تُسوّغ “إسرائيل” جرائم الحرب التي ترتكبها في قطاع غزة بذرائع واهية تربطها دائمًا بحركة حماس، فتستهدف المستشفيات وتُحوّلها إلى أهداف عسكرية مزعومة، وترتكب المجازر في المدارس التي تحتضن عشرات آلاف النازحين بحجة وجود عناصر للمقاومة بينهم، بينما الحقيقة أن ضحاياها يكونون من المدنيين الأبرياء.
برز هذا النهج مؤخرًا في الحملة الجديدة التي يشنها الاحتلال ضد أبراج غزة، فقبل بدء الغارات، روّج جيش الاحتلال لرواية مفادها أن هذه المباني تحوّلت إلى بنى تحتية عسكرية، بعدما أعلن أنه رصد “نشاط إرهابي مكثف” لحماس داخل الأبراج متعددة الطوابق. وذهب أبعد من ذلك بالحديث عن مراكز استخباراتية وقنص وإطلاق صواريخ وسيطرة ميدانية مزعومة.
لكن لم تمضِ سوى ساعات حتى ترجمت “إسرائيل” تهديداتها إلى قصف دموي؛ فدمرت برج مشتهى في منطقة أنصار بالكامل، رغم نفي إدارته القاطع لوجود أي نشاط عسكري داخله وتأكيده أنه يأوي نازحين فقط. وسرعان ما لحق به برج مكة قرب دوار أبو مازن، الذي سُوّي بالأرض في قصف مماثل.
لكن وراء هذه الادعاءات، تخفي “إسرائيل” أهدافًا أعمق من مجرد الذرائع العسكرية، فاستهداف الأبراج السكنية يكشف عن مخططات تدميرية وتهجيرية واسعة، تسعى لتمهيد الطريق أمام توغلات برية، وإحداث ضغط نفسي ينهك المدنيين ويكسر صمودهم، وفي الوقت نفسه يوجه رسالة سياسية واضحة: أن مرحلة المفاوضات انتهت.
تمهيد للتوسع البري وتهجير واسع
يسخّر جيش الاحتلال الإسرائيلي كامل آلته الإبادية في إطار عملية اجتياح غزة، مجنّدًا الآلاف من جنوده لتحقيق هذا الهدف، فلم تأتِ الحملة على أبراج المدينة بمعزل عن هذه التحركات؛ إذ اعترف الجيش نفسه بنيّته مهاجمة مبانٍ متعددة الطوابق خلال الأيام المقبلة، باعتبارها خطوة تمهيدية لتوسيع عمليته العسكرية. وقد نقلت القناة الإسرائيلية الـ14 أن العملية ستبدأ بغارات جوية يعقبها هجوم بري.
يكشف القصف التمهيدي على الأبراج السكنية عن استراتيجية واضحة تقوم على دفع أكبر عدد ممكن من سكان غزة إلى النزوح، في سياق خطة تهجير قسري ترمي إلى تفريغ المدينة ومحو ملامحها. وقد تزامنت هذه الضربات مع إلقاء مناشير عسكرية تدعو سكان جباليا شمال غرب القطاع إلى الإخلاء الفوري والتوجه جنوبًا عبر وادي غزة و”شارع الرشيد”. وفي السياق نفسه، أصدر الجيش الإسرائيلي بيانًا طالب فيه سكان المدينة بالإخلاء السريع نحو جنوب القطاع عبر شارع الرشيد الساحلي، مدعيًا أن منطقة المواصي خُصصت “منطقة إنسانية” رغم أنها تعرضت مرارًا للقصف منذ بداية الحرب.
هذا التوجه أكده الخبير العسكري د. نضال أبو زيد، الذي شدد على أن الهدف الحقيقي من استهداف أبراج غزة هو تهجير السكان ودفعهم للنزوح جنوبًا عبر شارع الرشيد، مفندًا ذرائع الاحتلال، إذ أوضح أنه من غير الممكن – منطقيًا وعسكريًا واستخباراتيًا – أن تتخذ المقاومة هذه المباني المرتفعة مواقع للمراقبة أو مراكز عمليات.
