شدد رئيس الوزراء السوداني كامل إدريس في تغريدة له على حسابه الرسمي على منصة “إكس” في الخامس من سبتمبر/أيلول الجاري على ضرورة حماية ثروات السودان من النهب والتهريب، ومساعدة قوات مكافحة الفساد في ملاحقة المتورطين في تلك العمليات، خاصة تهريب الذهب.
وأجاز إدريس ما أسماه توصيات اللجنة العليا للطوارئ الاقتصادية، التي تهدف إلى إصلاح الاقتصاد الوطني السوداني وضبط موارده، والتي اعتبرها أولوية لا تحتمل التأجيل، منوهاً على ضرورة ضبط حركة الاستيراد ومنع دخول البضائع غير المستوفية للضوابط، وإنشاء منصة رقمية لمتابعة الصادرات والواردات منذ خروجها وحتى وصولها للسودان.
تأتي تلك التوصيات في وقت يواجه فيه البلد الأفريقي تجريفا ممنهجاً لموارده وثرواته لحساب ميليشيات وعصابات وقوى داخلية وخارجية، أفرغته من إمكانياته التي لو أحسن استخدامها لكان في مرتبة اقتصادية أخرى على خارطة الاقتصاد الأفريقي والعالمي، فهو ثالث أكبر منتج للذهب في القارة السمراء خلف جنوب إفريقيا وغانا، والتاسع بين الدول المنتجة على مستوى العالم.
أجزت بالامس توصيات اللجنة العليا للطوارئ الاقتصادية، إيمانًا مني بأن إصلاح اقتصادنا وضبط موارده أولوية لا تحتمل التأجيل.
هذه القرارات تستهدف:
✨ حماية ذهبنا وثرواتنا من التهريب عبر حصر الشراء والتصدير في بنك السودان المركزي.
✨ تمكين قوات مكافحة التهريب وتجريم تخزين الذهب بكميات… pic.twitter.com/xCbc3AYSzu
— Dr.Kamil Idris (@sdprimeminister) September 5, 2025
إلى جانب الذهب، يمتلك هذا البلد الممتد من سواحل البحر الأحمر إلى وسط أفريقيا قائمة مطوّلة وثرية من الثروات التعدينية التي يعدها خبراء معادن استراتيجية ضمن محددات المستقبل القريب، وأحد ساحات التنافس بين القوى الكبرى، كالنحاس والحديد والكروم والمنغنيز والرخام والحجر الجيري واليورانيوم والميكا.
وبينما يزخر باطن السودان بكل تلك الثروات التي لا يتوفر معشارها لدى قوى اقتصادية عظمى قائمة بالفعل، يرزخ أكثر من نصف سكانه — أي 24.6 مليون شخص — في مستنقع الجوع الحاد بحسب التقارير الأممية، فيما يعاني ما يقرب من 638 ألف شخص من المجاعة الفعلية التي تضع حياتهم على قوائم الموت البطيء.
هذا التناقض الفجّ والهوة السحيقة بين ما يمتلكه السودان من ثروات تعدينية نفيسة وما يعيشه سكانه من واقع اقتصادي هزيل ووضع معيشي كارثي، يدفع بالكثير من التساؤلات حول منظومة الذهب تحديداً ومسارات تهريبه، وكيف تحول من مورد اقتصادي إلى وقود للصراع بين الجنرالات على كعكة النفوذ والسلطة.
مورد السودان الأول
لم يكن الذهب بالنسبة للسودان — كأي دولة أخرى — مجرد مورد اقتصادي هام يدر عائداً على الخزينة الوطنية للدولة، إلى جانب موارد أخرى متنوعة بين الزراعي والصناعي والمائي والسياحي وخلافه، بل بات يشكل عصب الاقتصاد الأول ومورد البلد الرئيسي، والضمانة الوحيدة لبقائه على قيد الحياة ولو عبر أجهزة التنفس الصناعي.
