق قاصرين. وقال: “هذا أمر لا يُعقَل. تأخذ رجلاً، صبيًا، شابًا، من عائلته، وترسله إلى إسرائيل للتحقيق. وإن عاد يومًا، كيف سيعثر على عائلته مجددًا؟”.
قال أحمد محمد (30 عامًا) من مخيم خان يونس للاجئين إنه أُجبر على السير في إحدى هذه القوافل مع زوجته وأطفاله الثلاثة في السابع من كانون الثاني/يناير 2024. وعند الحاجز، أعلن الجيش عبر مكبّر صوت أن على الرجال التوقف، وتم التعرف إليهم بناءً على لون ملابسهم. وتابع: “صرخ أحد الجنود نحوي: ‘أنت بالقميص الأزرق، عد، عد'”. وقد فُصل عن أسرته مع مجموعة أخرى من الرجال. وقال: “كنّا مجموعة عشوائية من الناس، أعمل حلاقًا في المخيم ولا أنتمي لأي فصيل. في كل مرة يقترب منا جندي كان يشتمنا، حتى وصلت شاحنة وأُلقي بنا بداخلها، مكدّسين فوق بعضنا، بمنتهى الإذلال”.
اقتيد محمد إلى سجن النقب واستُجوب بشأن هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر. وقال إنه أخبر الجنود بعدم معرفته بشيء، لكنهم أبقوه رهن الاعتقال لسنة كاملة، دون أن يعرف السبب حتى اليوم. وأوضح: “عشت أياما صعبة في السجن — مرض، برد، تعذيب، إذلال”. وقد أُفرج عن محمد في كانون الثاني/ يناير هذه السنة مع نحو ألفي أسير فلسطيني ضمن اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس — نصفهم كانوا محتجزين منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر بموجب قانون “المقاتلين غير الشرعيين”، ومُنعوا من الوصول إلى محامٍ أو الخضوع لإجراءات قانونية طوال أشهر.
“هم لا يعيدون الرهائن، فلماذا ينبغي أن نطلق سراحهم؟”
أكد عدة جنود لمجلّة +972 و”لوكال كول” و”الغارديان” أنهم شهدوا اعتقالات جماعية لمدنيين فلسطينيين في مرافق عسكرية إسرائيلية. وقال أحدهم، خدم في مركز الاعتقال سيّئ السمعة “سدي تيمان”، إن أحد الأقسام لُقّب بـ”الحظيرة الخاصة بالمسنين” لأن جميع المعتقلين كانوا مسنين أو مصابين بجروح خطيرة، بعضهم نُقل مباشرة من مستشفيات غزة. وأوضح: “من المستشفى الإندونيسي [في بيت لاهيا] كانوا يأخذون أعدادًا كبيرة من الناس. جلبوا رجالًا على كراسي متحركة، أشخاصًا بلا أرجل، أو بأرجل عديمة الفائدة. أتذكر رجلًا في الخامسة والسبعين بساقين مبتورتين مصابتين بعدوى شديدة. كنت أعتقد دومًا أن ذريعة اعتقال المرضى ربما أنهم رأوا الرهائن أو شيئًا كهذا”. وأضاف: “جميعهم وُضعوا في ‘حظيرة المسنين'”.
قال جندي آخر قاد فريقًا في وقت مبكر من الحرب إن الجيش اعتقل مريضًا سبعينيًا داخل مستشفى الشفاء في غزة: “وصل وهو مقيّد على نقالة. كان مصابًا بالسكري، وقد تفشّت الغرغرينا في ساقه، كان عاجزًا عن المشي. لم يكن يشكّل أي خطر”. وقد نُقل ذلك الرجل إلى “سدي تيمان”.
وبالإضافة إلى اعتقال المدنيين المصابين في مستشفيات غزة وسجنهم في مراكز الاحتجاز الإسرائيلية، اعتقلت إسرائيل أيضًا المئات من الأطباء الذين كانوا يعالجونهم. ووفقًا لمنظمة “أطباء من أجل حقوق الإنسان – إسرائيل”، فإن أكثر من 100 من أفراد الطواقم الطبية في غزة لا يزالون محتجزين حتى اليوم بوصفهم “مقاتلين خارجين عن القانون”، وذلك حسب تقرير نشرته المنظمة في شباط/فبراير، تضمن شهادات من 20 طبيبًا ومبلغًا عن المخالفات العسكرية يصفون فيها الانتهاكات والتعذيب.