وفي السياق ذاته، اتهم المتحدث باسم الدفاع المدني الفلسطيني، محمود بصل، “إسرائيل” بتنفيذ “سياسة ممنهجة للتهجير القسري بحق المدنيين” عبر استهداف الأبراج السكنية. وأعلن أن الغارات الإسرائيلية على مدينة غزة ومحيطها أسفرت عن مقتل 19 شخصًا خلا يوم الجمعة.
منهجية التدمير الشامل
لا يقتصر استهداف الأبراج السكنية على خطة اجتياح مدينة غزة فحسب، بل يتجاوز ذلك ليصبح جزءًا من استراتيجية أشمل تقوم على التدمير الكلي ومحو معالم القطاع، فالإمعان في إسقاط برج تلو الآخر يعكس إصرارًا إسرائيليًا على توسيع نطاق الخراب بصورة منهجية ومدروسة.
ويؤكد الأكاديمي مهند مصطفى أن هذا النهج لا تحركه اعتبارات عسكرية بحتة، وإنما يرتبط بمشروع أيديولوجي يسعى إلى محو البنية المدنية الفلسطينية برمّتها.
يوافقه بالرأي الخبير في الشؤون الإسرائيلية، نظير مجلي، مؤكدًا أن هناك قرارًا إسرائيليًا واضحًا يقضي بتسوية مدينة غزة بالأرض، لا مجرد استهداف أبراجها، وذلك في إطار نهج انتقامي حربي، رغم إدراك قادة الأجهزة الأمنية أنفسهم أن احتلال غزة لن يحقق لـ”إسرائيل” أي انتصار، بل سيخلف دمارًا شاملًا في المدينة فحسب.
منذ انطلاق الحملة، يُهدم يوميًا ما يقارب 300 مبنى في غزة ضمن عملية منظمة يديرها الجيش الإسرائيلي بالتعاون مع مقاولين مدنيين للهدم، ما حوّل أحياء بأكملها إلى ركام، ولم يقتصر الاستهداف على المنشآت الحيوية كالشوارع وشبكات البنى التحتية، بل طال أيضًا المعالم الثقافية والاجتماعية التي تشكل روح المجتمع الغزّي.
ووفقًا لإحصائيات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، بلغت نسبة الدمار في البنية التحتية نحو 90%، فيما وصلت الخسائر الأولية المباشرة إلى أكثر من 68 مليار دولار، كما سيطر الاحتلال على ما يزيد عن 80% من مساحة القطاع عبر الاجتياح والقصف والتهجير، مستخدمًا أكثر من 150 ألف طن من المتفجرات.
وسط دمار واسع يواصل الاحتلال عمليات التدمير الممنهج بنسف المباني السكنية والمدارس ليجعل غزة مساحة من الخراب. pic.twitter.com/cscyExsfIn
— نون بوست (@NoonPost) September 5, 2025
وبحسب مصطفى، يعيد هذا التوجه إلى الأذهان سيناريوهات النكبة عام 1948، لكن بصورة أشد فتكًا، ففي النكبة ركز المشروع الصهيوني على تفريغ الأرض من سكانها تمهيدًا لاستيطانها، أما اليوم فإن “إسرائيل” تمضي أبعد من ذلك بسعيها إلى محو الوجود الفلسطيني ذاته، فهي تجمع بين التهجير الجماعي وقتل أكبر عدد ممكن من المدنيين، ولا تتردد في تدمير المخيمات في الضفة الغربية أيضًا، متجاوزة بذلك كل الخطوط الحمراء لتحقيق هدف واحد وهو تفريغ غزة وتحويلها إلى أرض محروقة، على نحو يضمن هذه المرة منع أي عودة مستقبلية عبر القضاء على أي أفق لإعادة الإعمار أو التسوية السياسية.
من هذا المنظور، يغدو ضرب الأبراج ونسفها الحلقة الأحدث في سلسلة طويلة من سياسات التدمير الممنهج التي اعتمدتها إسرائيل تاريخيًا لإخضاع الفلسطينيين أو دفعهم إلى الرحيل القسري.