وقد شكّل انفصال جنوب السودان في 2011 ضربة قاسية للاقتصاد السوداني، حيث خسرت الخرطوم نحو 70% من احتياطاتها النفطية المقدّرة بحوالي 6 مليارات برميل، والتي كانت تقع معظمها في أراضي الجنوب، كما خسرت الجزء الأكبر من خارطتها التصديرية، إذ استحوذت صادرات النفط في عام الانفصال على 75.6% من حجم الصادرات السودانية، محققة عوائد بلغت 7.3 مليار دولار من 9.7 مليار دولار هي إجمالي الصادرات السودانية.
وبعد عام واحد فقط من الانفصال، تراجع عائد الصادرات السودانية من 9.7 مليار دولار إلى 3.4 مليار دولار، بسبب حرمان السودان من النفط الذي استحوذت عليه الدولة الجنوبية، وهو ما دفع الدولة وقتها للبحث عن بدائل أخرى لتعويض هذا العجز الكبير، فاتجهت الأنظار صوب قطاع التعدين، خاصة الذهب الذي تعامل معه البعض بصفته “المنقذ الجاهز والمحتمل” للاقتصاد السوداني.
وبالفعل، بدأ إنتاج السودان من الذهب يشهد طفرات متلاحقة، بلغت ذروته عام 2015 بإنتاج وصل 107.3 طن، ما جعل البلاد تحتل المرتبة الثالثة إفريقيًا في قائمة كبار المنتجين، لكن سرعان ما تهاوى الإنتاج مع بداية عام 2018، حيث وصل لأدنى مستوى له منذ عام 2011 إلى أن بلغ 35.7 طن عام 2020، أي أقل بنسبة الثلثين تقريباً عما كان عليه قبل خمسة أعوام.
في تلك الأثناء، طُرح ملف تهريب الذهب على قوائم النقاش والدراسة والبحث، الرسمي وغير الرسمي، وذلك بعدما وصلت الأمور إلى مستويات قاسية من الجدل وتبادل الاتهامات، خاصة بعدما كشفت وزارة المعادن عن حجم الفاقد في الذهب خلال النصف الأول من عام 2018، والذي بلغ 48.8 طن، أي تقريباً أكبر من إجمالي حجم الإنتاج المعلن رسميًا.
ومع اندلاع حرب الجنرالات في أبريل/نيسان 2023، وتفاقم الوضع الاقتصادي المنهك بسبب انهيار العملة وتجمد الاستثمارات، وتفاقم الاضطرابات السياسية والأمنية التي انعكست على المشهد الاقتصادي، إذ انكمش معدل النمو الاقتصادي إلى سالب 18.3% مقارنة بسالب 2.5% في 2022، زادت وتيرة التنقيب عن الذهب والاستعانة به للخروج من تلك الشرنقة.
وبالفعل، بدأت المؤشرات تتضح سريعًا حيث بلغ الإنتاج في مطلع عام 2025 قرابة 64 طنًا، وهي الطفرة التي اعتبرها البعض خطوة أولى لوقف التدهور ولبنة مهمة في بناء الاستفاقة، وذلك رغم البون الشاسع بين هذا الرقم وما كان عليه قبل سنوات، لكن وعلى الجهة المقابلة أقرت الحكومة باستمرار نزيف التهريب الذي لم يتوقف، فعلى لسان المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية محمد طاهر عمر، فإن نحو 48% من صادرات الذهب ما زالت خارج القنوات الرسمية.
وهكذا مثل تهريب الذهب أحد أبرز التحديات الاقتصادية التي تواجه السودان، حيث تفقد الدولة سنويًا ما يقرب من 7 مليار دولار قيمة الذهب المهرب، كان يمكن أن تُنعش خزينة البلاد في حال تحصيلها عبر القنوات الرسمية، وهو ما كان له أثره على الموازنة وعجز الحكومة عن الوفاء بالتزاماتها، الأمر الذي دفع للمطالبة بفرض قيود مشددة لوقف نزيف التهريب أو على الأقل تقليل مخاطره.
