شهدت العلاقات المصرية الإسرائيلية خلال الأيام الماضية تراشقًا سياسيًا وإعلاميًا ربما يكون استثنائيًا من حيث حدة الخطاب ولهجته، تزامنًا مع هرولة حكومة بنيامين نتنياهو لتنفيذ مخطط التهجير لسكان قطاع غزة، مدفوعة بضوء أخضر أمريكي، والذي ترفضه القاهرة والعواصم العربية بشكل نهائي وواصفةً إياه بالحلقة الأخيرة في تصفية القضية الفلسطينية برمتها.
التلاسن بين القاهرة وتل أبيب تجاوز حدود الأذرع الإعلامية التقليدية إلى المستوى الأول للقيادة السياسية، وذلك بعد دخول نتنياهو بشخصه على خط هذا التصعيد، ما دفع الخارجية المصرية ممثلة في وزيرها للرد بشكل مباشر، ومن بعده الهيئة العامة للاستعلامات، التي تعد المتحدث الإعلامي الرسمي باسم الدولة أمام العالم.
هذه الجولة من التصعيد الشكلي بين البلدين، في وقت يُنحر فيه قطاع غزة على مرأى ومسمع من العالم، وتُتهم القاهرة ضمنيًا بالتواطؤ في حرب التجويع التي يتعرض لها مليونا غزي، فتحت الباب على مصراعيه أمام قراءات عدة وسيناريوهات متباينة، وصلت بالبعض إلى طرح الصدام العسكري كأحد الخيارات المطروحة على طاولة النقاش.. فأي سيناريو محتمل يحسم هذا التوتر؟
سجال متبادل
انحصر التناطح الإعلامي بين القاهرة وتل أبيب خلال الأيام الماضية في ثلاثة ملفات أساسية:
أولًا: ملف التهجير
قبل يومين وخلال مقابلة له على قناة “أبو علي إكسبرس” عبر تيليغرام، قال نتنياهو إنه “يمكن فتح معبر رفح للسماح بخروج الفلسطينيين من غزة، لكن سيتم إغلاقه فورًا من الجانب المصري”، داعيًا إلى اعتبار ذلك حقًا أساسيًا لكل إنسان، وليس طردًا جماعيًا، مؤكدًا أن نحو نصف سكان غزة يرغبون في الخروج من القطاع، معتبرًا أن هذا ليس طردًا جماعيًا.
تلك التصريحات التي حملت ضمنيًا اتهامًا لمصر بتعمد إبقاء سكان القطاع قيد الحصار وإصرارها على تعريض حياتهم للخطر، قوبلت بانتقادات حادة من وزارة الخارجية المصرية التي أعربت عن بالغ استهجانها في بيان مثّل تصعيدًا في اللهجة، مؤكدة أنها “لن تكون أبدًا شريكًا في تصفية القضية الفلسطينية أو بوابة لتهجير الفلسطينيين”، معتبرةً أن ذلك خطًّا أحمر لا يجوز تجاوزه.
القاهرة وعبر وزارة خارجيتها شدّدت على رفضها المطلق تهجير الشعب الفلسطيني تحت أي ظرف، سواء كان قسريًا أو طوعيًا، معتبرة أن أي إجراءات تهدف لإجبار الفلسطينيين على المغادرة هي انتهاك صارخ للقانون الدولي وترقى إلى تطهير عرقي، داعية المجتمع الدولي إلى تحمّل مسؤولياته، والضغط على إسرائيل لوقف ما وصفته بـ”الانتهاكات” والانخراط الجاد في عملية سلام شاملة.
الرد الإسرائيلي على تلك الاتهامات لم يتأخر كثيرًا حيث أصدر مكتب نتنياهو بيانًا مضادًا قال فيه إن “رئيس الحكومة تحدث عن حرية الاختيار لكل إنسان في تحديد مكان إقامته”، معتبرًا أن هذا “حق إنساني أساسي، خصوصًا في زمن الحرب”، مهاجمًا الموقف المصري، قائلاً إن “الخارجية المصرية تفضل حبس سكان غزة داخلها، حتى أولئك الراغبين في مغادرة منطقة الحرب، خلافًا لرغبتهم”.
