ما كادت تندلع أحداث السابع من أكتوبر وما تلاها من حرب إبادة طاحنة لم يشهد التاريخ المعاصر لها مثيلاً حتى وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام فجوة عميقة في الرأي العام المتعلق بأهم قضاياها الخارجية؛ الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ورغم أن هذه الفجوة التي شكّلها ما يُعرف بـ”الجيل زد”، وهو الجيل الشاب الذي وُلِد بين أواخر تسعينات القرن الماضي وأواخر العقد الأول من الألفية الثانية (1996-2010)، لم تنبثق فجأة، إلا أنها شكّلت مفاجأة من العيار الثقيل لصنّاع القرار في واشنطن لخطورة وحدة الانقلاب الذي قادته في مواجهة ما شكّل في الماضي أكبر وأقوى تحالف شعبي مع الدولة اليهودية في الغرب.
فما هي أهم تجليات هذه الفجوة؟ كيف تشكّلت عبر السنين؟ وما أهم روافدها؟ هل تشكّل منعطفًا جادًا في السردية الإسرائيلية وفي الدعم الشعبي لها في الولايات المتحدة؟ أم أنها مجرد فورة شباب؟ وما هي انعكاساتها المستقبلية؟ يحاول هذا المقال الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها.
أرقام صادمة
بدأت الأرقام الصادمة حول الفجوة العمرية للأجيال الصاعدة تتكشف حتى قبل جيل “زد”؛ فقد تراجع مع بداية الألفية الحالية التعاطف مع الكيان الذي استطاع أن يحصد فجوة واضحة لصالحه في مقابل التعاطف مع الفلسطينيين منذ تأسيسه؛ حيث بلغت نسبة تفوقه على الفلسطينيين بنسبة تزيد عن 46% في أوساط جيل طفرة المواليد Baby Boomers وهم مواليد الفترة بين 1946 و1964، وتفوق بنسبة 32% في أوساط جيل إكس (1965-1979)، قبل أن يشهد انحدارًا حادًا في جيل الألفية Millennials (1980-2000)، حيث تراجعت الفجوة إلى -2 لأول مرة في تاريخ الكيان.
🔴انتقد الحزب الجمهوري تطبيق “تيك توك”، مدعياً أنه يروج عمداً للمحتوى الداعم لفلسطين منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، بهدف “غسل عقول الشباب لدعم حمـ..ـاس”، داعياً إلى حظر التطبيق الذي يسيطر عليه الحزب الشيوعي الصيني.
📌 ردًا على ذلك، نشر التطبيق بيان ذكر فيه أن انتشار المحتوى… pic.twitter.com/hl0hwbuU7V
— نون بوست (@NoonPost) November 17, 2023
ومع توالي حروب “إسرائيل” على الأراضي المحتلة وبخاصة قطاع غزة منذ العقد الأول للألفية، ازدادت الفجوة اتساعًا؛ ففي استطلاع رأي لمؤسسة بيو، وهي مؤسسة أمريكية للدراسات واستطلاعات الرأي، أجري بين عامي 2019 و2022، كانت الكفة راجحة لصالح الشعب الفلسطيني بنسبة 61% من الذين بلغت أعمارهم بين 18 و29، مقابل 56% للإسرائيليين، بينما قلت النسبة بالتوالي كلما تقدم المستطلعة أعمارهم؛ ففي فئة 30-49 عامًا، أيد 65% الإسرائيليون مقابل 55% تعاطفوا مع الشعب الفلسطيني، وفي فئة 50-64 عامًا، تعاطف 68% مع الشعب الفلسطيني مقابل 45% مع الإسرائيليين، وحل الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا في آخر القائمة بنسبة تأييد 78% للإسرائيليين مقابل 47% للفلسطينيين.
وفي استطلاع رأي آخر سبق الأحداث أجرته مؤسسة بيو عام 2022، أظهر 41% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا تأييدًا لـ”إسرائيل” في مقابل 69% من الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا، بينما أظهر استطلاع رأي مشابه أجرته مؤسسة جالوب الأمريكية قبيل الأحداث بأشهر قليلة أن الشباب الديمقراطيين يظهرون تعاطفًا متزايدًا مع الفلسطينيين بنسبة 49% مقابل 38% منهم يؤيدون “إسرائيل”.
