شهدت مدينة إسطنبول خلال الأيام الماضية احتجاجات متصاعدة لأنصار حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة التركية، عقب قرار قضائي مثير للجدل قضى باستبدال رئيس فرع الحزب في المدينة، ما فجّر موجة غضب بين أنصار الحزب الذين اعتصموا أمام مقره الرئيسي، لتتطور المواجهات مع قوات الأمن إلى اشتباكات عنيفة.
أشارت وكالة رويترز إلى أن نحو 200 متظاهر حاولوا إزالة الحواجز الأمنية التي أقامتها الشرطة حول المقر منذ الليلة السابقة، قبل أن تفرّقهم باستخدام القوة وتعتقل نحو 20 شخصًا أثناء محاولة إدخال الرئيس الجديد المعيّن بقرار المحكمة.
ودعا زعيم الحزب أوزغور أوزيل -في كلمة ألقاها في وقت متأخر الليلة الماضية- إلى كسر ما سماه “الحصار” على مقر الحزب، قائلا إن “من يدافع عن حزب الشعب الجمهوري يدافع عن الجمهورية”.
في هذا المقال، نشرح تفاصيل الحكم القضائي الذي أشعل هذه التطورات، ونضعه في سياق الأزمة السياسية المستمرة في تركيا، ثم نتوقف عند أبرز وجوه المعارضة التركية ودورهم في المرحلة المقبلة.
ما هو الحكم الذي أشعل الاحتجاجات؟
شهدت إسطنبول خلال الأيام الأخيرة موجة احتجاجات لأنصار حزب الشعب الجمهوري عقب قرار قضائي باستبدال رئيس فرع الحزب في المدينة، أوزغور جيليك، بالسياسي جورسل تكين، النائب السابق لرئيس الحزب.
القرار فجّر غضب الشارع، إذ رفض زعيم الحزب أوزغور أوزيل القرار ووصفه بأنه “باطل ولاغٍ”، مؤكّدًا أن تكين مفصول من الحزب ولا يحق له تولي أي منصب. أما جيليك نفسه فأكد أنه “لن يتنازل عن موقعه لأي شخص مهما كانت الضغوط”، ما جعل مقر الحزب في إسطنبول بؤرة مواجهة بين أنصاره وقوات الأمن.
غير أن جذور هذه الاحتجاجات تعود إلى المسار القضائي المتصاعد بحق أكرم إمام أوغلو، السياسي التركي البارز وعضو حزب الشعب الجمهوري، الذي شغل منصب عمدة إسطنبول منذ عام 2019. ورغم أن فوزه آنذاك اعتُبر نقطة تحوّل للمعارضة التركية، فإن السنوات اللاحقة شهدت فتح سلسلة من التحقيقات بحقه، تراوحت بين قضايا إدارية وقضائية وحتى جنائية.
أولى القضايا البارزة تعود إلى عام 2022 حين اتُّهم بإهانة مسؤولي اللجنة العليا للانتخابات بعد إلغائهم نتائج انتخابات بلدية إسطنبول الأولى، وانتهت بحكم أولي بالسجن ومنعه من العمل السياسي، قبل أن يُستأنف لاحقًا، لكن هذا الملف لم يكن سوى بداية لمسار قضائي أكثر تعقيدًا، إذ توسعت التحقيقات لتشمل اتهامات بالفساد وتزوير المناقصات واستغلال النفوذ داخل بلدية إسطنبول. كما أُثيرت شبهات حول علاقاته غير المباشرة مع جهات مرتبطة بحزب العمال الكردستاني، إلى جانب اتهامات بإنشاء شبكات مالية موازية عُرفت إعلاميًا بـ”الخزائن السرية”.
في 19 مارس/آذار 2025، اعتُقل إمام أوغلو على خلفية هذه الاتهامات وعلى رأسها الفساد والاحتيال وتقديم تسهيلات لجهات مصنفة “إرهابية”، ثم أودع السجن بعد أيام قليلة حيث لا يزال محتجزًا حتى الآن.
ولم تتوقف القضايا عند هذا الحد، إذ تراكمت ضده ملفات إضافية، ففي 4 يوليو/تموز 2025 وُجهت له تهمة تزوير الشهادة الجامعية، ما قد يحرمه من الترشح لأي استحقاق انتخابي مقبل. وبعدها بأيام، في 16 يوليو/تموز، صدر حكم جديد بحبسه سنة و8 أشهر بتهمة إهانة وتهديد النائب العام في إسطنبول، وهو حكم قابل للاستئناف لكنه أضيف إلى رصيده القضائي، ورسّخ وضعه كسجين قيد المحاكمة.
البعد السياسي للأزمة
أظهرت التطورات الأخيرة أن قضية إمام أوغلو لم تعد محصورة في شخصه، بل امتدت لتطال البنية الداخلية لحزب الشعب الجمهوري نفسه، فقرار المحكمة بعزل رئيس فرع الحزب في إسطنبول واستبداله بجورسل تكين، وهو سياسي مفصول من الحزب، عُدّ من قِبل المعارضة تدخّلًا مباشرًا في الحياة الحزبية و”انقلابًا مدنيًا” يستهدف إعادة ترتيب الشرعيات من خارج الآليات الديمقراطية. وبذلك تحوّل المسار القضائي من مساءلة فردية إلى أداة لتقويض المعارضة على مستوى مؤسساتها التنظيمية.
