في 30 يوليو/تموز 2020 اقتحم عدد من النشطاء مقر شركة “إلبيت سيستمز” الإسرائيلية في لندن، والتي تعدّ المزوّد الأول لجيش الاحتلال الإسرائيلي بالسلاح، حيث رشّوا مداخلها بالطلاء الأحمر (نسبةً إلى لون الدماء)، في محاولة كان الهدف منها إغلاق مقر الشركة في بريطانيا، تنديدًا بدورها في دعم جرائم الاحتلال ومساعدته في حرب الإبادة التي يشنّها ضد الشعب الفلسطيني منذ عقود.
لم يكن يعرف أحد حينها هوية المقتحمين، مزيج مختلط بين عرب وبريطانيين، ولا خلفيتهم الأيديولوجية والسياسية، لكن سرعان ما تمّت الإجابة عن كافة الأسئلة الغامضة، وذلك بالإعلان عن تدشين حركة احتجاجية جديدة بمواصفات خاصة ومعايير استثنائية تسمى “فلسطين أكشن” (Palestine Action).
تقول الحركة على موقعها الإلكتروني، إنها “حركة عمل مباشر تهدف إلى إنهاء المشاركة العالمية في نظام الإبادة الجماعية والفصل العنصري الإسرائيلي”، لكن بأبجديات وتكتيكات مختلفة، بعيدة تمامًا عن استراتيجيات الدبلوماسية الهادئة والناعمة التي لم تحقق أي أهداف ملموسة في ثني الاحتلال عن جرائمه.
واستطاع هذا التنظيم غير المركزي في غضون خمس سنوات فقط أن يسجّل اسمه كأحد اللاعبين المؤثرين في ساحة المقاومة الخارجية الداعمة للقضية الفلسطينية، ليتحوّل من حركة احتجاجية تقليدية في بريطانيا إلى ظاهرة نشطة تعتمد على العمل المباشر ضد شركات الأسلحة المرتبطة بإسرائيل، مُدشّنًا بذلك استراتيجية مغايرة للعمل المقاوم تقوم على الردع، وهو ما كان له صداه لدى الأوساط الأوروبية بشكل كبير.
من رحم النضال كانت النشأة
لم تكن نشأة “فلسطين أكشن” مفاجئة ولا ولادة من عدم مثل العديد من الكيانات الأخرى، لكنها امتداد لمسيرة مطوّلة من النضال والمقاومة المدنية في الخارج، ومحاولة واقعية لجمع كل النشطاء المندّدين بالدعم البريطاني للمحتل الإسرائيلي داخل بوتقة واحدة وتحت شعار واحد وعبر تكتيكات واستراتيجيات موحّدة.
مؤسسة الحركة هي الناشطة هدى عموري، والتي تُعدّ من أبرز الوجوه النشطة سياسيًا في بريطانيا، ناشطة سياسية من أصول فلسطينية-عراقية، كرّست نشاطها لتعرية التواطؤ الغربي، خصوصًا البريطاني، مع الاحتلال الإسرائيلي. قبل تأسيس الحركة كانت ضمن المبادرات الطلابية المناهضة للاستعمار وناشطة في حركة المقاطعة (BDS).
ولعل خلفيتها العائلية، فوالدها فلسطيني ووالدتها عراقية، جعلتها تربط منذ بدايات نشاطها بين النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي والعدوان على العراق كنموذجين للهيمنة الغربية. وتتمتع بجرأة خطابية ملحوظة إذ تصف الشركات التي تتعامل مع الكيان الإسرائيلي بأنها “مجرمة حرب”، وترى أن النضال في أوروبا يجب أن يكون امتدادًا للمقاومة الفلسطينية، وبسبب نشاطها اعتُقلت أكثر من مرة.
What a ridiculous statement to make.
Palestine Action was disrupting the Israeli weapons industry which armed the genocide.
Your government proscribed the group to protect the flow of weapons to Israel.