لأول مرة.. استطلاع جامعة كوينيبياك يظهر أن 60٪ من الأمريكيين يرفضون إرسال المزيد من الدعم العسكري لـ “إسرائيل”. pic.twitter.com/R9iUobsUcU
— نون بوست (@NoonPost) August 29, 2025
ولم يشذّ اليهود الأمريكيون عن قاعدة الأجيال هذه؛ ففي استطلاع رأي لمؤسسة بيو أُجري عام 2020، أظهر 67% من اليهود الأمريكيين الذين تبلغ أعمارهم 65 عاماً فأكثر اتصالاً وثيقاً بـ”إسرائيل” مقابل 48% من اليهود الأمريكيين الذين تقع أعمارهم في الفئة العمرية 18-29.
لا تقتصر الفجوة العمرية على مجرد التعاطف مع أحد الشعبين أو تفضيل أحدهما على الآخر؛ بل تتعدى ذلك لتوصيف السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة ووضعها في قوائم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والانتهاكات الحقوقية الجسيمة، ما يعني ضرورة محاسبة الضالعين فيها من جهة، وإلمام الجيل الشاب بأساسيات الصراع، على عكس ما تدعيه الصهيونية من جهل وتضليل للجيل الغر.
استطلاع رأي لـ “رويترز/إيبسوس” يكشف أن أغلبية الأمريكيين تؤيد الاعتراف الدولي بفلسطين، و59% ضد حرب الإبادة على غزة. pic.twitter.com/yvhjOH1xcP
— نون بوست (@NoonPost) August 22, 2025
في مسح أجرته منظمة يهود ديمقراطيين تقدميين عام 2021، تبيّن أن 43% من اليهود الذين تقل أعمارهم عن 40 سنة يعتبرون معاملة “إسرائيل” للفلسطينيين تشابه سياسة التمييز العنصري ضد الملونين في الولايات المتحدة، مقابل 27% فقط يشاطرونهم الرأي ممن تجاوزوا الـ 64 سنة. وأن 38% ممن تقل أعمارهم عن 40 يعتبرون “إسرائيل” دولة فصل عنصري، مقابل 13% ممن تزيد أعمارهم عن 64 سنة. وأخيرًا، فقد رأى 33% من اليهود الذين تقل أعمارهم عن 40 سنة أن “إسرائيل” ترتكب جريمة إبادة ضد الفلسطينيين، مقابل 15% ممن تزيد أعمارهم عن 64 سنة. والصادم في المسح هو أن 20% من الشباب المستطلعين يرون أن “إسرائيل” لا تملك حتى حق الوجود.
ولم يمر شهر على الأحداث حتى انقلب المشهد بشكل دراماتيكي؛ فقد أظهر استطلاع رأي لجامعة كوينيبياك الأمريكية أن 65% من الشباب الأمريكي يعارضون بقوة إرسال أسلحة ومساعدات عسكرية لـ”إسرائيل”، مقابل 69% مؤيدين في أوساط الذين تزيد أعمارهم عن 65 سنة.
• أظهر استطلاع حديث أجرته The Harris Poll وHarrisX أن دعم الشباب الأميركي (18–24 عامًا) لحمــ.ــاس وصل لنسبة 60%.
• ازدادت نسبة دعم الاحتلال مع تقدم العمر لتصل 89% بين كبار السن فوق 65 عامًا.
• واعتبر نصف المشاركين في هذا الاستطلاع أن الاحتلال يرتكب إبادة جماعية في غزة.… pic.twitter.com/sptknPWdpd
— نون بوست (@NoonPost) September 1, 2025
حافظت استطلاعات الرأي الأمريكية خلال عامين من حرب الإبادة الإسرائيلية في القطاع على الفجوة العمرية في توصيف الصراع والاصطفاف إلى أحد طرفيه على السواء؛ ففي آخر استطلاع رأي أجرته هاريس-هارفارد وهاريس إكس لاستطلاعات الرأي نهاية آب الماضي، عبّر 60% من شباب جيل “زد” الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عن تفضيلهم لحماس على “إسرائيل”.