خارطة متشعبة
تتباين التقديرات حول حجم الإنتاج السوداني من الذهب سنويًا، فبينما تذهب الإحصاءات الرسمية إلى إنتاج بلغ نحو 41.8 طناً عام 2011، تتأرجح الأرقام الخاصة بالإنتاج العام الماضي بين 64 – 80 طنًا، بسبب توسّع التعدين الحرفي وارتفاع أسعار الذهب عالميًا، ويعكس هذا التباين صعوبة القياس، والتهريب، والتسجيل.
أما بخصوص الاحتياطات الموثقة من هذا المعدن النفيس، فلا توجد قاعدة بيانات دولية شفافة ومتكاملة، لكن إحصاءات حكومية ومراجعات تشير إلى أرقام كبيرة لتلك الاحتياطيات المؤكّدة والمرشّحة، تتباين بين 533 – 1550 طنًا، وهو ما يسهل عملية التهريب ويضع العراقيل أمام الجهود الرقابية.
ويضم السودان أكثر من 40 ألف موقع مخصص لتعدين الذهب، يعمل بها نحو 60 شركة لتكريره موزعة على 13 ولاية، من بينها 15 شركة تتركز في ولاية جنوب كردفان وحدها، فيما منحت الحكومة مؤخرًا رخصًا لأكثر من 85 شركة للبحث عن الذهب وإنتاجه، في إطار سعي الدولة لتعزيز إنتاجها من المعادن للحصول على مصادر جديدة لإيرادات الدولة والنقد الأجنبي لتمويل الواردات.
منجم هساي (حسّي)
يُعد منجم هساي في شمال شرق السودان أحد أهم مواقع إنتاج الذهب في البلاد، وهو المنجم الوحيد العامل في تلك المنطقة الغنية بالمعادن. اكتُشف عام 1993، ومنذ تشغيله وحتى 2011 بلغ إنتاجه نحو 2.3 مليون أوقية من الذهب استُخرجت من 18 حفرة مفتوحة.
يبعد المنجم حوالي 50 كيلومترًا عن الخرطوم، وتعود ملكيته إلى شركة أرياب للتعدين السودانية (بحصة 60%) وشركة لا مانشا ريسورسز المملوكة لرجل الأعمال المصري نجيب ساويرس (بحصة 40%). تُقدَّر الاحتياطيات المؤكدة والمحتملة بحوالي 14.09 مليون طن بمتوسط تركيز 2.4 غرام ذهب/طن، في حين تصل الموارد المقاسة والمُشار إليها إلى 16.06 مليون طن بمعدل 2.77 غرام/طن، أما الموارد المستنتجة فتبلغ 4.3 ملايين طن بالتركيز نفسه.
منجم بلوك 15
تُعد منطقة قبقبة شمال مدينة أبو حمد بولاية نهر النيل من أبرز مواقع تعدين الذهب في السودان، حيث يتصدر التعدين الأهلي (التقليدي) النشاط الإنتاجي هناك، ويُعتبر المصدر الأول للذهب في المنطقة وعلى مستوى البلاد.
في مارس/أذار 2021، استحوذت شركة مناجم المغربية للتعدين على 65% من مشروعات توسعة منجم قبقبة عبر صفقة استراتيجية مع شركة وانباو الصينية، بتكلفة تُقدَّر بنحو 250 مليون دولار، بهدف رفع الطاقة الإنتاجية إلى حوالي 200 ألف أونصة سنويًا. وتأتي هذه الخطوة ضمن خطة الشركة لتعزيز وجودها في السودان والقارة الإفريقية.
توسّع نشاط “مناجم” كذلك في بلوك 15 بالتعاون مع شركة نورين مايننغ، حيث نفّذتا برنامج استكشاف مكثف منذ 2008، نتج عنه اكتشاف ترسبات ذهبية تُصنَّف ضمن الطراز العالمي. وفي 2011، أنشأت الشركة وحدة إنتاجية متكاملة تديرها شركتها الفرعية “مانوب”، مع بناء محطة معالجة حديثة وفق المعايير الدولية، مما عزز مكانة المشروع كأحد أهم الاستثمارات الإستراتيجية في التعدين السوداني.