So please, do not lecture us on how to support Palestine. https://t.co/HjRz4dgW5a
— Huda Ammori (@HudaAmmori) September 7, 2025
أما شريكها الثاني في تأسيس الحركة فهو الناشط اليساري البريطاني ريتشارد برنارد، وله هو الآخر باع طويل في العمل المعارض ضد الكيانات الداعمة لأي حروب إبادة، وهو أحد الوجوه المندّدة بدعم بلاده للجيوش السلطوية التي تستهدف حقوق الشعوب الأخرى. وله العديد من الأنشطة الاحتجاجية بداية من الاعتصامات الرمزية مرورًا بتسلق المباني ووصولًا إلى احتلال مواقع بعض الشركات الداعمة للكيان المحتل.
وتلاقت أيديولوجية عموري النضالية ضد الهيمنة الغربية مع أفكار برنارد اليسارية المندّدة بتواطؤ بلاده في جرائم ضد الإنسانية خارج الحدود، ليدشّنا معًا حركة “فلسطين أكشن” التي استهلّت أول بيان لها يوم الخميس 30 يوليو/تموز بدعوة: “كل من يقف ضد العنصرية والاضطهاد إلى الانضمام إلى نضالنا، لن نستريح حتى ينال الشعب الفلسطيني الحقوق والكرامة التي نستحقها جميعًا: التحرر من الفصل العنصري والاحتلال والاستعمار الإسرائيلي. نحن ندعو كل من يدعم العدالة والمساواة إلى الانضمام إلى حركتنا، والمشاركة في أنشطتنا، والمساهمة في بناء حملة قادرة على إنهاء تواطؤ المملكة المتحدة في هذه الجرائم”.
وعن خلفية التأسيس، يقول البيان إن “Palestine Action” شبكة وطنية جديدة أنشأتها مجموعة من الحركات الاحتجاجية المباشرة ونشطاء من مختلف أنحاء المملكة المتحدة، للترويج للعصيان المدني واتخاذ إجراءات مباشرة ضد الشركات والمؤسسات التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي لفرض نظام الفصل العنصري والاحتلال والاستعمار على الشعب الفلسطيني بعنف. لافتًا إلى أن الحركة شبكة قاعدية، أفقية القيادة، ترتكز على العمل المباشر، وتركّز على تحقيق نتائج ملموسة، وأنها ستتحرك ضد الشركات المتواطئة، وستضغط على المؤسسات لسحب استثماراتها منها.
المواجهة بدلًا من الدبلوماسية التقليدية
على مدار سنوات طويلة خاضها مؤسسو الحركة في العمل النضالي، توصّلوا إلى نتيجة مؤكدة مفادها أن الدبلوماسية التقليدية الناعمة لا تؤتي ثمارها، وأن لغة البيانات والشجب والإدانات لا تحرك ساكنًا، وأن السلمية ليست شرطًا أن تكون دومًا أقوى من الرصاص، فكثيرًا ما تُفرغ أي عمل من مضمونه وتحوله إلى جثة هامدة لا رجاء منها ولا فيها.
من هذا المنطلق كانت فلسفة “فلسطين أكشن” التي وضعت لهدفها المعلن، إنهاء التواطؤ البريطاني والأوروبي في دعم الاحتلال، أسلوبًا مختلفًا عمّا كان عليه في السابق، يعتمد على الضغط على الشركات الإسرائيلية أو المتعاونة معها، وذلك عبر أساليب عدة منها: العصيان المدني، الاقتحامات، إتلاف الممتلكات، إغلاق المصانع، تعطيل سلاسل التوريد، والسيطرة على المقرات.
ويعكس هذا التوجه الجديد تحوّلًا لافتًا في مسار دعم القضية الفلسطينية، من التضامن الرمزي إلى ممارسة عملية تهدف إلى تعطيل البنية الاقتصادية والسياسية التي تغذي الاحتلال، حيث ترى الحركة أن المقاومة لا يجب أن تقتصر على المظاهرات السلمية أو العرائض والبيانات، بل ينبغي أن تتجه نحو الفعل المباشر.
وتتلخّص فلسفة الحركة في عدة محاور، أبرزها اعتماد المقاومة الميدانية بدلًا من الدبلوماسية الهادئة، خاصة بعدما أثبت العمل الدبلوماسي البطيء عجزه عن إحداث تغيير ملموس، خصوصًا في ظل الدعم الغربي المستمر لإسرائيل. كذلك تؤكد على مسؤولية الشركات والكيانات الخاصة التي تتعامل مع الاحتلال في الجرائم المرتكبة في فلسطين، فالمسؤولية هنا لا تقع على كاهل الحكومات الغربية فحسب.