النسبة الصادمة تراجعت بثبات لصالح “إسرائيل” كلما تقدم المستطلعة آراؤهم في العمر لتأتي النتائج لصالح “إسرائيل” كالآتي: 25-34 سنة (65%)، 35-44 سنة (70%)، 45-54 سنة (74%)، 55-64 سنة (84%)، وأخيرًا 65 سنة فما فوق (89%). مع العلم أن الاستطلاع حصر السؤال بحماس و”إسرائيل” ولم يتطرق للفلسطينيين عمومًا.
ورغم ذلك، فإن نصف المستطلعين عمومًا وصفوا الحرب الإسرائيلية بالإبادة الجماعية، وأكثر من نصفهم أرجعوا انتقاد “إسرائيل” لانتهاك حقوق الفلسطينيين وليس لمعاداة السامية.
عصيان الطلبة: دروس التاريخ تثمر
قاد جيل “زد” احتجاجات الجامعات الأمريكية ربيع 2024، والتي كانت معلمًا فاصلاً في النضال المجتمعي الأمريكي للدفاع عن حقوق الفلسطينيين ورفض الدور المتواطئ لجامعاته وحكومة بلاده في حرب الإبادة الجماعية التي تقودها “إسرائيل” في القطاع. وقد استطاع الطلبة أن يشلوا الحياة الجامعية لأسابيع متلاحقة، وأرغموا بعض الإدارات على التوصل إلى اتفاقيات لإنهاء شراكاتها مع الاحتلال؛ غير أن رد الفعل الرسمي، سواء لإدارات الجامعات أو للحكومة الأمريكية، كان مزلزلاً إدراكًا منهم لخطورة الموقف ومنعًا لتكراره.
طوال أشهر الصيف، أعادت إدارات الجامعات وجماعات الضغط الصهيونية تموضعها ووضعت خططًا لا لمنع تكرار الأحداث وحسب، ولكن لمعاقبة الضالعين فيها وجعلهم عبرة لمن يعتبر. تغيرت سياسات الجامعات الداخلية وتم منع التظاهر في ساحاتها إلا بشروط مشددة، وعوقب من قاد المظاهرات فيها بالفصل المؤقت أو الطرد الكلي، كما وشدد أمن الجامعات قبضته في الحرم الجامعي.
الحكومة الأمريكية لم تكتفِ بهذه الخطوات التي أجهضت الحراك الطلابي وجمّدته إلى حدّ كبير، بل واصلت ضغطها على إدارات الجامعات مستخدمةً كرت التمويل الفيدرالي والامتيازات الحكومية لمزيد من الابتزاز والتضييق يضمن عودة الرواية الإسرائيلية للتسيّد، وكمحاولة أخيرة للسيطرة على جيل “زد” ووعيه.
كما لاحقت الجيل المتخرج حديثًا في أماكن عمله وضغطت على إدارات الشركات والمؤسسات الخاصة منها والعامة لطرد ومنع توظيف الضالعين في الاحتجاجات الطلابية، غير أن هذه الشيطنة والملاحقة المحمومة لطلبة غضّين تجرأوا على الرفض ورفع الصوت لم تمنع هذا الجيل من التطرف كليًا في دعمه للقضية الفلسطينية والاصطفاف كليةً مع شعار “من البحر إلى النهر” والمقاومة المسلحة كحق للفلسطينيين، الشعار الذي يرى فيه مؤيدو إسرائيل دعوة للقضاء على إسرائيل وانضواءً تحت لواء “الإرهاب”.
