للتاريخ مداخل متعددة وأبواب واسعة، يمكن للإنسان أن يسلكها سواء كان صانع انتصارات، أو مجرم حرب، أو شخصية مثيرة للجدل، وفي هذا الإطار، يبرز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كواحدة من أكثر الشخصيات جدلية في العصر الحديث، إذ ترك أثرًا مباشرًا وواضحًا على صورة الولايات المتحدة عالميًا، وأعاد تعريف تصور العالم للقوة الأمريكية ونفوذها الدولي.
تجلّت هذه البصمة في أسلوبه الفج والمباشر في الخطاب، وفي طريقة ممارسته للسلطة التي حولت نموذج الحكم الأمريكي إلى تجربة شعبوية قائمة على القوة المباشرة والقرارات الأحادية، مع تقليص دور المؤسسات الدبلوماسية التقليدية، إذ استثمر ترامب الإعلام والرموز الوطنية لتعزيز سلطته وضمان استمراريتها، ليصبح بذلك ظاهرة سياسية يُحتذى بها كنموذج للحكم الشعبوي الحديث.
لم تقتصر تداعيات هذه التحولات على الداخل الأمريكي فقط، بل أعادت رسم صورة الولايات المتحدة على الساحة الدولية، فبينما اعتمدت أمريكا لعقود على القوة الناعمة لتعزيز نفوذها عبر الثقافة والإعلام والتعليم والدبلوماسية، اختار ترامب نهجًا هجوميًا، من فرض العقوبات الاقتصادية، إلى الانسحاب من الاتفاقيات الدولية الكبرى، وصولًا إلى فرض قرارات أحادية الجانب على حلفائها وخصومها، ليبرز وجهًا جديدًا للسياسة الأمريكية يعكس القوة المباشرة أكثر من الإقناع أو التعاون.
أظهر استطلاع رأي أُجرته مؤسسة تحالف الديمقراطيات في نيسان/ أبريل الماضي، أن الانطباعات العالمية عن الولايات المتحدة شهدت تراجعًا كبيرًا خلال العام الماضي، حيث أصبحت النظرة تجاهها أسوأ من تلك الموجهة إلى الصين، وأرجع رئيس المؤسسة ذلك إلى السياسات التي اتبعها ترامب والتي أدت بنظره إلى تآكل صورة بلاده حول العالم.
نتناول في هذا التقرير التحول الجذري في صورة الولايات المتحدة العالمية من خلال ثلاثة محاور رئيسية: تراجع القوة الناعمة وصورة أمريكا الدولية، التحول نحو القوة الصلبة والنهج الهجومي، والفراغ الدولي وصعود المنافسين نتيجة ضعف الدور القيادي الأمريكي.
مساء الخير ☕
📌ملفنا الذي اخترناه لك من أرشيفنا لهذا اليوم يقدم نظرة فاحصة على المصالح الشخصية وشبكة النفوذ التي تقف وراء توجهات إدارة دونالد #ترامب الثانية وانعكاساتها على الولايات المتحدة ومنطقتنا العربية، إلى جانب عوامل مؤثرة أخرى مثل خلفيته التجارية وعقليته المنفعية التي… pic.twitter.com/YXiPwm058u
— نون بوست (@NoonPost) August 29, 2025
انحسار القوة الناعمة الأمريكية
منذ تأسيسها، سعت الولايات المتحدة إلى مراكمة ما يُعرف بالقوة الناعمة، فنجحت في جعلها ركيزة أساسية للهيمنة العالمية، فقد أسهمت هذه القوة في تمكينها من نشر قواعد عسكرية في عشرات الدول، وترسيخ الدولار كعملة احتياطية دولية، واللغة الإنجليزية كلغة عالمية للأعمال والدبلوماسية، حتى أنها شكلت غطاءً في أحيان أخرى على نهجها الدموي في مناطق معينة.
لكن مع وصول دونالد ترامب إلى الحكم، بدا وكأنه يسعى إلى هدم هذا الإرث المتراكم عبر عقود في وقت قصير، بما وصفه خبراء أمريكيون بأنه مسار يقود البلاد نحو “الانهيار العظيم”.