ويؤمن أعضاء تلك الحركة أن تعطيل مصنع واحد لشركة سلاح إسرائيلية أكثر تأثيرًا من عقد مؤتمر صحفي أو إطلاق بيان تضامن، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن العنف البنيوي الذي يمارسه الاحتلال من الممكن أن يكون جسرًا لتبرير منطقي وأخلاقي للجوء إلى أساليب “تصعيدية” ضد مؤسساته وشركاته.
ومن هنا كان استبدال الدبلوماسية التقليدية، التي تعتمد على مخاطبة الحكومات وإصدار البيانات والضغط عبر الرأي العام وتنظيم الندوات، بالمواجهة الميدانية والضغط المباشر على الشركات الداعمة والمتواطئة مع الاحتلال لوقف نشاطها ولو عبر الإضرار المادي بمصالحها. وهو ما جعل الحركة في نظر البعض “متطرفة”، مما دفع الحكومة البريطانية لتصنيفها كـ “منظمة إرهابية” في يوليو/تموز 2025.
ومن أبرز النجاحات التي حققتها الحركة دفع شركة “إلبيت سيستمز” الإسرائيلية إلى إغلاق بعض مراكزها في بريطانيا، وإجبار العديد من الشركات الأخرى على إعادة النظر في نشاطها وتقييم تعاملاتها مع تل أبيب، وهو ما يُعدّ مكسبًا رمزيًا قويًا لحركات التضامن.
5 سنوات من المقاومة المدنية
منذ انطلاقتها في أواخر يوليو/تموز 2020، عندما اقتحم عدد من نشطاءها مقر شركة إلبيت سيستمز الإسرائيلية في لندن، رسخت منظمة فلسطين أكشن نفسها كحركة تعتمد على العمل المباشر في مواجهة الشركات المتواطئة مع الاحتلال. وعلى مدار أكثر من خمس سنوات، شكّلت سلسلة متواصلة من الحملات والعمليات التي اتسمت بالجرأة والتنوع في الوسائل والتكتيكات.
مايو/أيار 2021: خلال تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة، تسلق أربعة نشطاء بملابس حمراء سطح مصنع للطائرات المسيّرة تابع لإلبيت في مجمع ميريديان بمدينة ليستر. استمر الاعتصام ستة أيام، وأسفر عن اعتقال عشرة متظاهرين، لكن المحكمة برّأتهم لاحقًا بعد قبول دفوع تتعلق بالضرورة وحماية الممتلكات وفق القانون البريطاني.
يونيو/حزيران 2021: اقتحم ثلاثة نشطاء مصنعًا لإنتاج الطائرات المسيّرة في رونكورن، حيث علّقوا لافتات وغطوا الواجهة بالطلاء الأحمر، ثم فككوا بعض الآلات والمعدات. أوقفتهم الشرطة في اليوم التالي بتهم تتعلق بالأضرار الجنائية.
أبريل/نيسان 2022: قيّد اثنان من أعضاء الحركة أنفسهما عند بوابات مصنع آخر لإلبيت في براونستون، بينما تجمّع متظاهرون رافعين لافتات “حرروا فلسطين”، أسفر التحرك عن اعتقال ثلاثة نشطاء، مع تأكيد الحركة أن العمل المباشر سيستمر حتى إغلاق جميع مواقع إلبيت في بريطانيا.
نوفمبر/تشرين الثاني 2023: كتب نشطاء عبارات “حرروا غزة” و”حرروا فلسطين” على مبنى شركة ليوناردو للأسلحة في بيكاديللي بلندن، متهمينها بتزويد إسرائيل بمقاتلات حربية، اعتُقل رجلان وواجهوا اتهامات بإلحاق “ضرر بدافع عنصري”، عومل كجريمة كراهية.
يناير/كانون الثاني 2024: أعلنت الشرطة عن اعتقال ستة أشخاص بزعم التخطيط لاستهداف بورصة لندن عبر تخريب المبنى ووقف التداولات، وهو ما اعتبرته السلطات مؤامرة تخريبية كبرى.