جرأة جيل “زد” المنخرط في العملية الأكاديمية الأمريكية وتنوّعه العرقي والثقافي وسقف مطالبه العالي دفع بالحكومة الأمريكية لمحاولة فهم الدافع وراء ثورته ومدى تأثير المؤسسات التعليمية والحريات التي تمنحها على الحركة الطلابية، فقد اتهم ترامب الجامعات الأمريكية خاصة جامعات النخبة بكونها وكرًا لليساريين والشيوعيين وأن تركيبتها الطلابية تعتمد على الشباب المهاجر والملون الذي يحمل رؤىً ثورية “معادية لأمريكا”. مطالبًا إياها بإجراء تغييرات جذرية في قبول الطلبة وتعيين الهيئات التدريسية والإدارية لتعتمد مرة أخرى على الرجال البيض الذين يحملون مبادئ موالية للصهيونية، وهو ما رفضته الجامعات وخاضت ضده معارك قضائية متعددة.
ترامب لم يكن أول من اتهم الجامعات بحشو رؤوس الطلبة بالنظريات الثورية المناهضة للاستعمار؛ فقد سبقه منظرون وأكاديميون صهاينة اشتكوا من الهيئات التدريسية التي تستقدم العقول الشرقية والأجنبية القادمة من دول العالم الثالث وإعطائها منابر لتشكيل عقول شباب جاهل تغريه المبادئ الثورية وإدعاءات المساواة والشيوعية بحسب وصفهم. ففي مقابلة له مع جون أندرسون، يشير نيل فيرجسون، المؤرخ والأكاديمي الأمريكي الشهير، إلى إعتلاء الإسلاميين و”الجهاديين” لمنابر التعليم في الولايات المتحدة من خلال سياسات الهجرة والتبادل الأكاديمي في الجامعات ذات التوجهات اليسارية والليبرالية، ما أتاح لهم “التلاعب بعقول الجيل الصاعد”.
استطلاعات الرأي بين طلبة الجامعات كشفت عن تأييد ساحق للحق الفلسطيني بين الطلبة؛ ففي استطلاعات لنيوز ويك وجينيريشن لاب وإنتليجينت دوت كوم، وهي مؤسسات معنية بقياس الحياة العامة ومواضيعها المفصلية، تبيّن أن 3 من كل 5 طلاب يؤيدون الحق الفلسطيني، و1 من كل 10 يشاركون في الاحتجاجات والفعاليات المناصرة للفلسطينيين، و65% من الطلبة يؤيدون الحراك الطلابي الداعم لفلسطين، ما يعكس أن الطلبة يضعون النظريات التي استلهموها من دراسة التاريخ والمجتمعات الإنسانية والحقوق والحريات موضع التطبيق، في فرصة تاريخية نادرة وفقًا لأستاذ التاريخ في جامعة نيويورك روبرت كوهين.
محاولة للفهم: كيف نشأت الفجوة عبر السنين؟
يرى الباحث جوردان ماشنيك، وهو رئيس تحرير في موقع فيكس جوف الأمريكي، أن الأحداث التي تتوارد صورها للشاب الأمريكي من قطاع غزة تعدّ صدمة لجيل “زد” الذي يختبر الدم المراق في هذا الصراع لأول مرة بهذه الصورة الحادة، وأنه وبرغم أن عددًا منهم مطّلع على معاناة الفلسطينيين بصورة شخصية، إلا أن معظمهم يتقمّص آراءً عامة مناهضة للاستعمار يقترب فيها اليسار الأمريكي، برأي الكاتب، من تصور حماس لتدمير “إسرائيل” الكلي. في المقابل، يعزو ماشنيك ميل اليهود الشباب للفلسطينيين لابتعادهم عن معاناة الجيل الأول في تأسيس الدولة، وعن حلم اليهود بتقرير المصير في ظل عصر تسود فيه معاداة السامية بصورة غير مسبوقة في ظل عدم احتكار الرواية الإعلامية وخروج مصادر الصورة والمعلومة عن السيطرة الرسمية.
