منذ فجر تاريخها الحديث، كانت القضية الفلسطينية بمثابة قلب الأمة العربية النابض، ومقياسًا لحيويتها وتماسكها. لقد كانت محطة اختبار للضمير القومي، تُحشد لأجلها الجيوش، وتُنظم لأجلها المظاهرات، ويُصاغ من أجلها الخطاب السياسي والثقافي والأخلاقي، ولكن بعد عملية السابع من أكتوبر 2023 وما تلاها من حرب إبادة وتدمير ممنهج لقطاع غزة، بدا المشهد مغايرًا ومثيرًا للسؤال والبحث أكثر من الدهشة. فبينما كان يُتوقع، ولو بشكل غير مؤكد أو مُتكامل، أن تنتفض الشعوب العربية، وأن يُترجم الغضب الشعبي إلى فعل سياسي تُبرهنه الأنظمة الحاكمة، ساد الصمت والتردد والنسيان، وتحول الموقف إلى حالة من “العجز” التي بدت مفارقة للتاريخ. هذا الصمت لم يكن مجرد غياب صوتي، بل كان صمتًا مدويًا، يحمل في طياته إرهاصات تحولات عميقة ومسارات معقدة.
يطرح هذا المشهد تساؤلًا جوهريًا: ما الذي أدى إلى هذا العجز الملحوظ في الموقف العربي، على المستويين الرسمي والشعبي، حيال ما يجري في غزة؟ هل هو صمت عابر فرضته ظروف استثنائية، أم أنه تجسيد لواقع متأزم ومعقد تراكمت أسبابه على مدار عقود؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال بالتركيز على عامل واحد، بل يتطلب الأمر استقراءً شاملاً لعدة عوامل متشابكة. من هنا، نحاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال ثلاثة محاور رئيسية تتشابك لتشكل الظاهرة: أولًا، حالة الإرهاق الشعبي والقمع الممنهج الذي أعقب حراك عام 2011؛ ثانيًا، تفكيك الهوية القومية وتأميم القضية الفلسطينية عبر مسار عقود من اتفاقيات السلام الثنائية؛ وثالثًا، تفشي نمط الحياة الفرداني والسياسات النيوليبرالية التي أضعفت الوعي الجمعي والعمل السياسي، وأصبحت بمثابة عنف رمزي غير مباشر يُمارس على الشعوب.
القمع المتوحش، جعل الشعوب تتردد في العودة إلى الميادين بعد تجارب فاشلة، ومريرة جداً، فما شهده العالم العربي من حراك سياسي منذ عام 2011، وإن كان يحمل في طياته آمالاً كبيرة، إلا أن نتائجه أفرزت إرهاقا وإنهاكًا اجتماعيا ونفسيًا عميقا.
كان الحراك الشعبي الذي انطلق في عام 2011 مدفوعاً بظروف شاملة، ترتبط بشكل أساسي بقضايا تؤثر في حياة الناس اليومية، مثل المطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد وامتهان الكرامة الإنسانية ومع تجدد موجات الثورات والانتفاضات منذ عام 2019 في بلدان مثل السودان والجزائر ولبنان، ثم مصر من بعدهم، تبين أن التوق إلى نظام أكثر عدالة وديمقراطية لا يزال قائما في المجتمعات العربية، إلّا أنه أُخفق أيضا، ليرافق تجارب حراكات عام 2011 في الفشل لأسباب متداخلة ومتباينة؛ ففي حالات مثل مصر، افتقرت الانتفاضة إلى قيادة واضحة أو برنامج سياسي محدد، ما أدى إلى نجاح انقضاض الجيش مرة أُخرى واستيلائه على السُلطة وتحول السُلطوية إلى منهج أكثر وحشية ما قبل عام 2011.