وردًا على مكتب نتنياهو خرج رئيس الهيئة العامة للاستعلامات (الجهة المخولة بالرد على الإعلام الخارجي) ضياء رشوان ليؤكد أن “مصر كانت وما زالت العقبة الوحيدة أمام مشروع التوسع الإسرائيلي والتهجير وتصفية القضية الفلسطينية”، مشددًا على أن الدولة المصرية “لن تسمح بتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه”.
رشوان تجاوز اللهجة الدبلوماسية المعتادة في خطابه الإعلامي واصفًا حكومة نتنياهو بأنها “ذات أطماع، بل أوهام”، مضيفًا أنها تتخيل أن الشرق الأوسط كله خضع لها، ولم يتبق سوى “جوهر القضية الفلسطينية، وهو تهجير الشعب والاستيلاء على غزة”، موضحًا أن الموقف المصري الذي وصفه بأنه “ليس مجرد دعاية سياسية، بل تقف وراءه قدرات بكل أنواعها” هو ما يعرقل هذه الرؤية الإسرائيلية.
ثانيًا: التحركات العسكرية المصرية في سيناء
سلط الإعلام الإسرائيلي، الحكومي والخاص، الضوء على ما أسماه “تكثيف التواجد العسكري المصري في سيناء”، وذلك في أعقاب تقارير متواترة عن نشر مصر تعزيزات عسكرية ضخمة في شمال سيناء، منها دفعها بما يقارب 88 كتيبة عسكرية تضم نحو 42 ألف جندي، إلى جانب أكثر من 1500 دبابة وآلية مدرعة، فضلًا عن تطوير قواعد عسكرية ومدارج طائرات وأنظمة دفاع جوي في المنطقة الحدودية مع قطاع غزة.
وكان موقع “ميدل إيست آي” قد نقل قبل بضعة أشهر عن مسؤول عسكري مصري كبير أن القاهرة نشرت قوات إضافية على طول الحدود مع غزة وسط مخاوف متزايدة من أن تدفع إسرائيل لتهجير الفلسطينيين إلى شمال سيناء، مضيفًا أن نحو 40 ألف جندي منتشرين الآن في شمال سيناء، وهو ما يقرب من ضعف العدد المسموح به بموجب معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، مؤكدًا أن “الجيش المصري في حالة تأهب قصوى لم نشهدها منذ سنوات”.
كان هذا التواجد -رغم ما يقال بأنه طبيعي وتقليدي في مثل تلك الظروف كما أنه ليس المرة الأولى من نوعه- مادة خصبة لشن هجوم على القاهرة واتهامها بخرق معاهدات كامب ديفيد الموقعة بين البلدين، وسط مطالب بإعادة النظر فيها وتقييمها مجددًا في ظل ما أسموه الخروقات المصرية المستمرة لها.
ثالثًا: صفقة الغاز
في تصريحات أقل ما يقال عنها إنها مفاجئة، قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي إعادة النظر في اتفاقية تصدير الغاز المبرمة بين حكومته والقاهرة والتي أعلن عنها في السابع من أغسطس/آب الجاري، والتي بموجبها ستزود تل أبيب الجانب المصري بـ130 مليار متر مكعب من الغاز حتى عام 2040 بقيمة 35 مليار دولار، وذلك وفق ما نقل موقع “إسرائيل هيوم”.
التصريحات بررها نتنياهو –بحسب الموقع العبري– بأنها ردًا على التعزيزات العسكرية المصرية في سيناء قرب الحدود المشتركة، وأنها تمثل تهديدًا للملحق الأمني لاتفاقية السلام المبرمة بين البلدين، ليرد عليه رئيس الهيئة العامة للاستعلامات بأن الاقتراب من تلك الاتفاقية وإلغائها سيكون له عواقب اقتصادية وخيمة على الإسرائيليين فضلًا عما يمكن أن يترتب عليها من ارتدادات سياسية.
رشوان في رده قال إن مصر لا تعتمد على مصدر وحيد للطاقة، في إشارة للغاز الإسرائيلي، وأن لديها العديد من البدائل وأنها تضع سيناريوهات عدة للتعامل مع ما يمكن أن يحدث، فيما بدأت قنوات اتصال تُفتح مجددًا مع قبرص وبعض الدول للتباحث حول استيراد الغاز منها.