في المقابل؛ يرى آدم ثال، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة لويولا ماريماونت، أن الصراع في الشرق الأوسط يشكّل بالنسبة للجيل الشاب مثالاً صارخًا على علاقات الاضطهاد والعنصرية والاستعمار التقليدي الذي حكم البشرية وصبغ التاريخ بالدم والظلم؛ إنه، على عكس صراعات أخرى كتلك التي تشكّلت في السودان أو بين روسيا وأوكرانيا، يشكّل صراعًا للملونين والشعوب الأقل حظًا في مواجهة التفوقية البيضاء والعقلية العنصرية الغربية؛ وهو ما يجعله ساحة نضال للشباب لوقف ظلم تاريخي لطالما درسوا عنه وعن فظائعه.
بينما لعبت هجمات الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها من انتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا دورًا مهمًا في تشكيل وعي جيل الألفية وانخراطه في القضية الفلسطينية التي تأثرت سلبًا بحملات كراهية المسلمين التي قادتها جهات صهيونية أمريكية ربطت حركات التحرر الفلسطينية بـ”الإرهاب والتشدد الإسلامي”. عاش جيل “زد” في المقابل تبعات الإسلاموفوبيا وما تولّد عنها من عنصرية وتمييز وانتهاكات حقوقية متعددة جعلته يفلت من طوقها وينزع باتجاه العدالة الاجتماعية والتنوع الإنساني والعرقي، مستفيدًا من العمل الحقوقي والشعبي الجبّار الذي بذلته منظمات شعبية وحقوقية مسلمة ومؤيدة للحق الفلسطيني خلال العقدين الماضيين بالتوعية والنضال المجتمعي والحقوقي الطويل في المحاكم والمجالس التشريعية وحرم الجامعات وعلى مستوى المجتمعات الأمريكية المتنوعة.
من ناحية أخرى، شهدت الولايات المتحدة الأمريكية في العقود الأخيرة تغيرًا لافتًا في تركيبتها العرقية؛ فهجرة الشباب إلى جانب الأجيال الجديدة التي نتجت من مهاجرين سابقين أفرزت تركيبة عرقية ملونة أفقدت المجتمع الأبيض مركزيته وتفوّقه، وساعدها في ذلك تغيّر مصادر الثروة واقترابها من العقول والملكات بدلاً من الثروة المتوارثة المركّزة في فئات معينة تمتلك القوة والنفوذ. يحمل الشباب الملون رؤىً وتصوّرات مناهضة للعنصرية والاستعمار تقترب من معاناة الشعوب الأقل حظًا وترفض الإمبريالية بكافة صورها.
وقد أنتجت هذه التركيبة العرقية الجديدة والمميزة حركة شعبية ومدنية قوية للتنوع والحقوق الفردية والجماعية في تشابه مع حركة الحقوق المدنية التي نشطت في خمسينات وستينات القرن الماضي، والتي ناضلت في سبيل المساواة العرقية وإنهاء التمييز العنصري ضد السود في الولايات المتحدة. فقد نشأ جيل زي في فورة حقوقية مشابهة قادتها حركة “حياة السود مهمة” وحركات نسوية وملونة استعاد فيها النضال الاجتماعي مجده وارتبط بنضالات متعددة للمساواة والعدالة في المجتمع الأمريكي.
عملت لسنوات عديدة على تشكيل وتقوية هذا الحراك المجتمعي حركات طلابية ومنظمات شعبية متعددة المشارب تتبنى سردية واحدة مناهضة للاستعمار والتفوقية البيضاء والظلم المجتمعي. كان من الطبيعي أن تجد حركة مناصرة الحق الفلسطيني مكانًا رائدًا لها ضمن هذه الطفرة في النشاط المدعوم بالحقوق الدستورية والرقابة المجتمعية من خلال الإعلام البديل على شبكات الإنترنت ومواقع التواصل.