سرعان ما تحولت هذه الآمال إلى خيبة أمل كبيرة، حيث كانت تداعيات هذا الحراك عنيفة في بعض الحالات، مثل ليبيا وسوريا واليمن والسودان، ومصر من بعدهم، مما أدى إلى عودة الأنظمة السلطوية بشكل أكثر قمعاً، بجانب الحرب الأهلية والانقسامات الطائفية التي دمّرت البلاد. هذه النتائج السلبية خلقت حالة من الصدمة وفقدان الثقة في العمل الجماعي السلمي للشعوب، فضلا عن سياق نفسي منهك جعل الشعوب أقل استعدادا لدفع ثمن أي حراك جديد، خاصة بعدما أصبحت الأنظمة أكثر يقظة ووحشية في قمع أي تحرك أو يقظة للجماهير.
قمع الاحتجاجات المؤيدة لغزة
لم يكن الصمت الذي لاحظه كثيرون نتيجة اللامبالاة الشعبية، بل هو نتيجة مباشرة لسياسات قمعية فعالة، في الوعي واللاوعي معا، فقد قامت الأنظمة العربية، وبشكل خاص في دول مثل الأردن ومصر، بتطبيق وإعادة تفعيل ترسانتها الأمنية والقانونية التي أسستها بعد عام 2011 لمواجهة أي حراك شعبي، ففي الأردن، صعدت السلطات من حملة قمعها لحرية التعبير والتجمع السلمي، واعتقلت وقاضت الآلاف من الأشخاص لانتقادهم السلطات أو تعبيرهم عن تعاطفهم مع الفلسطينيين.
على سبيل المثال، شنت السلطات حملات قمعية واسعة النطاق ضد مظاهرات دعم غزة، فقد شهدت العاصمة عمان قمعًا أمنيًا متمثلا في اعتقال واستدعاء آلاف الأشخاص ومقاضاة بعضهم أمام محكمة أمن الدولة، خاصة المتظاهرين بالقرب من السفارة الإسرائيلية، وحتى في محيط السفارة الأمريكية. ولم يقتصر القمع على الميدان، بل امتد إلى الفضاء الرقمي، حيث استخدمت السلطات قانون الجرائم الإلكترونية لملاحقة النشطاء بسبب منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي عبروا فيها عن دعمهم للفلسطينيين أو انتقدوا معاهدة السلام مع “إسرائيل” أو غير ذلك من تنسيقات أمنية وتجارية بين البلدين. كما تم استخدام قنابل الغاز المسيل للدموع لمنع المتظاهرين من الوصول إلى سفارة “إسرائيل” في عمان أو الحدود مع إسرائيل.
وبالمثل، وبشكل أكثر عنفًا، قُمعت المظاهرات في مصر الداعمة لغزة منذ الأسبوع الأولى لبدء الحرب الإسرائيلية، حيث قمعت قوى الأمن المظاهرة التي خرجت يوم 20 أكتوبر إلى ميدان التحرير، ومن بعدها قامت باعتقال العشرات على إثر التضامن مع غزة، وتوسعت الاعتقالات حتى ضمّت كثير ممن يجمّعون تبرعات “تكيات” الطعام، وأصبح تعليق يافطة أو لافتة أو صورة في الشوارع سبباً كافياً للاعتقال لأشهر وسنوات داخل أقبية السجون المصرية.
هذه السياسات القمعية الممنهجة، التي تشمل الاعتقالات والترحيل التعسفي حتى لمن جاؤوا للمشاركة في الحملات العالمية المتجهة لمعبر رفح لكسر الحصار، تشير إلى أن “جدار الخوف” لم يعد ماديا فحسب، بل هو جدار وجودي ونفسي عميق، مما يفسر سبب عدم استمرار الحراك الشعبي، إذ كان النفس الأطول في الاستمرار لصالح الأنظمة العربية وأدواتها القمعية في إسكات الشعوب.
مشاهد متكررة لتعدّي الأمن الأردني على مشاركين في مظاهرات مناصرة لـ #غزة، حيث تم قمعهم بالضرب والاعتقال. pic.twitter.com/DYOjpgM7kX
— نون بوست (@NoonPost) April 11, 2025
تفكيك القضية: من عربية إلى فلسطينية
لم تعد القضية الفلسطينية “قضية الأمة العربية”، بل تحولت إلى قضية وطنية فلسطينية، بفضل عقود من الاتفاقيات التي فككت الموقف العربي المُوحد لصالح مسارات ثنائية. هذا التحول لم يحدث فجأة، بل كان نتيجة لمسار تاريخي طويل بدأ بضربة قوية للوحدة العربية.