جعلت إدارته تراجع القوة الناعمة خيارًا متعمدًا لا نتيجة عرضية، وكانت البداية مع استهداف مباشر لوكالة المعونة الأمريكية (USAID)، التي جرى تعليق معظم برامجها الخارجية ووُضع موظفوها في إجازة مدفوعة الأجر، ما أدى إلى إلغاء أكثر من 80% من مشاريعها وعقودها، وهي مشاريع أساسية في الصحة والتعليم والمجتمع المدني ممتدة منذ تأسيس الوكالة عام 1961.
كما شملت الحملة تقليص وزارات ومؤسسات رئيسية، أبرزها وزارة الخارجية حيث تم تخفيض عدد موظفي السلك الدبلوماسي بنسبة 15%، إضافة إلى معاهد ومراكز بحثية مثل معهد السلام الأمريكي (USIP) ومركز وودرو ويلسون، وقد أدى ذلك إلى تهميش الدبلوماسية العامة، وحرمان جيل كامل من الشباب الأمريكي من فرص الخدمة العامة والمساهمة في تمثيل بلادهم عالميًا. وفي السياق نفسه، أطلقت الإدارة برنامج “الاستقالة المؤجلة” لتقليص حجم القوى العاملة الفيدرالية؛ ففي يناير 2025، وُجه بريد إلكتروني بعنوان “مفترق الطرق” للموظفين الحكوميين يقترح حصولهم على كامل رواتبهم ومزاياهم حتى سبتمبر مقابل تقديم استقالاتهم. وبحسب وثائق داخلية، وافق نحو 75 ألف موظف على العرض، لتبدأ جولة ثانية من البرنامج في أبريل.
ولم تسلم مؤسسة صوت أمريكا (Voice of America) من هذه السياسات، إذ شملها التقليص ما أدى إلى إغلاق شبكات وإذاعات عدة تابعة لها مثل قناة “الحرة”، في خطوة وصفتها تقارير صحفية بأنها “تمزيق للركائز التقليدية للدبلوماسية الأمريكية والقوة الناعمة حول العالم”، كما جرى حل مكتب تقييم الشبكات في وزارة الدفاع.
أصدرت قاضية فيدرالية حكمًا لصالح جامعة هارفرد، بعدم قانونية قرار ترامب بإلغاء تمويل لجامعة هارفرد يقدر بنحو 3 مليارات دولار.
وكانت هارفارد تعرضت للاستهداف من الإدارة الأمريكية التي تستغل التمويل الاتحادي لفرض تغيير في الجامعات التي يزعم ترامب أنه تسيطر عليها أفكار “معادية… pic.twitter.com/Hio8Hy1cC0
— نون بوست (@NoonPost) September 5, 2025
وعلى الصعيد الاقتصادي، سرع ترامب في إشعال حروب تجارية متعددة مع الجوار والشركاء الدوليين، فقد فرض رسومًا جمركية بنسبة 25% على الواردات المكسيكية والكندية بحجة تساهل تلك الدول في دخول المخدرات والمهاجرين غير الشرعيين إلى الولايات المتحدة، كما فرض رسومًا بنسبة 10% على السلع الصينية، في خطوة رآها مراقبون “مسمارًا جديدًا في نعش القوة الناعمة الأمريكية”، لما أحدثته من توتر في العلاقات التجارية والدبلوماسية مع أهم شركاء واشنطن.
التحوّل نحو القوة الصلبة والنهج الهجومي
يواصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الترويج لنفسه كـ”صانع سلام”، ويكرّر حديثه عن إنهاء الصراعات العالمية في مسعى واضح لنيل جائزة نوبل للسلام، بينما تكشف الوقائع الميدانية عن مسار مغاير تمامًا، فمنذ عودته إلى البيت الأبيض، انخرطت إدارته في سلسلة من العمليات العسكرية واسعة النطاق تناقض سردية “السلام”.
“ذهبوا إلى الجحيم”.. هكذا علّق #ترامب على معاناة سكان #غزة، معبّرًا عن رغبته في تحقيق الأمان لهم رغم استمرار القصف الإسرائيلي. pic.twitter.com/UUciX48xMD
— نون بوست (@NoonPost) July 4, 2025
في اليمن، أطلقت القوات الأمريكية عملية “الراكب الخشن” آيار/ مايو الماضي والتي استمرت 53 يومًا مستهدفة البنية التحتية العسكرية للحوثيين، من مخازن ومطارات إلى مراكز قيادة واتصالات، إضافة إلى محاولات لاغتيال قيادات ميدانية بارزة.