منجم جبل عامر
يقع منجم جبل عامر بمحلية السريف شمال الفاشر (ولاية شمال دارفور)، ويُقدَّر إنتاجه بنحو 50 طناً من الذهب سنويًا، ليُعد ثالث أكبر منجم في إفريقيا، إضافة إلى احتوائه على معادن أخرى كالحديد والألمنيوم والبلاتينيوم.
بعد انفصال جنوب السودان عام 2011 وفقدان الخرطوم معظم مواردها النفطية، اكتُشفت في أبريل 2012 كميات ضخمة من الذهب في جبل عامر، ما جعله وجهة للمنقبين من داخل السودان وخارجه. سرعان ما تحوّلت المنطقة إلى مصدر ثروة استراتيجي وأسطوري، لكنها أصبحت أيضًا ساحة لصراع دموي بين قبيلة بني حسين ومليشيات الجنجويد بقيادة موسى هلال، التي سيطرت على المناجم قبل أن تنتزعها قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي).
بحلول 2017، غيّر الذهب خريطة الصراع في دارفور من نزاع إثني وسياسي إلى صراع على الموارد، لتتقاسم النفوذ فيه قوات الدعم السريع وشبكات روسية أبرزها فاغنر. ومن خلال شركة الجنيد التابعة لشقيق حميدتي، أُديرت عمليات استخراج الذهب، حيث استُخدم جزء منه لتمويل مستقل مكّن الدعم السريع من تعزيز قوته السياسية والعسكرية.
منجم بلوك 14
يقع مشروع مياس ساند للذهب في صحراء النوبة شمال السودان قرب الحدود المصرية، على مساحة 2170 كلم² ضمن مربع (14)، على بُعد نحو 900 كلم من الخرطوم. يُدار المشروع عبر شراكة بين بيرسيوس الأسترالية (70%)، حكومة السودان (20%)، وشركة مياس نُب المحلية (10%).
بدأت أعماله عام 2012 بشراكة مع أوركا غولد الكندية، وشملت برامج حفر موسعة في ترسبات “جالات سوفار الجنوبية” و”وادي دوم”، وفي 2016 صدر أول تقييم اقتصادي، تلاه اكتشاف مورد مائي إستراتيجي في 2017، ما دعم إمكانية التشغيل في بيئة صحراوية قاسية.
خلصت دراسة جدوى في نوفمبر 2018 إلى احتياطي يُقدَّر بـ 79.9 مليون طن بتركيز 1.11 غ/طن (نحو 2.85 مليون أوقية ذهب). وفي 2022 استحوذت بيرسيوس على “أوركا غولد”، وموّلت تحديث التقديرات وإعداد دراسة هندسية متقدمة (FFEED) عام 2023، تمهيدًا للقرار الاستثماري النهائي.
مناجم سونغو
تقع مناجم سونغو في منطقة الردوم بجنوب دارفور، على بعد 360 كلم جنوب نيالا، وقد تحولت منذ 2016 إلى مركز رئيسي للتعدين الأهلي، حيث استقطبت عشرات الآلاف من العمال والتجار، ما جعل الردوم من أغنى مناطق الولاية بالذهب.
قبل الحرب السودانية كان يعمل في المنطقة نحو 100 ألف عامل في مواقع بارزة مثل أغبش ودرابا وثريا، لكن مع اندلاع الصراع عام 2023 والانفلات الأمني وانقطاع الوقود، توقف التعدين تقريبًا، فيما انضم كثير من العمال إلى قوات الدعم السريع.
تُعد شركة الجنيد المشغل الوحيد هناك، لكنها خفّضت إنتاجها بشكل كبير بسبب نقص الوقود، حيث تراجع الإنتاج الشهري إلى أقل من طن. ومع ذلك، استؤنفت العمليات في أكتوبر 2023 بعد موسم الأمطار، لتعود المنطقة تدريجيًا كمصدر نشط للعمالة رغم استمرار المخاطر الأمنية.