تمثل اتفاقية كامب ديفيد في عام 1978 ضربة قاصمة للجبهة العربية التي كانت موحدة في مواجهة “إسرائيل”، فعبر توقيع مصر، أكبر دولة عربية وأقواها عسكريا حينذاك وإلى الآن، على اتفاق سلام ثنائي، تم كسر الإجماع العربي الذي كان يرى أن الحل لا يمكن أن يكون إلا شاملًا ومبنيًا على مبدأ الأرض مقابل السلام على جميع الجبهات، بما في ذلك إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
كان هذا الاتفاق بمثابة “الضربة الرمزية” التي أيقظت الأنظمة العربية على فكرة أن مصالحها الوطنية يمكن أن تنفصل عن القومية العربية، وعلى الرغم من أن الاتفاق أثار استياءً واسعًا في العالم العربي شعوبا وأنظمة، وأدى إلى تجميد عضوية مصر في جامعة الدول العربية، إلا أنه أوجد سابقة خطيرة: أن المصالح الوطنية الثنائية (الغاز، التجارة، الأمن) يمكن أن تكون هي المحرك الأساسي للعلاقات، وليس الوحدة القومية وقضايا الكرامة والتحرر من الهيمنة الاستعمارية في شكلها الجديد. هذا الحدث لم يكسر الجبهة العربية فحسب، بل زرع بذور “الفردانية السياسية” للدول وأنظمتها الحاكمة، التي هي أنظمة استبدادية وقمعية وتأخذ شرعيتها من النظام الدولي لا من الشعوب، حيث أصبح من الممكن لكل دولة أن تسعى لمسارها الخاص بغض النظر عن الموقف الجماعي.
يُظهر التسلسل التاريخي للاتفاقيات كيف تآكل الموقف العربي تدريجيا، حيث بدأت هذه السلسلة مع اتفاقية كامب ديفيد (1978-1979) التي أنهت حالة الحرب بين مصر و”إسرائيل”، وأدت إلى انسحاب “إسرائيل” من سيناء. بعد ذلك، جاءت اتفاقية أوسلو (1993)، وهي أول اتفاقية رسمية مباشرة بين “إسرائيل” ومنظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الوحيد والرسمي للفلسطينيين، وقد اعترفت فيها المنظمة بـ”إسرائيل”. هذا الاتفاق أدى إلى “فلسطَنة” القضية بشكل رسمي من الفلسطينيين أنفسهم، حيث أخرجتْ الأمة العربية كطرف رئيسي من معادلة الصراع. واستكمالًا لهذا المسار، رسخت اتفاقية وادي عربة (1994) التي وقعها الأردن و”إسرائيل”، العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بينهما، وأدت إلى ربط المصالح الوطنية الأردنية، مثل استيراد الغاز من “إسرائيل”.
هذا التدرج في الاتفاقيات، من ثنائية إلى فردانية، يفسر جزءا كبيرا من تفكك الموقف العربي، والذي تبعه بالضرورة الأيديولوجية إخراج المشروع العربي القومي من المعركة بشكل شبه نهائي، ورسمي، ما فسَر اتجاه حركات المقاومة إلى المساعدات والتحالفات والتنسيقات مع أنظمة ادعاء “الممانعة”، النظام السوري مثالا، والمشروع الإيراني، الذي صعد بقوة استراتيجية، والذي في أساسه، ينظّر لمعاداة الوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية، وهذا أيضا ما يوضح أسباب انجرار كثير من كتَّاب ومثقفي العروبة واليسار والقومية إلى التأييد الأعمى للمشاريع والممارسات الإيرانية في المنطقة العربية، حيث أدى الإفلاس الفكري والتنظيمي، و”الأمة العربية المُتآكلة” من قبل أوسلوا وما بعدها، إلى ارتمائِهم بشكل شبه كامل، ضمن الخطاب الإيراني. هذا قبل الحرب الأخيرة وتوجيه ضربة قوية إلى جزئها العضوي، حزب الله، ومن ثم سقوط نظام الأسد، والذي أدت هذه النتائج إلى انكفاء إيران على ذاتها لضمان ما تبقى من مشروعها النووي، فضلا عن بقاء نظامها الذي هُدد في الحرب الأخيرة مع “إسرائيل” بالسقوط.