قال ناجي عباس، رئيس قسم الأسرى في المنظمة، إن الشهادات كشفت عن نمط اعتيادي يتمثل في سجن الأشخاص لأشهر بعد استجواب وجيز واحد فقط، وبالنسبة لعباس فإن هذا يقوّض ادعاء إسرائيل بأن هؤلاء المعتقلين يُحتجزون لامتلاكهم معلومات استخبارية مهمة بشأن الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس، ويرى أن احتجازهم جزء من الهجوم الإسرائيلي على نظام الرعاية الصحية في غزة.
في إحدى الشهادات التي جمعتها المنظمة، وصف جراح من مستشفى ناصر في خان يونس كيف قام الجنود “بالجلوس فوقنا، وركلونا بأحذيتهم، وضربونا بأعقاب البنادق”. وفي شهادة أخرى، قال رئيس قسم الجراحة في المستشفى الإندونيسي: “دفعوا رؤوسنا في الحصى مرارًا وتكرارًا لمدة أربع ساعات، وضربونا بوحشية بالهراوات، وصعقونا بالكهرباء”.
أفاد طبيب ثالث بأنه تعرّض للضرب حتى تكسرت أضلاعه، بينما وصف جراح من مستشفى الشفاء تعرض المعتقلين للصعق الكهربائي، مضيفًا أنه سمع عن سجناء لقوا حتفهم نتيجة لذلك. وقال طبيب آخر في شهادته للمنظمة: “في طريقنا إلى مركز الاستجواب، قالوا لي إنهم سيقطعون أصابعي لأنني طبيب أسنان”.
صُنّف الأطباء الذين أدلوا بشهاداتهم للمنظمة على أنهم “مقاتلون خارجون عن القانون”. أحد هؤلاء المعتقلين الدكتور عدنان البرش، رئيس قسم العظام في مستشفى الشفاء، توفي أثناء احتجازه السنة الماضية بعد اعتقاله في كانون الأول/ديسمبر 2023، حيث تعرض للتعذيب حتى الموت، وفقًا لعائلته. كما توفي إياد الرنتيسي، مدير مستشفى نسائي في غزة، السنة الماضية في منشأة استجواب تابعة لجهاز الشاباك.
قال أحد المسعفين العسكريين الذين خدموا في مركز احتجاز “عناتوت” إن العديد من الأطباء الفلسطينيين سُجنوا هناك، وتذكر طبيب أطفال كان مكبل اليدين ومعصوب العينين، توسل إليه باللغة الإنجليزية قائلاً: “نحن زملاؤك، هل يمكنك مساعدتي؟”.
في حزيران/يونيو 2024، وجّه رئيس جهاز الشاباك آنذاك، رونين بار، رسالة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يحذّره فيها من أزمة اكتظاظ السجون؛ حيث تجاوز عدد النزلاء 21 ألفًا بينما لا تتسع السجون إلا لـ14500 فقط، وكتب أن معاملة السجناء “تكاد تصل إلى حد الإساءة”، مما يعرّض موظفي الدولة لاحتمال الملاحقة القضائية في الخارج. وتتسق المعاملة القاسية للمعتقلين مع تصريحات وزير الأمن القومي إيتامار بن غفير، الذي قال السنة الماضية إن من أولوياته “تردي ظروف” الأسرى الفلسطينيي بما في ذلك توفير “الحد الأدنى فقط” من الطعام. وقد أدلى العديد من المدنيين الغزيين الذين اعتقلتهم القوات الإسرائيلية بشهادات عن تعرضهم لانتهاكات وتعذيب شديد.
لكن يبدو أن الاعتقالات الجماعية للأطباء وغيرهم من المدنيين كانت تهدف جزئيًا على الأقل إلى خلق أوراق ضغط في مفاوضات تبادل الرهائن، فعندما أُفرج عن مدير مستشفى الشفاء محمد أبو سلمية السنة الماضية أعرب عضو الكنيست سيمحا روتمان، رئيس لجنة الدستور والقانون والعدل، عن استيائه من إطلاق سراحه “دون مقابل من الرهائن”. وفي الاجتماع ذاته، قال عضو الكنيست ألموغ كوهين إن إسرائيل أضاعت فرصة “لأخذ رمز مهم من غزة” لاستخدامه في صفقة. قال أحد الجنود الذين خدموا في أحد مرافق الاحتجاز: “كنا نُفرج عن الناس ‘مجانًا’، وكان ذلك يُغضب الجنود”. وأضاف: “كان الجنود يقولون: ‘هم لا يعيدون الرهائن، فلماذا نطلق سراحهم؟'”.