مايو/أيار 2024: صدر حكم مع وقف التنفيذ بحق سبعة نشطاء اقتحموا في 2022 مقر إلبيت في بريستول ودمروا معدات، ألزمهم القضاء بدفع أكثر من 5,000 جنيه إسترليني كتعويضات، بعدما كتبوا شعارات على الجدران مثل “حرروا فلسطين” و”أغلقوا إلبيت”.
أغسطس/آب 2024: أُدين خمسة نشطاء لمشاركتهم في احتجاج عام 2022 ضد شركة ثاليس في غلاسكو، حيث حكم على أربعة منهم بالسجن 12 شهرًا وعلى الخامس بالسجن 14 شهرًا.
سبتمبر/أيلول 2024: استهدف النشطاء المقر الرئيسي لشركة أبكو العالمية في لندن، المعروفة بتمثيلها لمصالح إلبيت في بريطانيا، حيث صبغوا الواجهة بالطلاء الأحمر وسدّوا الأبواب بالسلاسل والأقفال.
أكتوبر/تشرين الأول 2024: اقتحموا مصنعًا في برومبورو تابعًا لشركة تيليدين المنتجة لمكونات طائرات إف-35. تسببوا في أضرار بالغة بعد رش الطلاء الأحمر داخل غرف الإنتاج الحساسة، وسط تقديرات بأن العملية عطلت العمل لمدة قد تصل إلى عام كامل.
نوفمبر/تشرين الثاني 2024: هاجم النشطاء مبنى الكيمياء بجامعة مانشستر، حيث حطموا خزانة زجاجية وسرقوا تمثالين نصفيين لـ حاييم وايزمان، أول رئيس لإسرائيل. وصفوا العملية بأنها “اختطاف رمزي” في ذكرى وعد بلفور، وتم توقيف شخص واحد على خلفيتها.
مارس/آذار 2025: استُهدف مبنى “المدارس القديمة” في جامعة كامبريدج بطلاء أحمر، في إطار حملة ضغط على الجامعة لسحب استثماراتها من الشركات الموردة للأسلحة لإسرائيل.
يونيو/حزيران 2025: نفذ نشطاء اقتحامًا مثيرًا في قاعدة بريز نورتون الجوية الملكية، أكبر منشأة لسلاح الجو البريطاني، إذ أقدموا على تشويه طائرات عسكرية بالطلاء الأحمر، مما سبب أضرارًا قُدرت بـ7 ملايين جنيه إسترليني، الحادثة أثارت جدلًا واسعًا حول اختراق أمن موقع عسكري شديد الحساسية، وأدت إلى توجيه اتهامات لعدد من النشطاء.
يوليو/تموز 2025: في خطوة مثيرة للجدل، أعلنت الحكومة البريطانية رسميًا تصنيف “فلسطين أكشن” كـ جماعة إرهابية، في سابقة خطيرة بملف الحركات الاحتجاجية، انتقد نشطاء حقوقيون القرار واعتبروه تضييقًا سياسيًا أكثر منه ضرورة أمنية، لكون أنشطة الحركة ركزت على البنية التحتية للشركات ولم تستهدف حياة الأفراد.
سبتمبر/أيلول 2025: رغم الحظر، نظّمت الحركة واحدة من أكبر مظاهرات العصيان المدني في تاريخ بريطانيا، حيث احتشد مئات المتظاهرين أمام البرلمان رافعين لافتات “أنا أعارض الإبادة الجماعية، أنا أدعم فلسطين أكشن”، فيما أعلنت شرطة لندن اعتقال نحو 900 مشارك في ذلك اليوم وحده.
بهذا السجل الحافل، جسّدت “فلسطين أكشن” تحولًا نوعيًا في أشكال التضامن مع فلسطين داخل أوروبا، عبر مواجهة مباشرة مع البنية التحتية العسكرية والاقتصادية، وهو ما جعلها في قلب جدل واسع بين من يراها مقاومة شرعية ومن يعتبرها تخريبًا يهدد الأمن القومي.