السينما والإعلام: تأطير الوعي وتهميش القضية
لعب الإعلام والسينما دورا محوريا في هذا التحول، ففي أعقاب حرب أكتوبر وصولا إلى عام 2011، قد تناولت السينما المصرية القضية الفلسطينية بشكل مكثف، وعكست أفلام مثل “السفارة في العمارة” و”أصحاب ولا بيزنس” و”الآخر” وغيرهم من عشرات الأفلام حالة الرفض الشعبي للتطبيع المصري مع “إسرائيل”. من بعد عام 2011، ومن ثم صعود سُلطوية السيسي، وبدء تأميم الفن تدريجيا من قبل السُلطة السياسية وأجهزتها الأمنية، المخابراتية تحديدا، اختفت القضية الفلسطينية من الصناعة الفنّية بشكل مباشر، ورمزي، ولم تعد الصناعة الفنية سوى منتج ترويجي لإنجازات السلطة الحالمة ببناء الجمهورية الجديدة أو حتى صناعة منعزلة عن القضايا الاجتماعية والسياسية والهموم العربية بشكلها العام وما يتبعها من تفاصيل.
أما الخطاب الإعلامي، فقد شهد تحولاً جذرياً، من أداة لنقل الواقع إلى آلة لصناعة واقع موازٍ، فمنذ عهد السادات، ثم في عهد مبارك وصولًا إلى نظام السيسي، شهد الإعلام تحولًا نحو التطبيع، واختفت القضية الفلسطينية من المشهد الإعلامي. لقد دشنت سُلطوية السيسي حملات إعلامية للهجوم على المقاومة الفلسطينية (الفصائل وأهمها حماس) وتهميشها، بل وتصويرها كمصدر “للمشاكل وعدم الاستقرار” في الداخل المصري من قبل ثورة يناير ومن بعدها.
هذا الخطاب الإعلامي الذي يبرر مواقف الأنظمة ويصور المقاومة بشكل سلبي، قلل من شأن العمل الجماعي من أجل القضية ومن الاهتمام بالقضايا الكبرى لدى الجمهور المصري ولاسيما الأجيال الجديدة، فإذا كان النضال “مصدراً للمشاكل”، والنضال ليس مثاليا، وبه حركات مقاومة تعمل بشكل “سلبي” وأناني يخص مصالحها لا مصالح القضية الفلسطينية، فمن الأفضل للفرد العربي، المهموم، أن يركز على حياته الخاصة. هذا التحول ليس مجرد انعكاس للواقع، بل هو هندسة ممنهجة للوعي، حيث يتم تحويل القضية من نضال ثوري إلى مجرد “مادة فنية” أو “موضوع إنساني” فقط، مما يفقدها زخمها السياسي والتحرري في الوعي الجمعي.
الفردانية وانفصام الوعي الجمعي
لم يكن الصمت العربي نتيجة للقمع السياسي وتفكك الموقف القومي فحسب، بل هو أيضاً نتاج لتآكل في البنية الاجتماعية والقيم الثقافية والأخلاقية، بشكلها الجمعي لا الفرداني، فقد أدى تفشي القيم الفردانية والسياسات النيوليبرالية إلى تقويض الروابط الجماعية والوعي السياسي الذي كان يحفز على العمل من أجل قضايا التحرر.
تُعرّف الفردانية بأنها فلسفة سياسية واجتماعية تُعلي من القيمة المعنوية للفرد، وتضع أهدافه ورغباته فوق اعتبارات الدولة والجماعة. هذه النزعة تتناقض بشكل مباشر مع فكرة “الأمة” و”العمل الجماعي” التي هي أساس النضال من أجل القضايا القومية الكبرى، فأي نضال يتطلب عمل جماعي، بل وعمل جماعي مُنظم محفوف بكل المخاطر الإنسانية التي تبدأ من التهديد مرورا بالسجن ووصولا إلى الاختفاء والقتل.