اصطياد الثعلب في وكره: التكنولوجيا والإعلام التقليدي
امتلك جيل زي ومن بعده جيل الألفية تقنيات وأساليب تكنولوجية، ورثوها من طفرة عصر التكنولوجيا وطوروها خلال فترة انتشار الوباء، حيث تحوّل المجتمع الأمريكي للاعتماد على الأجهزة الذكية في العملية المهنية والتعليمية، وقد مكّنتهم هذه التقنيات من التعرف بسهولة على المعسكرات الإعلامية الموجهة والبروباجندا التي تصنعها بالمال والقوة؛ فهذا الجيل الذي تفتّح في عصر الليبرالية الجديدة والذي يعتمد في معلوماته على مصادر الإنترنت المفتوحة وتبادل الخبرات والتنقل الشخصي حول العالم، إضافة للتنوع العرقي والثقافي في صفوفه، يتعامل مع الإعلام الرسمي كزبون أكثر منه مواطن يمتلك حقوقًا، ما جعله يرفض أن يكون ضحية لغسل الأدمغة والتوجيه الأعمى كما كان سابقيه.
وقد كانت المواد المفبركة التي استخدمتها “إسرائيل” والأكاذيب الركيكة التي حاكها الإعلام الأمريكي الموالي لها والذي تبنى رواية الهاسبارا جملة وتفصيلا؛ ككذبة الاغتصاب وقطع رؤوس الأطفال يوم السابع من أكتوبر إضافة للأكاذيب المتعلقة بالمستشفيات في القطاع وغيرها من أعمدة الرواية الإسرائيلية التضليلية، أكبر محرك باتجاه نبذ الرواية الإسرائيلية والتوجه للإعلام الشبابي البديل. فقد تابع الشباب المختصون في الكشف عن الصور المفبركة المولدة بالذكاء الصناعي والترجمات غير الدقيقة والتكنولوجيا الأمنية الموجهة، والتي كانت حكرًا فيما مضى على المختصين، منصات الإعلام الرسمية وكشفوا أكاذيبها وادعاءاتها فيما يشبه العواصف على مواقع التواصل، ما دفع ببعض القنوات للتراجع عن بعض فبركاتها والاعتذار للجمهور فقط بعدما لم تجد لنفسها مخرجًا.
ما العلاقة بين قانون حظر تيك توك في #أمريكا والحرب على #غزة؟ يجيب على هذا السؤال قاضٍ سابق في محكمة العدل الدولية pic.twitter.com/sbwjVxMKQN
— نون بوست (@NoonPost) February 17, 2025
في مقابل معسكر التجييش والفبركة والبروباجندا الموجهة التي قادتها مؤسسات الإعلام الرسمي في الغرب؛ ظهر عدد من الصحفيين والناشطين والمؤثرين الفلسطينيين من القطاع يبثون الصور والقصص الإنسانية بصورتها الحية بلا “فلترة” ولا تجميل؛ بلغة إنسانية بسيطة مباشرة دون آلية أو تعقيدات تاريخية ودينية مضللة تمترست خلفها آلة الإعلام الصهيونية. تمكنت حسابات الفلسطينيين من القطاع على مواقع التواصل الاجتماعي من السيطرة على الرواية ووعي الجيل الجديد الذي يقضي ساعات طوال على حساباته على هذه المواقع ويراها بوابته على العالم وطريقته للتأثير والتواصل وتغيير مجريات الأمور.
وقد كانت مواقع التواصل الاجتماعي المعتمدة على الجمهور والمبتعدة عن الرقابة والوصاية شرارة هذا الحراك وسط جيل “زد”؛ فوفقًا لعدد من التقارير، تعد مواقع التواصل الاجتماعي المصدر الرئيس للأخبار لجيل زي حيث يتلقى 71% منهم أخباره اليومية من هذه المواقع مقابل أكثر من 90% من شباب هذا الجيل يلجؤون إليها للأخبار بشكل أسبوعي على الأقل في عزوف هو الأكبر من نوعه عن متابعة مصادر الأخبار التقليدية، وخاصة وسائل الإعلام الأمريكية الرسمية المحسوبة في معظمها على التيارات الصهيونية والمؤيدة لـ”إسرائيل”.
210 ألف منشور استخدم وسم “قف مع فلسطين”، فيما استخدم 17 ألف منشور وسم “قف مع إسرائيل” على منصة تيك توك.
