تشهد الضفة الغربية موجة استيطانية جديدة تحت مسمّى “فتيات التلال”، وهي مجموعات نسائية إسرائيلية تتكوّن من نساء يتخلّين عن التعليم والحياة المدنية ليعشنَ في خيام ومساكن بدائية على قمم الجبال، في سبيل التضحية من أجل الأرض. تبرز هذه الموجة كامتداد لحركة “فتية التلال” التي ظهرت أواخر التسعينيات بدعم رسمي إسرائيلي.
تعتمد “فتيات التلال” على أسلوب حياة رعوي بدائي، معزول عن مظاهر التمدّن، ويُقدمن أنفسهن بالاعتماد على خطاب إعلامي يركّز على تفاصيل الحياة اليومية المألوفة كطبخ الطعام أو نشر الغسيل، وذلك في محاولة مقصودة لتطبيع الاستيطان وإظهاره كحياة عائلية طبيعية، بعيدًا عن صور العنف التي ارتبطت تاريخيًا بالمستوطنين.
تُمثّل هذه المجموعات النسائية نمطًا مختلفًا من الاستيطان يُسوّق له بوصفه “استيطانًا ناعمًا”، أي استيطان يتم فيه الاستعانة بصورة النساء الناعمة من أجل تحسين صورته وإخفاء جوهره القائم على تجريد الفلسطينيين من أرضهم وترسيخ السيطرة الإسرائيلية عليها.
لا يُمكن اعتبار “فتيات التلال” ظاهرة منفصلة أو استثنائية، فهي تندرج ضمن مسار أوسع من الظواهر الاستعمارية التي وظّفت فيها النساء لخدمة أهداف استعمارية مباشرة.
سيتتبّع هذا المقال ظواهر أنثوية مشابهة وُجدت في سياقات استعمارية مختلفة، حيث استُخدمت النساء كأدوات للسيطرة الناعمة والتغلغل وبسط النفوذ، في إطار يخدم الأهداف الاستعمارية الكبرى.

نساء الكيبوتس في خدمة المشروع الاستيطاني
شكّل الكيبوتس، منذ بدايات القرن العشرين، إحدى الأدوات المركزية في المشروع الصهيوني لإقامة دولة لليهود في فلسطين. فقد مثّل نموذجًا زراعيًا جماعيًا يقوم على الملكية المشتركة لأدوات الإنتاج، ويعتمد على تقسيم العائدات بالتساوي، بما جعله إطارًا منظمًا لاحتواء المهاجرين الجدد وإعدادهم للحياة في فلسطين.
View this post on Instagram
في هذا السياق، برز دور النساء في الكيبوتسات بوصفهنّ طاقة مضافة إلى المشروع الاستيطاني، إذ لم يكن حضورهن شكليًا، بل شكّل عنصرًا من عناصر تثبيت النموذج الجديد. فقد قدّم الكيبوتس صورة مغايرة لمكانة المرأة مقارنة بالنظام البورجوازي الأوروبي، حيث رُوّج لفكرة مساواتها بالرجل عبر إشراكها في العمل الزراعي والإنتاجي، وإلغاء مؤسسة الزواج التقليدية بما تحمله من تبعية اقتصادية واجتماعية، غير أنّ هذه الصورة، كما يوضح عبد الوهاب الكيالي في كتابه “الكيبوتز أو المزارع الجماعية في إسرائيل”، ظلّت محكومة بالتناقض؛ إذ لم تجد المرأة خلاصها في هذا الإطار، بل تحوّل التحرر المزعوم إلى شكل جديد من التقييد، وكانت تعاسة النساء أحد الأسباب التي دفعت أزواجًا إلى مغادرة الكيبوتسات.
لقد حاولت حركة الكيبوتس أن تُظهر نفسها كفضاء بديل يحرّر المرأة من أعباء الحياة المنزلية، عبر المطبخ العام والمساكن الجماعية، غير أن هذه البنية، كما يشير الكيالي، لم تُلغِ معضلة المرأة بل أعادت إنتاجها في صورة أخرى، فقد ارتبط وجودها دومًا بقدرتها على خدمة النظام الجماعي وتأمين استمراريته، ولم يتحوّل إلى مساواة فعلية. ومن هنا يمكن قراءة تجربة نساء الكيبوتس كوجه مبكّر من أوجه “الاستعمار الناعم”، حيث تُستثمر طاقات النساء لإضفاء طابع تقدمي وحداثي على مشروع استيطاني يقوم، في جوهره، على إقصاء الفلسطينيين وانتزاع أرضهم.