على الجانب الاقتصادي، أدت السياسات النيوليبرالية التي تبنتها العديد من الحكومات العربية إلى تفاقم التفاوت الاجتماعي وتراجع التنمية، مما أدى إلى انتشار البطالة والفقر. هذه الأوضاع الاقتصادية جعلت الهم الأكبر للطبقات الفقيرة والمتوسطة هو البقاء اليومي، فالإنسان العربي اليوم، فضلاً عن خوف ويأسه واكتئابه الوجودي، هو مهموم ومشغول طيلة يومه بالسعي على توفير لقمة عيشه، لا المشاركة في حراك وتنظيم سياسي وفكري، غالباً سيؤدي به إلى غياهب السجون وتمثلات العذاب المُختلفة.
لقد استبدلت هذه المنظومة “المفاهيمية” فكرة “العمل من أجل القضية” و”الالتزام بالوطن” بفكرة “النجاح الشخصي” و”تحقيق الذات”. هذا التحول القيمي جعل من النضال السياسي عبئًا على الفرد، وعبئاً ثقيلاً جداً، لا واجباً جماعياً. كما أن هذه النزعة الفردانية أدت إلى تآكل المعايير الأخلاقية، وتعزيز الأنانية وعدم الاكتراث بالآخرين. إنه أُفول الواجب وتفشّي النسبية، حسب المفكر الفرنسي جيل ليبتوفيسكي، حيث يصبح الكذب والغش مقبولين ما داما يخدمان مصالح الفرد. هذا التآكل في القيم والهموم، الذي عززته ثورة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، وعبادة الذات والتي تتمثل عند البعض في صورة الجسد “المثالي”، أدى إلى تراجع الوعي الجمعي حيال القضايا التحرّرية.
في عصرٍ يصفه الكثيرون، تماهيا مع أطروحات عالم الاجتماع البولندي الراحل زيغمونت باومان، بأنه عصرُ “السيولة” وتراجع القيم الجمعية، حيث تتآكل مفاهيمُ التضحية والبطولة لتُحل محلها نزعةٌ فردانيةٌ متزايدة، وتتسيّدُ ثقافةُ البقاء بأي ثمن، حيثُ يصبحُ التمسّكُ بالحياة غايةً في حد ذاتها. بيدَ أن هذه “السيولة” لم تُلغِ البحثَ عن الخلاصِ، بل أعادت تعريفه. ففي خضم هذا المشهد المُفتت، يظهرُ فعلُ التضحية بالموت كأحد أشد أشكال التعبير قوةً، ليُصبحَ لغة تتجاوز الصمت وتعلن عن نفسها. سواء كان هذا الفعلُ استبسالًا جماعيًا له أفقٌ استراتيجيٌّ واضحٌ ضمن مسار تحرّريّ، أو كان خلاصًا مطلَقًا، انتفاضة فردية تسبق كل أشكال الفعل السياسي المنظم، أو حتى صرخة شخصية لإنقاذ الذات من متاهتها الوجودية. فالموتُ، في هذا السياق، لم يعد مجرد نهاية، بل أصبحَ نقطةَ انطلاقٍ للحديث عن الذات والآخرين: “لقد كنتُ هنا، ولم يُعترف بي”. إنها محاولةٌ أخيرةٌ لانتزاع الاعتراف والوجود في عالمٍ باتَ يُمحو فيه الفردُ لصالحِ أنماطِ حياةٍ استهلاكيةٍ لا تُبقي على روحِ النضالِ أو قيمةِ التضحية.
الصمت ليس مطلقًا: خيوط الأمل في مشهد مُمزق
ختاماً، في تحليل الصمت العربي حيال حرب غزة، يتضح أن هذه الظاهرة لم تكن عفوية، بل هي نتاج تراكم معقّد لعوامل متداخلة: إرهاق وقمع ما بعد 2011، وتفكك الهوية القومية لصالح المصالح الوطنية منذ كامب ديفيد، وتآكل الوعي الجمعي في ظل الفردانية النيوليبرالية، هذه العوامل لا تمارس بشكل منفصل، بل تتكامل لتشكل بيئة معقدة تفسر حالة العجز، واليأس الوجودي، التي سادت المشهد الرسمي والشعبي.