وفي إيران، نفّذت القوات الأمريكية عملية “مطرقة منتصف الليل” بمشاركة 125 طائرة عسكرية، استهدفت ثلاثة من أهم المنشآت النووية: فوردو، ونطنز، وأصفهان، ورغم خطورة العملية وما حملته من رسائل عسكرية مباشرة، قدّمها ترامب بوصفها ضرورة لتعزيز “الأمن والسلام”.
امتد النشاط العسكري الأمريكي إلى البحر الكاريبي، ففي أغسطس/آب 2025، تحركت قوة مهام بحرية تضم ثلاث مدمرات، غواصة نووية، ومجموعة هجوم برمائية، لتنفيذ ما وصفه ترامب لاحقًا بـ”الضربة القاتلة” والتي استهدفت سفينة قال إنها تابعة لشبكة تهريب مخدرات مسفرة عن مقتل 11 شخصًا.
ومع تصاعد الانتقادات بشأن قانونية الضربة وسقوط ضحايا مدنيين، دافع ترامب ونائبه دي جيه فانس عن العملية بحدة، إذ ردّ الأخير على اتهامها بأنها جريمة حرب بالقول إنه “لا يهتم بذلك”.
التحول الأوضح في نهج الإدارة الهجومي تجسد في القرار التنفيذي الذي وقّعه ترامب لتغيير اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، بحجة أن الاسم الحالي “ضعيف” ولا يليق بدولة اعتادت “الفوز في كل الحروب”، وأكد أن العودة إلى التسمية القديمة، التي كانت قائمة قبل الحرب العالمية الثانية، تعكس هوية أكثر “قوة وصرامة”.

وزير الدفاع بيت هيغسيث، تبنّى هذه الرؤية بسرعة، فبدأ بتغيير الحسابات الرسمية للبنتاغون على منصات التواصل، ووقّع المراسلات باستخدام لقب “وزير الحرب”. وفي تصريحات له، شدد هيغسيث على أن الخطوة ليست مجرد تغيير لفظي، بل تهدف إلى “تعزيز روح المحارب” داخل المؤسسة العسكرية، بما ينسجم مع شعارات إدارة ترامب “أميركا أولًا، السلام عبر القوة”.
وخلال مراسم توقيع القرار، أوضح هيغسيث أن “الكلمات تصنع الهوية”، مضيفًا: “سوف نهاجم، لا ندافع فقط. نبحث عن فاعلية قتالية قصوى، لا قانونية باردة. نسعى لتأثير عنيف، لا لتصحيح سياسي. سنُنشئ محاربين، لا مجرد مدافعين”، كما أكد أن الوزارة ستبدأ باستخدام الاسم الجديد كـ”لقب ثانوي” إلى حين إقرار الكونغرس التغيير رسميًا، في محاولة واضحة للالتفاف على الحاجة لموافقة تشريعية لإعادة تسمية وكالة فدرالية.
إلا أن هذه الخطوة فجّرت موجة انتقادات واسعة، فقد حذر مسؤول دفاعي سابق لموقع “بوليتيكو“، من أن تغيير الاسم سيكلّف “مليارات الدولارات من دون أن يكون له أي تأثير فعلي على الحسابات الصينية أو الروسية”، مضيفًا أن الأعداء سيستغلون الخطوة لتصوير الولايات المتحدة كقوة مُحرضة على الحرب.
وفي السياق ذاته، أعرب خبراء أمنيون دوليون عن مخاوفهم، إذ أكد الباحث في الدراسات الأمنية، تيرد لادويج، أن “التسمية الجديدة تبعث برسائل عدوانية مقلقة للحلفاء، وتشجع الخصوم، وتقدّم للدعاية الصينية والروسية مادة مجانية لتصوير أميركا كتهديد للاستقرار العالمي”.
الصين تستغل الفراغ الأمريكي
حتى وقت غير بعيد، كانت الولايات المتحدة تُقدَّم بوصفها رمزًا لحرية التعبير والديمقراطية والصحافة المستقلة، لكن هذه الصورة بدأت تتآكل تدريجيًا فالكثيرون اليوم يرونها دولة متغطرسة ومنغلقة على نفسها، بعيدة عن النموذج الذي طالما سعت إلى ترسيخه عالميًا.