شرعنة الاختطاف
من بين أكثر الحالات التي تُبرز قسوة سياسة الاعتقال الجماعي الإسرائيلية بشكل صارخ حالة فهمية الخالدي التي اعتقلها الجنود في مدرسة بحي الزيتون بمدينة غزة في التاسع من كانون الأول/ديسمبر 2023. كانت السيدة البالغة من العمر 82 عامًا تعاني من مرض الزهايمر وتجد صعوبة في المشي بمفردها، إلا أن الجيش الإسرائيلي نقلها إلى مركز احتجاز “عناتوت” العسكري، قبل أن يُرحّلها في اليوم التالي إلى سجن “دامون” شمال إسرائيل حيث سُجنت لمدة ستة أسابيع. وتكشف وثيقة من السجن أنها احتُجزت بموجب قانون “المقاتلين الخارجين عن القانون”، مما يؤكد التفاصيل التي نشرتها صحيفة “هآرتس” مطلع سنة 2024.
ردّ الجيش الإسرائيلي على استفسارنا في البداية بأن فهمية اعتُقلت “للتأكد من عدم تورطها في الإرهاب”، ثم ذكر لاحقًا أنها احتُجزت “بناءً على معلومات استخباراتية محددة تتعلق بها شخصيًا”، مضيفًا أنه “في ظل حالتها الحالية، لم يكن الاحتجاز مناسبًا وكان نتيجة لخطأ محلي منفرد في التقدير”.
وقال طبيب عسكري خدم في “عناتوت” لـ +972 و”لوكال كول” وصحيفة “الغارديان” إنه استُدعي لعلاج فهمية بعد أن انهارت في الليلة الأولى لوصولها. وأضاف: “سقطت وتعرضت للأذى، على الأرجح بسبب الأسلاك الشائكة. قمنا بتقطيب جروح يدها في منتصف الليل”. وتؤكد صور التقطها الطبيب، واطلع عليها +972 و”لوكال كول” و”الغارديان”، وجوده في “عناتوت” أثناء احتجاز فهمية هناك.
حسب الجندي، فإن فهمية لم تكن تتذكر عمرها وظنت أنها لا تزال في غزة، ومع ذلك اعتبرها الجيش مقاتلة. وقال: “يخبرون الجنود أن الشخص هو ‘مقاتل خارج عن القانون’، وهو ما يعادل وصفه بالإرهابي”. وأضاف: “عندما وصلت فهمية، أتذكر أنها كانت تعرج بشدة أثناء ذهابها إلى العيادة، ومع ذلك، صُنّفت كمقاتلة خارجة عن القانون. إن الطريقة التي يُستخدم بها هذا التصنيف جنونية”. وكانت فهمية واحدة من نحو 40 امرأة يتذكر الجندي رؤيتهن في “عناتوت” خلال شهرين من خدمته هناك. وقال: “كانت هناك امرأة أجهضت؛ وقال الحراس إنها نزفت بشدة. وأخرى كانت أمًا مرضعة جُلبت دون طفلها، وأرادت الاستمرار في الرضاعة الطبيعية للحفاظ على حليبها”.
كانت عبير غبان، البالغة من العمر 40 عامًا، محتجزة بالفعل في سجن “دامون” عندما وصلت فهمية، وقالت إن المرأة المسنّة بدت خائفة، وكان وجهها ويداها متورمين. لم تتحدث فهمية كثيرًا مع باقي المعتقلات في البداية، لكنهن اكتشفن تدريجيًا أنها فرت عندما هدد الجيش الإسرائيلي بقصف المبنى الذي كانت تقيم فيه، ثم اعتُقلت لاحقًا. قالت عبير إنها قضت أسابيع تعتني بفهمية أثناء احتجازهما معًا. وأضافت: “كنا نطعمها بأيدينا، ونغيّر ملابسها. كانت مقعدة على كرسي متحرك”. وذكرت عبير أن الحراس سخروا في إحدى المرات من فهمية حتى حاولت الهرب، فاصطدمت بسياج وأصيبت بجروح.