تكتيك نفساني ضد الصمود الغزّي
يمتد أثر تدمير الأبراج السكنية في غزة إلى ما هو أبعد من الخسائر المادية المباشرة ليشكل أداة مركزية في الحرب النفسية التي يشنها الاحتلال ضد المدنيين، فمشهد انهيار برج سكني شاهق وتحوله إلى ركام خلال ثوانٍ يزرع صدمة عميقة في النفوس، ويكرّس شعورًا بأن لا مكان آمن في مواجهة آلة التدمير الإسرائيلية.
لكن الأبراج ليست مجرد مبانٍ إسمنتية؛ إنها حاضنة لذكريات العائلات، ورمز اجتماعي واقتصادي، وفضاء يختزن حياة جماعية كاملة، لذلك فإن قصفها يحمل دلالات تتجاوز أي مبررات عسكرية أو أمنية يروّج لها الاحتلال، حتى ما يسمى بـ”التحذيرات المسبقة” لا تعدو كونها عملية إخراج قسري، إذ يُجبر السكان على مغادرة منازلهم في لحظات، ليجدوا أنفسهم في خيام مؤقتة أو على أطراف الطرقات بلا مأوى.
وقد وثّق شهود عيان كيف أن مجرد التهديد بقصف أحد الأبراج يكفي لإثارة حالة هلع جماعي، فعندما أُبلغ سكان برج مكة بوجوب إخلائه، غادر آلاف الفلسطينيين المنطقة على الفور، تاركين وراءهم كل ما يملكون، وهكذا يتحول الخوف نفسه إلى سلاح فعال بيد الاحتلال، يُستخدم لإرغام الأهالي على الفرار من مدينة غزة، وتحويلها تدريجيًا إلى مدينة أشباح خالية من سكانها.
وكما في نكبة 1948، يوظَّف الرعب اليوم كسلاح ممنهج، ليس فقط لكسر صمود المجتمع الغزّي وضرب معنوياته، بل لدفعه إلى النزوح القسري، في إطار مشروع أشمل يستهدف اقتلاع الوجود الفلسطيني من جذوره.
أهل غزة يتقلبون على جمر ذكرياتهم.. ناشطة غزّية تشارك حكايات النكبات المتكررة، من تهجير الجدّات إلى حروب الحاضر، حيث يتحول مفتاح بيت قديم إلى رمز حياة كاملة تُسلب منهم. pic.twitter.com/TFj6r9jXqG
— نون بوست (@NoonPost) August 22, 2025
زمن المفاوضات انتهى
على الصعيد السياسي يحمل استهداف الأبراج أيضًا رسالة واضحة مفادها أن “إسرائيل” أغلقت باب التفاوض تمامًا فالصور “المتلفزة” للأبراج وهي تتهاوى أمام أعين العالم ليست مجرد مشاهد حرب عابرة، بل هي إعلان نوايا بأن الحلول الدبلوماسية والتسويات لم تعد واردة، كما يشير الباحث لقاء مكي، الذي لفت إلى أن “إسرائيل” تسعى لإيصال رسالة بأنه بعد أن فقدت غزة عمرانها وحياتها المدنية لم يعد هناك ما يمكن التفاوض عليه.
في هذا السياق، يسعى الاحتلال إلى تحويل غزة إلى ركام كامل ببيوتها ومؤسساتها وسكانها، بحيث لا تبقى لدى حماس أي أوراق قوة أو أدوات ضغط تفاوضية. وبهذا، تفرغ تل أبيب أي مسار سياسي من معناه؛ فحين يُمحى الواقع العمراني والاجتماعي ويُختزل إلى أنقاض، تصبح القوة وحدها هي اللغة السائدة.
“إسرائيل” تقول ضمنيًا، للعالم وللفلسطينيين معًا، إن هذه الحرب ستستمر حتى نهايتها، ولن توقفها وساطات أو دعوات لوقف إطلاق النار ما لم تُمحي غزة، معلنةً نهاية مرحلة التسويات المرحلية والاتفاقات السياسية، لصالح منطق الحسم العسكري.
والأدهى أن هذا الإعلان يجري على مرأى ومسمع من عالم يتغافل عن مشاهد الدمار والتهجير، مكتفيًا بالصمت أو بيانات شاحبة لا توقف نزيف الدم، وكأن انهيار غزة أمام الكاميرات لا يعنيه، وكأن شعبًا كاملًا يُمحى من الوجود ليس كافيًا ليدق ناقوس الضمير الإنساني.