🔻 استمر في دعم القضية الفلسطينية في كل الميادين المتاحة ولا تبخل بأي كلمة في وجه الظلم#StandwithPalestine pic.twitter.com/8ADgOdUYqA
— نون بوست (@NoonPost) November 8, 2023
وقد تصدّر موقع التواصل الاجتماعي الشبابي تيك توك، والذي يعدّ أكثر من نصف مستخدميه ممن تقل أعمارهم عن 30 عامًا، واجهة المشهد في الفجوة العمرية في الولايات المتحدة؛ ففي مثال كثر استخدامه لاحقًا تصدّر وسم “فلسطين حرة” المنصة لفترة طويلة بمشاركة فاقت الـ 31 مليار مرة مقابل 590 مليون مرة لوسم “أقف مع إسرائيل”. وقد تحوّلت المنصة إلى قبلة للشباب الأمريكي للتعبير عن آرائه وتوجهاته في حرب الإبادة المبثوثة بشكل مباشر، والتي تعدّ حكومة بلادهم ضالعة فيها بشكل رسمي ومعلن بعد عدة تقارير أفادت بالتحكم بالمحتوى الفلسطيني على منصات مثل جوجل وميتا وإكس، جاعلةً من تيك توك مساحة حرة للتعبير.
استقطبت ظاهرة التعاطف مع الفلسطينيين على منصة تيك توك انتباهًا رسميًا وشعبيًا واسعًا؛ ففي ظاهرة سُميت بـ”تيك توك جيل زد” ظهرت حركة واسعة بين المراهقين واليافعين الأمريكيين تعتمد على المؤثرين بشكل رئيسي وتناهض ما أسمته بـ”بروباجندا الإعلام الرسمي وأكاذيبه” الذي شكّل وعي آبائهم والأجيال الأكبر سنًا ودفعها لتبني الرواية الإسرائيلية وبالتالي الانحياز للطرف الخاطئ من التاريخ.
“نحن بحاجة لحظر تيك توك إلى الأبد”.. المرشحة للرئاسة الأمريكية، نيكي هيلي، تدعو إلى حظر منصة تيك توك بسبب ازدياد المحتوى الداعم للفلسطينيين بنسب عالية مقارنة بمؤيدي “إسرائيل”#غزه_مقبرة_الغزاة #غزة_الآن pic.twitter.com/Liq98NqhYN
— نون بوست (@NoonPost) December 7, 2023
توسعت رقعة الاحتجاجات الشبابية والمواد المناصرة للفلسطينيين على المنصة في زمن قياسي، الأمر الذي دفع بمشرعي الكونجرس للضغط باتجاه حجب تطبيق تيك توك في الولايات المتحدة واستدعاء مؤسسه للتحقيق في مدى تحيز التطبيق للرواية الفلسطينية في مقابل نشر معاداة السامية بين أوساط المراهقين الأمريكيين. بل حدا بمرشحة الرئاسة السابقة عن الحزب الجمهوري نيكي هيلي باتهام المنصة بجعل 17% من الناس أكثر عداءً لـ”إسرائيل” وأكثر مولاةً لحماس.
بالفكاهة والتهكم والمقاطع التصويرية الشخصية والوسوم التي انتشرت انتشار النار في الهشيم، لحِق شباب التيك توك والمؤثرين والطلبة الأمريكيين السياسيين والإعلاميين وأبواق الحرب من الصهاينة والمؤيدين لـ”إسرائيل” وبنوا سرديتهم القائمة على مناهضة البروباجندا الإسرائيلية- الأمريكية التي يدفع المدني الفلسطيني ثمنها من دمه، حيث نتجت ثورة الشباب على مواقع التواصل من جهود شخصية وملكات تكنولوجية لا تحتاج للمال ويصعب التحكم فيها وحصرها رغم كل معسكرات القمع والاتهامات والمحاصرة التي واجهها جيل “زد”.