4 مسارات للتهريب
تتخذ خارطة تهريب الذهب من السودان 4 مسارات رئيسية:
دارفور (غرب)
بعد اندلاع الحرب في السودان، أحكمت ميليشيا الدعم السريع سيطرتها على معظم مناطق دارفور، لتصبح المتحكم الرئيس في إنتاج الذهب وتهريبه وتجاراته. وتتركز أنشطتها في جبل عامر بشمال دارفور ومنطقة سنقو بجنوب دارفور، حيث يُهرَّب الذهب عبر مسارات محلية إلى تشاد وجنوب السودان، قبل أن ينتهي غالبًا في الإمارات.
في جبل عامر، يتم استخراج الذهب تقليديًا من قِبل المواطنين، ثم تنتقل السيطرة إلى شركة الجنيد التابعة للدعم السريع، التي تعتمد على معالجة الذهب بالسيانيد. وتتنوع طرق التهريب بين ليبيا وتشاد، مع الاعتماد على مسارات برية سرية عبر كورنوي والطينة حتى العاصمة التشادية أنجمينا، حيث يُعاد تصديره إلى دبي بأوراق رسمية تُظهره كذهب تشادي. وتُستخدم الدراجات النارية والتحركات الليلية لتجنب الرقابة، بينما تغض السلطات التشادية الطرف عن هذه العمليات.
أما في جنوب دارفور، فتسيطر الميليشيا على مناجم كبرى في سنقو وكفيا كنجي قرب الحدود مع جنوب السودان، ويتم تهريب الذهب عبر محليات مختلفة وصولًا إلى تشاد، أو عبر الطريق الرابط بين نيالا وزالنجي والجنينة، حيث يشتري التجار الذهب مباشرة من مناطق الإنتاج، ثم يُهرّبونه عبر وسطاء وشركات مسجلة في تشاد، التي تمنحه أوراقًا رسمية ليُباع للإمارات ودول أخرى كأنه إنتاج غير سوداني، وهو ما يعكس فقدان الحكومة السودانية لأي سيطرة على واحدة من أهم مواردها الاستراتيجية.
الجنوب
يمثّل مسار جنوب السودان أحد طرق تهريب الذهب السوداني، خاصة عبر منطقة كفيا كنجي بولاية جنوب دارفور، لكنه أقل نشاطًا مقارنة بمسار تشاد بسبب هشاشة الأمن وكثرة عمليات الاحتيال والضرائب العالية. يشتري بعض التجار الصوماليين الذهب المهرب ويعيدون تصديره عبر كينيا وصولًا إلى الإمارات، كما يُهرَّب بكميات صغيرة عبر أوغندا.
ويُرجع الخبراء ضعف هذا المسار مقارنة بغيره إلى المخاطر الأمنية وصعوبة تبادل السلع أو الاستفادة التجارية منه، بخلاف مسار تشاد الأسرع والأكثر ربحية للتجار.
رغم هذه التحديات، كشفت مصادر من شركة الجنيد التابعة للدعم السريع عن مسار نشط عبر مدينة راجا في جنوب السودان، حيث يُنقل ما لا يقل عن 150 كيلوجرامًا من الذهب شهريًا جوًا إلى أوغندا وكينيا قبل وصوله إلى الإمارات. وقدرت هذه المصادر أرباح الشركة خلال الحرب بأكثر من مليار دولار سنويًا، استنادًا إلى حجم الإنتاج والأسعار العالمية.
إلى جانب ذلك، تحولت مدينة نيالا في جنوب دارفور إلى سوق رئيسي للذهب، حيث تتم عمليات البيع في مواقع غير معلنة قبل تهريبه عبر المسارات ذاتها. ولا تقتصر خطورة نشاط التعدين على خسائر السودان الاقتصادية فحسب، بل تشمل أيضًا أضرارًا بيئية جسيمة نتيجة استخدام مواد سامة في عمليات الاستخلاص، خصوصًا في محمية الردوم الطبيعية.