صدام حقيقي أم معارك كلامية؟
تصطدم الملفات التي رفعت منسوب التوتر بين القاهرة وتل أبيب، وتم تضخيمها على أنها نقطة مفصلية في مسار العلاقات بين البلدين، بالعديد من المؤشرات التي تفرغها من جديتها وتحولها إلى ما يقرب من الحرب الكلامية الخاوية من أي مضمون جاد، ففيما يتعلق بصفقة الغاز، العديد من المسارات تذهب باتجاه المضي قدمًا في تنفيذها بعيدًا عن التهديدات الكلامية الصادرة عن مكتب نتنياهو، منها الإعلان عن إنشاء خط جديد للغاز بقيمة 400 مليون دولار يقع بالكامل داخل الأراضي المصرية، ليتم ربطه بخط آخر في “إسرائيل” استجابة لكميات الغاز الإضافية الضخمة التي من المقرر أن تقوم “إسرائيل” بضخها إلى مصر على مدى السنوات القادمة بحسب الاتفاق المبرم.
كذلك القيام ببعض التوسعات من أجل زيادة إنتاج حقل “ليفياثان” المورد الأساسي للغاز الإسرائيلي لمصر، حتى يغطي المرحلة الأولى من الإمدادات لمصر والمقدرة بنحو 20 مليار متر مكعب، وذلك بموافقة من وزارة الطاقة الإسرائيلية، الأمر الذي اعتبره محللون نسفًا لتهديدات نتنياهو ووزير طاقته بشأن إعادة النظر في الاتفاق.
أما تعزيز التواجد العسكري المصري في سيناء على الحدود مع الأراضي المحتلة، فأكدت هيئة البث الإسرائيلية، نقلا عن متحدث باسم الجيش، أن إدخال أي قوات أو قدرات عسكرية مصرية إلى سيناء يتم بالتنسيق الكامل مع الجيش الإسرائيلي والقيادة السياسية، وذلك وفقا لما نص عليه الملحق العسكري في اتفاقية السلام الموقعة بين مصر و”إسرائيل” عام 1979.
وشهدت السنوات العشر الأخيرة تنسيقًا عسكريًا غير مسبوق بين الدولتين في سيناء، بداية من عام 2014 تحديدًا، وصل ذروته عام 2015 حيث العمليات العسكرية المكثفة بالتعاون بين جيشي البلدين ضد الفصائل المسلحة على الحدود الشرقية المصرية، ومن ثم فإن أي تعزيز للقوات المصرية هناك إنما جاء بالتنسيق والتفاهم المسبق مع جيش الاحتلال بحسب هيئة البث الإسرائيلية.
التعاون على أنقاض غزة
خلال العام الأول من حرب غزة، وبينما كانت الأصوات المطالبة بعزلة الكيان اقتصاديًا عبر تجميد التعاون الاقتصادي العربي معه، تتعالى كأضعف الإيمان في مواجهة تلك العربدة، كشفت البيانات الرسمية الصادرة عن مكتب الإحصاء الإسرائيلي عن زيادة كبيرة في حجم العلاقات التجارية بين دول التطبيع العربية و”إسرائيل”، مقارنة بما كانت عليه قبل عملية طوفان الأقصى.
إذ وصل حجم التبادل التجاري (صادرات وواردات دون ألماس) بين خماسي التطبيع (الإمارات – مصر – المغرب – الأردن – البحرين) والكيان إلى 4 مليارات دولار، خلال الأشهر العشرة الأولى من الحرب (أكتوبر/تشرين الأول 2023 – أغسطس/آب 2024) مقارنة بـ3.6 مليارات دولار خلال الفترة ذاتها من عامي 2022/2023 بزيادة قدرها 400 مليون دولار.
أما مصر فيعد التبادل التجاري بينها وبين “إسرائيل” خلال فترة الحرب هو الأعلى منذ ما يقرب من عقد كامل، إذ تأتي في المرتبة الثانية بين الدول العربية من حيث حجم التبادل التجاري مع دولة الاحتلال والذي بلغ نحو 548.4 مليون دولار مقارنة بـ326 مليون دولار خلال الفترة ذاتها من 2022/2023، ويعد هذا الرقم هو الأعلى منذ عام 2014.
وتشير الأرقام إلى ارتفاع الصادرات المصرية للكيان من 179.2 مليون دولار خلال أكتوبر/تشرين الأول 2022 – أغسطس/آب 2023، إلى 193.9 مليون دولار خلال الفترة ذاتها من 2023/2024، فيما رفعت مصر وارداتها من دولة الاحتلال من 146.9 مليون دولار خلال عامي 2022/2023 إلى 354.5 مليون دولار خلال الأشهر العشرة الأولى من حرب غزة، بزيادة وصلت 141%.