تعليم وتبشير وتغريب.. النساء الأوربيات كأدوات للهيمنة الاستعمارية
لم يقتصر الاستعمار الفرنسي للجزائر على السيطرة العسكرية والسياسية، بل عمد إلى توظيف النساء الأوروبيات كأدوات للنفاذ إلى البنية الاجتماعية المحلية، وكما يبين الباحثان علي غنابزية ويمنية دهالسي في دراستهما “تأثيرات المرأة الأوروبية على الأسرة الجزائرية 1830-1962”، فقد جرى استثمار النساء الأوروبيات في مجالات التعليم والخدمات الخيرية والتبشير، بما منح المشروع الاستعماري وجهًا ناعمًا يتيح له التغلغل داخل الأسر الجزائرية العربية المسلمة، بهدف تفكيك هويتها الثقافية وإعادة تشكيل قيمها بما يتماشى مع مشروع الهيمنة الفرنسية.
في المجال التعليمي، سعت الأوربيات إلى جعل المرأة الجزائرية وسيطًا فاعلًا لنشر الثقافة الفرنسية داخل الأسرة، فظهرت ورشات لتعليم البنات الجزائريات اللغة الفرنسية والخياطة والحساب، وهي مشاريع حمَلت أثرًا مزدوجًا على النساء والفتيات الجزائريات؛ فقد أمدّتهنّ بمهارات عملية، لكنها في وقت ذاته جاءت كمدخل من أجل خلخلة البنية القيمية للأسرة الجزائرية، وتحويل اللغة والثقافة الفرنسية إلى أداة للسيطرة الناعمة.
أما في مجال التبشير، فقد جرى توظيف مبشّرات مسيحيات لاستهداف المرأة الجزائرية مباشرة، إدراكًا من السلطات الاستعمارية لدورها المركزي في الأسرة، حيث أنشئت جمعيات نسوية دينية متخصصة، كأخوات القديس يوسف والأخوات البيض، وتولّت المبشّرات مهمة الوصول إلى النساء في ظل الحواجز الاجتماعية والدينية التي منعت الرجال الأوروبيين من القيام بهذا الدور.
وفي مستوى أعمق من التبشير، برزت سياسة التغريب التي هدفت نحو سلخ المرأة الجزائرية عن ثقافتها العربية المسلمة، وذلك من خلال قيام النساء الأوروبيات بقيادة حملات تشجّع الجزائريات على خلع حجابهنّ باعتباره رمزًا للتخلّف والكبت الاجتماعي، فتغريب المرأة الجزائرية لم يكن مجرد سياسة ثقافية بل معركة رمزية، استثمرت جسدها ومظهرها كرمز للسيطرة على المجتمع بأسره.

الزواج الاستعماري
كما وظف الاستعمار الإسرائيلي النساء الإسرائيليات في فلسطين، واستغلت السلطات الفرنسية النساء الأوروبيات للتغلغل في الأسرة الجزائرية، لجأت سلطات الفصل العنصري الذي ترسّخ في جنوب أفريقيا عام 1948 نحو استخدام القانون كأداة للسيطرة على أجساد النساء المستعمَرات، فقد قُسّم المجتمع على أساس اللون، وفرض تمييزًا صارمًا في الحياة اليومية، بما فيها العلاقات الزوجية، وأصبح التحكّم بالخيارات الجنسية للنساء المستعمَرات أداة هيمنة استعمارية ناعمة.
يُمثّل قانون منع اختلاط الأعراق (Prohibition of Mixed Marriages Act) لعام 1949، الذي حظر الزواج بين البيض والسود، أبرز تجليات هذه الهيمنة الاستعمارية الناعمة، فقد شكّل أداة لإخضاع النساء السود، وقيّد حريتهن في اختيار شركائهن، وحوّل حياتهن الشخصية إلى ساحة للسيطرة القانونية والسياسية.
تتحوّل المرأة في الاستعمار الناعم إلى أداة للسيطرة على الأرض والهوية والثقافة، إذ تُستغل طاقتها وحياتها لإضفاء شرعية على الهيمنة وفرض السياسات الاستعمارية. هذا الدور يبيّن أن الاستعمار ليس مجرد قوة عسكرية، بل استراتيجية دقيقة تستخدم الأدوار الأنثوية لتمرير سلطتها بنعومة وفعالية.