كانت عبير تربي أطفالها الثلاثة، الذين تبلغ أعمارهم 10 و9 و7 سنوات، بمفردها لسنوات لكنهم تُركوا ليواجهوا مصيرهم عندما اعتقلها الجنود الإسرائيليون عند حاجز تفتيش في غزة في كانون الأول/ديسمبر 2023. أدركت عبير أثناء الاستجواب أن الجيش قد خلط بين زوجها، وهو مزارع، وأحد أعضاء حماس الذي يحمل نفس الاسم. وقد أقرّ أحد الجنود بهذا الخطأ بعد مقارنة الصور، لكنها بقيت في السجن لمدة ستة أسابيع أخرى وهي قلقة على أطفالها.
أُطلق سراح المرأتين معًا في كانون الثاني/يناير 2024 دون تقديم أي تفسير. ساعدت عبير فهمية الخالدي على التواصل مع أبنائها الذين يعيشون في الخارج، ثم وجدت أطفالها يتسوّلون في الشوارع وبالكاد يمكن التعرف عليهم. قالت: “كانوا على قيد الحياة، لكن رؤيتي للحالة التي كانوا فيها طوال 53 يومًا بدوني حطّمتني”.
وثّق أحد الصحفيين حالة فهمية في رفح بعد الإفراج عنها، وكانت في حالة من الارتباك والتشوّش دون وجود أي من أفراد أسرتها، ولم تكن تتذكر مدة احتجازها. قالت وهي لا تزال ترتدي بنطال السجن الرمادي : “أخذوني من المدرسة، لقد مررت بالكثير”.
قال المحامي مايكل سفارد، أحد أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان في إسرائيل، إن القانون الدولي لا يسمح باعتقال المدنيين إلا إذا شكّلوا تهديدًا أمنيًا ملحًا، ويكفل لهم حقوقًا أساسية تنتهكها إسرائيل. وأوضح: “إن ظروف احتجاز الغزيين في إسرائيل لا تتوافق إطلاقًا، وبلا أدنى شك، مع ما تنص عليه اتفاقية جنيف الرابعة”، مشيرًا إلى أن الانتهاكات الجسيمة، وحرمان المعتقلين من الطعام، ومنع زيارات الصليب الأحمر والتواصل مع العائلات، أصبحت ممارسة روتينية. وأضاف أن التشريع المستخدم لاحتجازهم يُعد في حد ذاته “انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي”.
ويتفق معه حسن جبارين، مدير مركز “عدالة” لحقوق الفلسطينيين ومقره حيفا، قائلاً: “إن قانون المقاتلين غير الشرعيين صُمّم لتسهيل الاعتقال الجماعي للمدنيين وحالات الإخفاء القسري مما يعني فعليًا شرعنة اختطاف الفلسطينيين من غزة”. وأضاف: “إن هذا القانون يُجرّد المعتقلين من الحماية التي يكفلها لهم القانون الدولي، بما في ذلك الضمانات الخاصة بالمدنيين، ويُستخدم تصنيف ‘المقاتل الخارج عن القانون’ لتبرير الحرمان المنهجي من حقوقهم”.
لم ينفِ الجيش الإسرائيلي في البداية الأرقام الواردة في هذا التقرير لكنه أصدر لاحقًا بيانًا قال فيه إن الأرقام “غير صحيحة”، وادّعى أن ما ورد “يعكس سوء فهم لإجراءات الاعتقال في إسرائيل”. وأضاف: “طُلب من قوات الجيش الإسرائيلي اعتقال المشتبه بهم ميدانيًا، إما استنادًا إلى معلومات استخبارية موجودة أو بناءً على اشتباه معقول ناتج عن ظروف الاعتقال، ثم يتم فحص أي منهم متورط في نشاط إرهابي. ويرفض الجيش الإسرائيلي بشكل قاطع الادعاءات المتعلقة بالاعتقالات التعسفية”.
وتابع البيان: “قبل إصدار أمر اعتقال دائم يصدُر أمر اعتقال مؤقت للمعتقل بموجب قانون المقاتلين غير الشرعيين كجزء من الإجراءات المعتادة، مما يسمح باحتجازه لفترة محدودة يتم خلالها إجراء التحقيق والتقييم. وخلال هذه الفترة، لا يتحدّد بعد ما إذا كان الشخص يُعد مقاتلًا خارجا عن القانون. وإذا تبيّن أن الشخص يستوفي المعايير ويشكّل تهديدًا أمنيًا، يصدُر ضده أمر اعتقال دائم بموجب هذا القانون. ويخضع كل شخص محتجز بموجب أمر اعتقال دائم لمراجعة قضائية أمام قاضي محكمة محلية بعد إصدار الأمر، ثم يُعرض مرة أخرى كل ستة أشهر طالما استمر احتجازه”.
المصدر: +972