وصل حجم التبادل التجاري بين خماسي التطبيع (#الإمارات – #مصر – #المغرب – #الأردن – #البحرين) و” #إسرائيل” إلى 4 مليارات دولار، خلال الأشهر العشر الأولى #حرب_غزة مقارنة بـ3.6 مليار دولار خلال الفترة ذاتها من العام الماضي بزيادة قدرها 400 مليون دولار.#جباليا https://t.co/sJqud4tijH
— نون بوست (@NoonPost) November 4, 2024
ومع دخول العام الثاني من الحرب، وتصاعد حدة الانتهاكات الإسرائيلية وافتضاح مخطط التهجير وتصفية القضية الفلسطينية، وتجاوز العربدة الإسرائيلية للجغرافيا الفلسطينية لتشمل دول الطوق، سوريا ولبنان والتحرش بالحدود المصرية الأردنية، هذا بجانب الاتهامات الإسرائيلية المباشرة للقاهرة بالتورط في حصار سكان القطاع كما جاء على لسان عضو فريقها القانوني أمام محكمة العدل الدولية في يناير/كانون الثاني 2024، وبينما توقع البعض إعادة نظر في العلاقات الاقتصادية مع تل أبيب، جاء رد الفعل مخيبًا للآمال كالعادة.
حيث وصلت معدلات التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري العربي مع الكيان ارتفاعها لتصل في فبراير/شباط الماضي نحو 6.1 مليارات دولار، منها 4.57 مليارات دولار صادرات عربية لـ”إسرائيل”، و1.57 مليار دولار واردات إسرائيلية إلى الدول العربية، كانت حصة مصر منها 1.2 مليار دولار، اللافت هنا أنها رفعت وارداتها من إسرائيل بنسبة 290% خلال الحرب، لتصل إلى 271.5 مليون دولار، فيما بلغت صادراتها نحو 120.2 مليون دولار.
الملاحظ هنا أنه وفي خضم السجال المتبادل بين القاهرة وتل أبيب والمعارك الساخنة –إعلاميًا– التي تدور رحاها بين البلدين بسبب الوضع في غزة، والتي دفعت بالبعض لإطلاق العنان لخياله لمناقشة الصدام العسكري بين البلدين، بلغ التعاون الاقتصادي بينهما قمة ازدهاره وأوج انتعاشه، لتسد القاهرة –إلى جانب أعضاء حظيرة أبراهام– ثغرة كبيرة في جدار مساعي عزلة الكيان اقتصاديًا.
إذا.. ما مقاربات البلدين إزاء هذا التصعيد؟
إذا كانت أجواء التناسق والتفاهم المصرية الإسرائيلية بتلك الحميمية، وفق المؤشرات سالفة الذكر، يبقى السؤال: ما الأهداف من وراء هذه الجولة من التوتير والتراشق الإعلامي المغلف سياسيًا بين البلدين خلال الآونة الأخيرة؟
بالنسبة لنتنياهو فالرجل الذي يعاني من أزمات داخلية خانقة، جراء الفشل في تحقيق أهداف الحرب كاملة والعجز عن تحرير المحتجزين لدى المقاومة بعد مرور 700 يومًا من الحرب وما ترتب على ذلك من زيادة الغضب الشعبي وارتفاع معدلات الاحتقان، يحاول افتعال الأزمات عبر سياسة القفز للأمام وخلق جبهة توتر جديدة.
وبعد نفاذ جبهاته الإقليمية، لبنان وسوريا واليمن والعراق وإيران، لم يتبق له سوى مصر والأردن لتسخين الأجواء ولو إعلاميًا وسياسيًا عبر التراشق والسجال المتبادل، بما يبقي على المشهد ملتهبًا حيث التعبئة العامة وغض الطرف عن أي تجاذبات داخلية في مواجهة الخطر الجديد، خاصة مع التضخيم من التسليح العسكري المصري والتعامل معه كتهديد وجودي يتطلب توحيد الصف.