شمال وشرق السودان
تنتشر مناجم الذهب في ولايات البحر الأحمر ونهر النيل والشمالية تحت سيطرة الحكومة السودانية، لكن ذلك لم يمنع استمرار عمليات التهريب، خاصة بعد اندلاع الحرب، حيث أصبحت مصر الوجهة الرئيسية للذهب المهرب عبر الحدود البرية والنيلية، وتُعد منطقة أبو حمد بولاية نهر النيل المركز الأبرز لعمليات المعالجة والتهريب، إذ تنشط فيها مطاحن الذهب وأسواقه.
تعتمد شبكات التهريب على المسارات الصحراوية التي كانت تُستخدم تقليديًا في الهجرة غير الشرعية وتهريب السلاح، ويقودها مهربون ذوو خبرة طويلة بدروب الصحراء مستخدمين سيارات الدفع الرباعي. يبدأ المسار من أبو حمد عبر الصحراء حتى الحدود، حيث يتولى المهربون السودانيون إيصال الشحنات إلى نقاط محددة، ليتسلمها شركاؤهم من الجانب المصري، وسط مشاركة بعض الشبكات المرتبطة بالحكومة بشكل محدود.
تتسم هذه المسارات بدرجة عالية من التنظيم، إذ يجري ترتيب الاتصالات مع الجهات الأمنية في السودان ومصر لتسهيل مرور الشحنات، وتُستخدم أساليب مختلفة لتجنب الرقابة، مثل السير على الأقدام لمسافات قصيرة أو تبديل وسائل النقل عند الحدود. ويشير تجار إلى أن الذهب القادم من الشمالية يصل إلى مصر بسهولة أكبر مقارنة بمسارات التهريب عبر دارفور، بفضل الحماية والتنظيم الرسمي، بل إن بعض الشحنات تُرسل مباشرة من بورتسودان إلى أسوان اعتمادًا على الثقة بين التجار.
الجهات الفاعلة.. من الذي يسيطر على المعدن الأصفر؟
تهيمن على مناجم الذهب في السودان 3 جهات رئيسية:
أولًا: الدولة الرسمية ومؤسساتها الحكومية المعتبرة
على رأسها البنك المركزي وشركة المعادن، حيث تهيمن فعليًا على نسبة محددة من حصة المعدن النفيس، لكنها نسبة ضئيلة مقارنة بغيرها من الجهات الفاعلة الأخرى، الأمر الذي يقلل نسبيًا من عوائد التصدير ويفوت على الدولة مئات المليارات التي يتم الحصول عليها عبر الطرق غير الشرعية.
ثانيًا: القوى العسكرية والفصائل المسلحة
يسيطر الجيش بمؤسساته وميليشيا الدعم السريع بشركاتها على الحصة الأكبر من الاحتياطي الذهبي في السودان، حيث يهيمن بقوة السلاح على مناطق التعدين ومرافق المعالجة وطرق التهريب، ويشاطرهما في تلك الهيمنة مجموعات مسلحة محلية تفرض سطوتها على أطنان ومخازن ذهب أحيانًا.
ثالثًا: الشركات والوسطاء
توجد شركات وكيانات مرتبطة بعسكريين أو فاعلين سياسيين تُدير المعالجة والتجارة (مثل شركات معالجة الطورات والتيلانغ)، كذلك يلعب القطاع الخاص المحلي والتجار أصحاب الشبكات دور الوسيط في تحويل المعدن إلى أسواق التصدير، حيث كشفت تقارير رصدية عن ارتباط شبكات كيانات تجارية داخلية مع مسارات إقليمية لتهريب الذهب.
الإمارات الوجهة الرئيسية
تُصنف الإمارات كأكبر مقصد لذهب السودان المُهرب، حيث استوردت كميات كبيرة خلال 2023–2024، وتلعب دورًا مركزيًا في إعادة تدوير المعدن الأصفر ودمجه في الأسواق العالمية، وأشارت تقارير دولية وأبحاث من منظمات مستقلة إلى تدفق كميات ضخمة إلى الإمارات، وملاحظات أن جزءًا كبيرًا من ذهب السودان يمرّ عبر قنوات هناك.