القضية الفلسطينية في صدارة الاهتمام
أعادت “فلسطين أكشن” بتكتيات المقاومة المدنية رسم مسار التضامن مع فلسطين داخل بريطانيا وأوروبا، إذ نقلت القضية من خانة التعاطف والتبرعات إلى ميدان الفعل المباشر وتعطيل آلة الحرب، وبهذا التحول، انتقلت السردية من بعدها السياسي والدبلوماسي التقليدي إلى بعد اقتصادي ملموس، حيث أصبح الحديث عن دور الشركات الأوروبية في تمويل الاحتلال أو دعمه جزءًا من الخطاب العام.
وساهمت بشكل كبير في تعزيز مشروعية المقاومة لدى الشارع الأوروبي، من خلال المقارنة بين تحركاتها الميدانية وجرائم الاحتلال اليومية في فلسطين، حيث نجحت في كسب تعاطف قطاعات واسعة من الشباب، خاصة داخل الأوساط اليسارية الأوروبية، التي وجدت في هذا النهج امتدادًا طبيعيًا لفكرها المناهض للاستعمار.
كما استطاعت تحقيق التكامل مع نظيراتها في النضال مثل حركة المقاطعة (BDS)ففي الوقت الذي ركزت فيه الأخيرة على الضغط الاقتصادي عبر المقاطعة وسحب الاستثمارات، أضافت “فلسطين أكشن” بعدًا عمليًا وميدانيًا، جعل من العمل المباشر قوة مكمّلة تعزز أثر المقاطعة وتضاعف الضغط على المؤسسات المتعاونة مع الاحتلال.
وكان لنشاط الحركة المكثف تأثيره داخل أوروبا، حيث أربكت الحكومة البريطانية ووضعتها في مأزق حرج أخلاقيًا وسياسيًا بسبب علاقاتها الوثيقة بشركات السلاح المرتبطة بإسرائيل، ما كان له دوره في نقل تلك العدوى لبقية البلدان، ففي فرنسا وأيرلندا ظهرت مجموعات محلية تستلهم أسلوب “الاقتحام المباشر”، مستهدفة شركات متعاونة مع الاحتلال.
أما على مستوى البرلمان الأوروبي، ورغم الانتقادات، إلا أن الجدل الذي أثارته الحركة دفع بعض النواب لطرح أسئلة حول تراخيص شركات الأسلحة ودورها في تغذية الصراع، وهو ما أجبر حكومات دول كبرى على إعادة النظر في علاقاتها ودعمها التسليحي لدولة الاحتلال كفرنسا وغيرها.
وفي سياق مواز حملت الحركة بعدًا رمزيًا وثقافيًا للقضية الفلسطينية، حيث شكلت مشاهد النشطاء وهم يتسلقون المباني أو يغطون الواجهات بالطلاء الأحمر، رمز الدماء، لحظات مؤثرة لاقت انتشارًا واسعًا على وسائل التواصل الاجتماعي، علاوة على ما أحدثته من إعادة صياغة للسردية برمتها، لتتحول القضية من مجرد مأساة إنسانية إلى قصة مقاومة عملية تواجه آلة الحرب بشكل مباشر.
كل ذلك كان له صداه في جذب قطاع كبير من الشباب الأوروبي وتغيير المزاج العام الغربي تجاه حقوق الشعب الفلسطيني، فيما جعلت الحركة، بأسلوبها المقاوم الجريء، وتكتيكات النضال السخية والمتنوعة، وأهدافها الأخلاقية المشروعة، التضامن مع فلسطين أكثر جاذبية للجيل الجديد، مانحة إيّاه أفقًا أكثر ثورية وفاعلية.
تحديات التلجيم والاستقطاب
لاشك وأن النقلة النوعية في استراتيجيات المقاومة لدى “فلسطين أكشن” لن تمر مرور الكرام لدى السلطات البريطانية واللوبي الصهيوني، فمثل هذا الحراك وما حققه من نجاحات في غضون السنوات الخمسة الأخيرة كفيل أن يقابل بحملات تضييق خناق وملاحقات متنوعة تستهدف الحركة من جذورها ووأد نشاطها وتحييد قادتها بعيدًا عن الساحة.