كذلك يحاول نتنياهو وحكومته من خلال هذا الهجوم بين الحين والآخر على القاهرة خلق مزيد من الضغوط واختلاق تحديات إضافية تشغل الداخل المصري بأزماته، وتحيّده جانبًا عن المشهد الغزي، وتحوله إلى رئة مهملة في مواجهة الأجندة الاستعمارية الإسرائيلية سواء في فلسطين أو سوريا أو لبنان.
وفي ذات السياق فمن المتوقع أن توصل تل أبيب ضغوطها المعتادة على الدولة المصرية باعتبارها مركز الثقل العربي الإقليمي حتى موعد انعقاد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 سبتمبر/أيلول الحالي، وهي الاجتماعات التي يُرتقب أن تشهد “موجة اعتراف بدولة فلسطين من جانب عدد كبير من دول العالم”.
أما على الجانب الآخر ربما تشعر القاهرة بأريحية كاملة إزاء هذا التصعيد الذي يقدم هدية مجانية على طبق من ذهب لنظام السيسي ومساعدته في صناعة معارك وهمية وخلق انتصارات رمزية ترضي غرور الشارع المصري وتعوضه نسبيًا عن مرارة الخذلان التي يتذوقها منذ بداية الحرب وحالة الانبطاح التي بات عليها النظام في مواجهة العربدة الإسرائيلية.
كما تساعد تلك المعارك السجالية، بما تلقاه من تضخيم أفقي ورأسي، في ترميم الصورة المشوهة التي رُسمت عن الدور المصري واتهامه بالتواطؤ في حرب الإبادة وتجويع الفلسطينيين، وذلك من خلال إلقاء الكرة في ملعب الكيان وتبرئة القاهرة من أي مسؤولية ممكنة.
وللنظام المصري الحالي، في اختلاق المعارك الوهمية للتغطية على العجز في الملفات الحساسة، خبرات طويلة، فهو صاحب معركة “ميكروفون الجزيرة” التي كان بطلها وزير الخارجية السابق سامح شكري للتغطية على فشل مفاوضات سد النهضة، وهو كذلك مروج “غزوة السفارات” للتغطية على اتهامات التواطؤ في حرب الإبادة التي تشهدها غزة.
ورغم تلك المؤشرات التي تضبط التصعيد الحالي وفق بوصلة التفاهمات والمكاسب المشتركة، إلا أن ذلك لا يعني إنكار احتمالات الصدام بين مصر وإسرائيل بشكل نهائي، فالمشهدية السياسية الرخوة حاليًا تفتح الباب أمام كل الاحتمالات، وتغري نتنياهو ويمينه المتطرف في تحقيق حلمهم الاستعماري الكبير، خاصة بعدما كشفته بروفة غزة من تآكل اللحمة العربية ووهن القرار العربي، وإمكانية الاستفراد بالعرب دولة تلو الأخرى وبشكل فردي دون أي قلق من حاضنة إقليمية عروبية أو إسلامية.
في الأخير..
في ضوء التصعيد الأخير، يبدو أن التراشق بين القاهرة وتل أبيب يظل أقرب إلى معركة إعلامية وسياسية منه إلى صدام حقيقي، إذ تحكمه اعتبارات براغماتية تتعلق بالأمن المشترك والمصالح الاقتصادية التي بلغت مستويات غير مسبوقة حتى في ظل حرب غزة. فالتعاون في ملفات الغاز والتجارة والتنسيق الأمني في سيناء يكشف أن ما يُثار من توتر غالبًا لا يتجاوز حدود استعراض القوة وتبادل الرسائل أمام الداخلين المصري والإسرائيلي على حد سواء.
ومع ذلك، لا يمكن التقليل من خطورة اللحظة، فالإصرار الإسرائيلي على طرح سيناريو التهجير، والتوظيف المصري للتصعيد كأداة سياسية داخلية، قد يدفعان العلاقة إلى مسارات غير محسوبة إذا خرجت الأمور عن سيطرة قنوات التنسيق التقليدية. وبينما يراهن نتنياهو على افتعال أزمات لتخفيف الضغوط الداخلية، يجد النظام المصري في هذا التصعيد فرصة لترميم صورته أمام الرأي العام. لكن، ورغم هذه الحسابات المتقاطعة، يبقى احتمال الانزلاق إلى مواجهة أوسع قائمًا ما دامت جذور الأزمة، المتمثلة في الاحتلال وتصفية القضية الفلسطينية، بلا حل جذري