الحكومة التركية من جانبها ترفض هذه الاتهامات وتصرّ على أن الإجراءات تستند إلى مخالفات موثقة، فقد نقلت رويترز عن مصادر رسمية وصفها لشبكات الفساد داخل بلدية إسطنبول بأنها “أخطبوط”، في إشارة إلى حجم التشابكات المالية والإدارية التي تكشفت خلال التحقيقات، مؤكدة أن ما يحدث ليس صراعًا سياسيًا بل استكمال لجهود مكافحة الفساد، غير أن توقيت القرار وطريقة تنفيذه منحاه طابعًا سياسيًا واضحًا، إذ بدا أن القضاء يستخدم ليس فقط لمحاكمة شخصيات بعينها، بل لإعادة هندسة المشهد الحزبي برمّته.
يزداد البعد السياسي وضوحًا عندما يتعلّق الأمر بإسطنبول، المدينة التي تُعد مركز الثقل الاقتصادي والرمزي والسياسي في تركيا، فإضعاف نفوذ المعارضة داخلها يعني الحد من قدرتها على إنتاج قيادات جديدة، وخسارة واحدة من أهم أدواتها في مواجهة الحزب الحاكم، ولهذا ينظر كثير من المراقبين إلى ما يجري باعتباره معركة طويلة المدى على مستقبل المعارضة، أكثر منه ملفًا جنائيًا يتعلق بمخالفات إدارية محددة.
أبرز وجوه المعارضة الحالية
مع دخول أكرم إمام أوغلو السجن وتجميد دوره السياسي، برزت إلى الواجهة وجوه أخرى تحاول ملء الفراغ داخل المعارضة التركية وصوغ خطاب قادر على مواجهة هيمنة السلطة، في مقدمتهم أوزغور أوزيل، زعيم حزب الشعب الجمهوري منذ أواخر عام 2023، الذي ورث قيادة الحزب بعد استقالة كمال كليجدار أوغلو إثر خسارة الانتخابات الرئاسية.
أوزيل، وهو نائب سابق ورئيس الكتلة البرلمانية للحزب، اعتمد خطابًا أكثر حدة تجاه الحكومة، وقدّم نفسه كحارس شرعية الحزب ورافض لمحاولات “الوصاية القضائية” على بنيته الداخلية، فيما يعمل على تعزيز صورته كواجهة جديدة للمعارضة البرلمانية والشعبية من خلال ظهوره المتكرر في الاحتجاجات الأخيرة وتصريحاته حول “الحصار السياسي” المزعوم.
إلى جانبه يبرز اسم منصور يافاش، رئيس بلدية أنقرة، الذي يمثل جناحًا أكثر محافظة واعتدالًا داخل المعارضة، فصعوده منذ انتخابات البلديات عام 2019 جعله أحد الأسماء المطروحة لمنافسة أردوغان، وهو يعتمد على رصيده في إدارة العاصمة وعلى قدرته في مخاطبة شرائح قومية–وطنية كانت بعيدة عن حزب الشعب الجمهوري تقليديًا. وعلى الرغم من أن يافاش أقل حضورًا إعلاميًا من إمام أوغلو، فإنه يُعد ورقة انتخابية مؤثرة يمكن أن تُستثمر في أي استحقاق وطني.
أما الوجه الثالث فهو ميرال أكشنار، زعيمة حزب “الخير” القومي المعارض، التي انشقت عن الحركة القومية عام 2017 وأسست حزبها كخيار ثالث بين العدالة والتنمية والشعب الجمهوري. أكشَنَر خاضت الانتخابات الرئاسية عام 2018 ثم دخلت في تحالفات انتخابية مع المعارضة، لكنها واجهت خلافات داخلية في السنوات الأخيرة أضعفت موقعها. مع ذلك، تظل واحدة من أبرز الشخصيات النسائية في السياسة التركية.
إلى جانب هذه الشخصيات الثلاث، تستمر أسماء أخرى في لعب أدوار مؤثرة مثل كمال كليجدار أوغلو، الذي وإن تراجع عن الواجهة بعد هزيمته الانتخابية، ما زال يحتفظ بثقل رمزي داخل الحزب، وكذلك صلاح الدين دميرطاش، زعيم حزب الشعوب الديمقراطي (المسجون منذ 2016)، الذي يمثّل شريحة واسعة من الأكراد، ويظل حضوره المعنوي فاعلًا في معادلة المعارضة رغم القيود المفروضة على حزبه.
تُظهر هذه التطورات أن قضية إمام أوغلو تجاوزت إطارها القضائي لتصبح جزءًا من معادلة سياسية أوسع تعيد تشكيل العلاقة بين السلطة والمعارضة في تركيا على أمد طويل، فالتغييرات التي طالت البنية الداخلية لحزب الشعب الجمهوري، والاحتجاجات التي رافقت ذلك، تعكس بداية مرحلة جديدة قد تُعيد رسم ملامح المعارضة وتوازن القوى السياسية في البلاد لعقود مقبلة.