وتواجه الحركة حزم مطولة من التحديات منها القانونية والقضائية حيث الملاحقات المستمرة التي يتعرض لها النشطاء من اعتقال بشكل متكرر بتهم مثل التعدي الجنائي أو التخريب، وصولًا إلى تهم تتعلق بالإرهاب خاصة بعد تصنيف الحركة كـ”منظمة إرهابية” في بريطانيا يوليو/تموز الماضي، هذا بجانب العقوبات المالية، فغالبًا ما تفرض المحاكم غرامات وتعويضات باهظة، وهو ما يثقل كاهل الحركة ماليًا، وتقييد حرياتها ووضع كل نشاطها تحت طائلة القانون.
وهناك أيضًا تحديات أمنية حيث تفرض السلطات البريطانية رقابة مشددة على تحركات قيادات وأعضاء الحركة، بما في ذلك التنصت وتتبع الأنشطة، وأخرى إعلامية سياسية حيث تُصوَّر الحركة في الإعلام السائد كجماعة متطرفة أو “إرهابية”، ما يضعف قدرتها على كسب تأييد جماهيري واسع خارج الدوائر اليسارية والشبابية.
سعيًا لإسكات الأصوات الرافضة للإبادة، الحكومة البريطانية تحظر منظمة “فلسطين أكشن” وتصفها بالإرهابية بسبب مواقفها الداعمة لـ #غزة#FreePalestine pic.twitter.com/c0aK3kuuJI
— نون بوست (@NoonPost) July 3, 2025
هذا بخلاف احتمالات تعرضها للضغوط السياسية من الحكومات الأوروبية رضوخا للضغوط التي تتعرض لها تلك الحكومات من جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، مما يعزز شيطنة الحركة ومحاولات تجريمها، ويضعها في مرمى الاستهداف السلطوي لدى أنظمة الحكم في دول أوروبا.
ويعد التمويل أحد أبرز التحديات التي تواجه الحركة إذ أن أغلب عملياتها تعتمد على جهود تطوعية وإمكانات بسيطة، ما يجعل استدامة نشاطها مرهونة بقدرة أعضائها على تحمّل الكلفة، وفي ظل أحكام الغرامات والتعويضات الكبيرة الصادرة بحق النشطاء فإن استمرارية التمويل الذاتي مسألة غير مضمونة أو على الأقل لن تكون بنفس الزخم.
ورغم ما تواجهه “فلسطين أكشن” اليوم من مخططات الشيطنة والتجريم السياسي والقانوني في بريطانيا، بما يهدد وجودها نفسه، إلا أن رمزية أفعالها والجدل الذي تثيره يمنحها زخمًا جماهيريًا وإعلاميًا لا تحققه أشكال التضامن التقليدية، ما يجعلها مستمرة في التأثير رغم كل تلك التحديات.
في الأخير..
وعلى مدار خمس سنوات، استطاعت “فلسطين أكشن” أن تُحدث نقلة نوعية في أشكال التضامن مع القضية الفلسطينية داخل أوروبا، عبر تبنيها لنهج المواجهة المباشرة ضد الشركات الداعمة للاحتلال، وكشفها لدور البنية الاقتصادية والعسكرية الغربية في إدامة نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. لقد منحت الحركة القضية الفلسطينية بُعدًا جديدًا، تجاوز الشعارات والبيانات إلى فعل ملموس قادر على تعطيل آلة الحرب نفسها، وهو ما انعكس على الخطاب السياسي والإعلامي في القارة الأوروبية، وأعاد وضع فلسطين في صدارة الاهتمام الشعبي والنقاش العام.
ورغم الضغوط الهائلة التي تتعرض لها الحركة، من الملاحقات القضائية والأمنية إلى حملات التشويه الإعلامي وصولًا إلى تصنيفها كـ”منظمة إرهابية”، فإن تجربتها تكشف عن تحول عميق في طبيعة الحركات التضامنية مع فلسطين، من الدبلوماسية الهادئة إلى المقاومة المدنية المباشرة، وبينما قد تحد التحديات من قدرتها على الاستمرار بالزخم نفسه، فإن الإرث الذي تتركه الحركة سيظل مصدر إلهام للأجيال القادمة، ودليلًا على أن التضامن الفعّال لا يكتفي بالكلمات بل يتجسد في الأفعال.