وكشفت البيانات الرسمية تراجعًا واضحًا في صادرات السودان من الذهب خلال عامي 2023/2024، لكن في المقابل أظهرت ارتفاعًا في صادرات دول الجوار، خاصة مصر وأوغندا وتشاد، وهو التناقض الذي يعزز فرضية أن هذه الدول أصبحت مسارات بديلة لتهريب الذهب السوداني.
في الوقت الذي ترتكب فيه قوات الدعم السريع هجمات الإبادة الجماعية على المدنيين تقوم أبو ظبي بتسليم الأسلحة إلى هذه الميليشيا. وتتم عمليات تهريب الذهب السوداني إلى الأسواق الإماراتية
📍أوقفوا حرب #الإمارات السريّة في #السودان 👇 https://t.co/K3nhlZ4tvw
— نون بوست (@NoonPost) August 3, 2024
الأرقام تشير إلى أن الوجهة الأبرز لهذا الذهب، سواء الخارج من السودان أو دول الجوار، كانت الإمارات، حيث كانت الوجهة شبه الحصرية للذهب الصادر من السودان، جنوب السودان، كينيا وتشاد، حتى مصر وأوغندا توجهتا بشكل أساسي إلى الدولة الخليجية، حيث صدّرت أوغندا كامل إنتاجها تقريبًا حتى 2022، فيما تجاوزت نسبة صادرات مصر إليها 50% سنويًا، وهذا النمط يعكس سيطرة شبه كاملة للإمارات على تجارة الذهب في المنطقة.
وفي تقرير لمنظمة “سويس إيد” عام 2022، كشف أن ثلثي واردات الإمارات من الذهب الإفريقي، أي حوالي 40 طنًا، غير قانونية، وحصلت عليها عبر التهريب، وهو ما جعل أبو ظبي مركزًا لـ”تبييض الذهب”، مما أثار المخاوف وقتها من استغلاله في غسل الأموال وتمويل النزاعات، وهو ما وثقته تقارير عدة، منها تقرير “رويترز” عام 2019، والذي كشف عن فجوات مالية ضخمة بين بيانات صادرات الدول الإفريقية وواردات الإمارات، بلغت أحيانًا 1.3 مليار دولار، ما يعكس حجم التهريب والتجارة غير المشروعة.
روسيا على الخط
منذ نشوب الحرب السودانية، ظهرت العديد من المؤشرات والتحليلات التي تؤكد وجود تدفقات ذهبية وصلت إلى روسيا أو جهات مرتبطة بها، إذ أدى تحكم حميدتي وميليشياته في قطاع الذهب السوداني إلى إدخاله شبكة معقدة من المصالح الإقليمية والدولية، فقد ربطت تقارير، بينها تحقيق لصحيفة “فاينانشال تايمز“، بين قوات الدعم السريع وميليشيات “فاغنر” الروسية، عبر شركة “M-invest” التي عملت في التعدين مقابل تقديم السلاح والتدريب للجماعات المسلحة في السودان.
ولعب حميدتي من خلال هذه الشراكة دورًا محوريًا في تمكين روسيا من تجاوز القنوات الرسمية والحصول على مليارات الدولارات من الذهب السوداني، سواء عبر الاستيراد المباشر أو من خلال الإمارات التي وفرت غطاءً لتسويق الذهب في الأسواق العالمية، وفي المقابل قدّمت “فاغنر” دعمًا عسكريًا لقوات الدعم السريع، شمل أسلحة متطورة مثل صواريخ أرض-جو، بينما جنت أرباحًا سنوية تُقدّر بأكثر من مليار دولار من عمليات الذهب غير المشروعة.
ويعود تدخل روسيا في قطاع الذهب السوداني إلى عام 2014 بعد العقوبات الغربية على موسكو عقب ضمها القرم، وقد كشفت لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البريطاني عام 2023 عن أن روسيا استغلت السودان لتمويل حربها في أوكرانيا عبر تهريب الذهب، وذلك بالتواطؤ مع قيادات عسكرية محلية ودعمها للانقلاب عام 2021، مما رسّخ وجودها ونفوذها في موارد السودان الاستراتيجية.