لكن من الضروري التأكيد على أن هذا الصمت ليس مطلقًا، فبينما كان الموقف الرسمي العربي يتميز بـ”الاحتجاج والضعف”، ظهرت خيوط من المقاومة والفعل من خارج الإطار الرسمي. لقد انتقل الحراك الفعلي إلى ما يسمّى “محور المقاومة”، الذي يضم حركات مُسلحة غير دولاتيّة. فالحوثيون في اليمن، على سبيل المثال، قاموا بأعمال عسكرية استهدفت السفن التجارية المتجهة إلى “إسرائيل“ في البحر الأحمر. كما دخل حزب الله في لبنان معركة ضد “إسرائيل”، في إشارة إلى دعم وإسناد المقاومة في غزة، وإن لم يكن تدخلا كافيًا لإسناد غزة من الإبادة الإسرائيلية.
هذا التناقض بين موقف “الدول والأنظمة الرسمية” من جهة، وموقف “كيانات غير حكومية” من جهة أخرى، يكشف عن تحول جذري في مفهوم العمل القومي المسلح، والتحرري. لم تعد المسؤولية عن القضية حكرا على الدول، بل انتقلت إلى قوى فاعلة من خارجه. لكن، أيضا، في ظل إشكالية نزع السلاح سواء الخاصة لحركة حماس في قطاع غزة، وهو هدف “إسرائيل” الأول في إنهاء حربها أو حتى مع حزب الله في لبنان، يأخذنا إلى تفكير طرح، وهو: هل نزع السلاح وتسليمه يمثّل بداية لانتهاء الحركات غير الدولاتيّة، وحصر كل السلاح سواء كان سلاحا مقاوما أو غير ذلك في إطار أنظمة الدول المعترف بها رسميا فحسب.
كذلك، التحولات التاريخية لا تصنعها ولا تُقاس أو تُنتج عبر أعوام قليلة، بل تحتاج إلى عقود من الديناميكيات المُستمرة والمتحررة من المادية التاريخية، والتي تثبت مع الوقت أنها قادرة على خلق مشاهد جديدة تزلزل موازين القوى التي كانت راسخة، فإن كانت هذه السنوات هي بداية لهيمنة أميركية إسرائيلية على المنطقة العربية، فهذا ليس مُطلقا أو قدرًا أبديا، فبعد سنوات أو عقود، ربما يعاد تنظيم جماعات أُخرى، أو تصعد أنظمة عربية جديدة إلى السُلطة تتبنى سياسات أقرب لرؤى الشعوب، وأقرب إلى سرديات الكرامة العربية رافضةً الهيمنة والتبعية للقوى الإمبريالية الغربية.
العشرات يتظاهرون في المغرب لمطالبة بلادهم بإنهاء التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي ووقف العـ.ـدوان المتواصل على قطاع غزة pic.twitter.com/6654iFfO86
— نون بوست (@NoonPost) August 23, 2025
على الرغم من عزوف فئات شعبية كبيرة عن العمل السياسي، لكن، يوجد فئات لا تزال مهمومة بالقضايا الكبرى، ولا تزال تحاول العمل. جليًا، نرى ذلك في تنظيم الأساطيل لكسر الحصار على غزة، ما يُظهر أن جذوة القضية لم تنطفئ، وأنه لا زال هناك أمل وقدرة، لو ضعيفة في الوقت الحالي، على تعبئة الجماهير، لكن ربما من خلال قنوات جديدة لا ترتبط بالأنظمة الرسمية الحالية، مما يدل على أن “الوعي” لا يزال موجودا، لكن قنوات التعبير عنه تتغير باستمرار، وتَضعف وتقوى كذلك. يبقى السؤال معلقاً: هل ستظل القضية الفلسطينية محصورة في هذا الفضاء الجديد، أم أن الأزمة الراهنة ستكون شرارة لإعادة إحياء الوعي القومي والعمل الجماعي في الدول العربية؟ وكيف ومتى سيحدث هذا؟