ويختصر شعار ترامب الأشهر، “أميركا أولاً”، هذا التحول، فبحسب تحليل نشرته وكالة بلومبرغ، لم تعد الولايات المتحدة تُقدَّم كقوة خيرية، بل كقوة مهددة وأن الاستمرار في هذه السياسة سيدفع واشنطن سريعًا إلى أن تصبح “أميركا المعزولة”، أو حتى “المكروهة”، محذرًا من أن نهج ترامب سيشجع المزيد من الدول على بناء شبكات وتحالفات مضادة لها.
ولا شك أن هذه السياسة تركت فراغًا دوليًا واضحًا استثمرته قوى منافسة مثل الصين، فقد أشارت ميريسا خورما، المديرة السابقة لمركز الشرق الأوسط في مركز وودرو ويلسون، إلى أن الصين باتت أكثر شعبية في تسع دول بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي يقطنها نحو 450 مليون نسمة.
وبيّن استطلاع لمركز بيو للأبحاث عام 2025 أن صورة الولايات المتحدة تدهورت في 24 دولة، حيث عبّرت الغالبية في هذه الدول عن نظرة سلبية تجاهها. والأكثر لفتًا للنظر أن النسب السلبية ارتفعت أيضًا في صفوف الحلفاء الرئيسيين في أوروبا وأمريكا الشمالية، ما يعكس بوضوح التوتر القائم بين إدارة ترامب والاتحاد الأوروبي، فقد هدد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 50% على واردات الاتحاد، وضغط على دول الناتو لرفع ميزانيات دفاعها إلى 5% من الناتج المحلي، بدلًا من الهدف السابق البالغ 2%، كما تبنّى خطابًا هجوميًا ضد بروكسل في المحافل الدولية.
🚨 تسريب أخبار للترويج عن خلاف وتوتر بين ترامب ونتنياهو.
🚨 بثت “إسرائيل” رسائل تفيد باستبعاد الهجوم، لإرباك الحسابات الإيرانية وتأخير ردها.
🚨نشر أخبار عن إغلاق المجال الجوي بسبب زفاف نجل نتنياهو، لتشتيت الانتباه عن التحركات العسكرية.
🚨تلويح… pic.twitter.com/XpkgSWGScf
— نون بوست (@NoonPost) June 23, 2025
ويرى إسحق كاردون، الزميل الأول في دراسات الصين بمؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، أن الخطاب الأميركي “العدائي” لأوروبا، إلى جانب انسحاب الوكالة الأميركية للتنمية الدولية من أدوارها، شكّل فرصة مثالية لبكين. ويؤكد كاردون أن الصين استطاعت استغلال هذا الفراغ الذي خلفته سياسات ترامب، لتقدّم نفسها كشريك أكثر استقرارًا وموثوقية، خصوصًا للدول النامية والجنوب العالمي.
ويتوقع أن تعزز بكين مكاسبها في المنظمات متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة، مستقطبة دعم الدول التي شعرت بالتهميش أو التضرر من السياسات الأميركية، وهو ما يساهم في إعادة تشكيل موازين القوى الدولية على نحو يحدّ من النفوذ الأميركي ويزيد من حضور الصين بحسب تعبيره.
وبالفعل تحرّكت الصين لملئ الفراغ الذي خلفته سياسات ترامب، فأعلنت الصين استعدادها لتعويض غياب الدعم الأميركي عن المنظمات الدولية التي علّقت إدارة ترامب تمويلها، وأعرب مسؤولون صينيون عن استعداد بكين لتغطية الفراغ التنموي الذي خلّفه قرار ترامب بتجميد جميع المساعدات الإنسانية التابعة للوكالة الأميركية للتنمية الدولية.
أما في كولومبيا، التي اعتمدت على الوكالة الأمريكية للتنمية ما يعادل نحو 8.5% من ميزانية استثماراتها لعام 2023، فقد أشارت منظمات محلية إلى أن الصين أبدت اهتمامًا بتمويل مشاريع تنموية لسد النقص الناجم عن انسحاب الولايات المتحدة.
في النهاية، يطرح المشهد الأمريكي اليوم تحذيرًا واضحًا إذا استمرت واشنطن بقيادة ترامب في التضحية بالقوة الناعمة والقيادة المتعددة الأطراف، فإن موقعها العالمي سيشهد تحولًا دائمًا، وربما سيصبح الهيمنة الأمريكية مجرد ذكرى في تاريخ النظام الدولي الحديث.