وقود للصراع
تحول الذهب من مورد اقتصادي لوجستي، وبديلا للنفط الذي فقد السودان معظم حصة عوائده بعد انفصال الجنوب، إلى وقود لتأجيج الصراع الداخلي، حيث لوحظ تصاعد عمليات التهريب بشكل غير مسبوق منذ اندلاع الحرب، وتحويل عوائد تلك العمليات للإنفاق على العمليات العسكرية وتمويل طرفي النزاع.
في تحقيق لمؤسسة Global Witness، مدعومًا بتقرير لفريق خبراء الأمم المتحدة، وثّق بالأدلة كيف أصبح الذهب أداة رئيسية لتمويل الحرب في السودان، حيث اعتمدت عليه ميليشيا الدعم بشكل شبه كامل، لتنفق من حصيلة تهريبه للإمارات على مسارات التسليح ودفع الرواتب والتجهيزات القتالية، والأمر ذاته بالنسبة لقوات فاغنر التي تدخل ضمن مزودي الدعم بالسلاح مقابل الذهب المهرب.
وتذهب كافة التقديرات إلى أنه لولا حصيلة الذهب الذي يهربه حميدتي وميليشياته للإمارات لما استطاع الاستمرار في الحرب، وما كان لها أن تستمر لأكثر من عامين كاملين على تلك الشراسة القتالية، وهو ما دفع الحكومة السودانية لتوجيه اتهام مباشر لأبو ظبي بارتكاب جرائم حرب في السودان من خلال دعم الميليشيا المسلحة.
وساعدت سيطرة الدعم على خارطة الذهب في دارفور ومنطقة جبل عامر تحديدًا في تسهيل عملية التهريب إلى تشاد، ومن هناك إلى الدولة الخليجية، التي لا تتوانى عن مساعدة حميدتي وعناصره عسكريًا ولوجستيًا وسياسيًا، وهو ما حذرت من تداعياته الأمم المتحدة في تقارير عدة رغم نفي أبو ظبي رسميًا لتلك الاتهامات.
في الأخير..
يمثل الذهب في السودان موردًا استراتيجيًا ذا أهمية مزدوجة، إذ يُفترض أن يكون ركيزة لإنعاش الاقتصاد الوطني في ظل فقدان النفط بعد انفصال الجنوب، لكنه تحول عمليًا إلى وقود يغذي الصراع الأهلي وشبكات النفوذ الإقليمية والدولية. وبينما تُقدّر احتياطيات السودان بمئات الأطنان، تستمر الدولة في فقدان مليارات الدولارات سنويًا عبر التهريب، ما حرمها من فرصة تحويل هذه الثروة إلى تنمية حقيقية.
لقد كشفت الحرب السودانية عن تشابك غير مسبوق بين الذهب والسياسة والأمن، حيث سيطرت قوات الدعم السريع على مناجم رئيسية واستخدمتها لتمويل عملياتها العسكرية عبر شبكات تهريب متجهة إلى الإمارات وروسيا، بينما نشطت مسارات أخرى نحو مصر وتشاد وأوغندا. هذا الارتباط بين الموارد الطبيعية وتمويل الحروب رسّخ معادلة خطيرة: كلما ازدهرت تجارة الذهب غير المشروعة، طال أمد الحرب وتعمقت معاناة الشعب.
وعليه، فإن إنقاذ السودان من هذه الحلقة المفرغة يتطلب ما هو أبعد من تشديد الرقابة أو إطلاق حملات ضد التهريب؛ إذ يستلزم إصلاحًا شاملاً في إدارة الموارد، وإرساء شفافية كاملة في قطاع التعدين، بجانب توافق وطني يحمي ثروات البلاد من النهب الداخلي والتجريف الخارجي. وإلا سيبقى الذهب، بدلًا من أن يكون رافعة للإنعاش الاقتصادي، لعنةً تؤجج الصراع وتعمّق المأساة الإنسانية.