هربًا من قيود الخوارزميات، والتقييد المنحاز للرواية الإسرائيلية، جيل Z يعود للملصقات واللوحات والكُتيّبات للتعبير عن التضامن مع #غزة pic.twitter.com/T02FUmqVWS
— نون بوست (@NoonPost) August 22, 2025
هفوة شباب أم تغيير في مجرى التاريخ؟
يمتلك جيل “زد” مفاتيح المستقبل للسياسة الأمريكية، فأكبرهم سنًا مؤهلٌ منذ اليوم للجلوس في الكونجرس وتولي المناصب التمثيلية والدبلوماسية الأمريكية، بينما يحتاجون لأقل من عشر سنوات للترشح لمنصب رئيس الولايات المتحدة. هم يشكلون حاليًا قاعدة انتخابية عريضة نسبتها 20% من مجموع المصوتين في الولايات المتحدة؛ نسبة استطاعت في ولايات مهمة أن تفرض رؤيتها في انتخابات الكونجرس والبلديات وعمادة الولايات، معيدة كرة تلو الأخرى أسماء مثل رشيدة طليب وإلهام عمر لمقاعد الكونجرس، ومستقدمة أسماء مثل زهران ممداني لعمادة وكر الصهيونية وأهم معاقلها: ولاية نيويورك.
📌 استطلاع يكشف أن الناخبين الجدد في نيويورك يدعمون ممداني بسبب دعمه لحقوق الفلسطينيين.
📌 تفضيلاتهم السياسية تشير إلى تفضيل المرشحين المعارضين لدعم الأسلحة لـ “إسرائيل” والمعارضين لمحاولات ترامب ضد الطلاب المؤيدين لفلسطين. pic.twitter.com/bveIXaPgvK
— نون بوست (@NoonPost) July 30, 2025
هذا الجيل يحتل حاليًا مقاعد الجامعات الأمريكية من أعرقها تاريخًا حتى أصغر حرم جامعي فيها؛ متحكمًا بمشهد الأكاديميا والساحة العلمية والثقافية الأمريكية، ويمهّد في الغد المنظور لجيلٍ عاملٍ وممسك بزمام الاقتصاد؛ فارضًا رؤى اقتصادية مناوئةً للعلاقات الاستعمارية التقليدية ورافضًا للشراكات مع الضالعين في الإبادة الجماعية والفصل العنصري الإسرائيلي في الأراضي المحتلة؛ حيث سيكون هو عمّا قريب الطرف المتحكم في هذه الشراكات والمالك لعالم الأعمال والتجارة، ما يهدد الرأسمالية الصهيونية القائمة في لبّها على التكاتف الإسرائيلي-الأمريكي.
وقد شارك جيل “زد” حتى اللحظة في ثلاث انتخابات رئاسية بأعداد متزايدة؛ وهو الجيل الذي فتح عينيه على حرب العراق وأفغانستان والحرب الأمريكية المفتوحة على الإرهاب، وشهد التوتر المتنامي مع روسيا والصين والحرب الروسية الأوكرانية وحرب الإبادة الإسرائيلية، ما يجعله جيلاً سياسيًا بإمتياز يميل إلى الضلوع في النظام الدولي والمشاركة في معضلات العالم دون أن يحمل معتقدات عنصرية وتفوقية ترى في الولايات المتحدة قائدة مفردة للعالم.
وفقًا لمسح أجرته منظمة أبحاث الأديان في الولايات المتحدة؛ يتميز جيل “زد” عن سابقيه بكونه متفتحًا على التنوع العرقي والدور الاستعماري لحكومة بلاده في الخارج، وأكثر تعاطفًا مع المعاناة الإنسانية وميلاً للانخراط في الحياة العامة، ما يجعل من مبادئه ومعتقداته مادة السياسة الأمريكية الداخلية والخارجية على السواء في العقود القليلة القادمة.
إذن يبدو أن رياح التغيير قادمة للولايات المتحدة وهي تنضج على نار هادئة ستؤتي أكلها عمّا قريب؛ إذ إن المسألة الجلية للقاصي والداني كما لخصها رئيس رابطة مناهضة التشهير، المنظمة الصهيونية الأمريكية الأبرز، جوناثان جرينبلات: أن الصهاينة “لديهم مشكلة؛ إنها ليست صراع اليمين واليسار، إنها صراع الأجيال”.