تتزايد الأوضاع سوءًا في الجزيرة السورية بسبب حملات الاعتقال الهستيرية التي تنفذها ميليشيا قوات سوريا الديمقراطية “قسد” والمتواصلة بحق السكان هناك، حيث شهدت الأيام القليلة الماضية حملات اعتقال كبيرة شنتها هذه الميليشيا وطالت عشرات المدنيين من أبناء الحسكة والرقة ودير الزور، ومازالت مستمرة، والذريعة، كما العادة، الانتماء إلى تنظيم الدولة “داعش”.
هذه الاعتقالات تبعها تصعيد آخر وكبير من نوعه، وهو إعلان ما يُسمى بـ”الإدارة الذاتية” التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي “PYD” عن إيقاف التعليم بمناهج الحكومة السورية ومنعه في جميع المدارس، بما فيها المسيحية.
إنها تداعيات كانت متوقعة من جانب “قسد” بعد تعثر المفاوضات بينها وبين الحكومة السورية، حيث جاء هذا التصعيد مباشرة بعد رفض الحكومة حضور مؤتمر باريس، الذي كان من المزمع عقده في أغسطس المنصرم، وهو مؤتمر كان برعاية فرنسية، وعلى ما يبدو، فإن ميليشيا “قسد” كانت تعوّل عليه كثيرًا، إلا أنه من الواضح أن دخول تركيا على الخط كان له تأثير في دفع الحكومة السورية لعدم الحضور.
“قسد” تواصل الضغط على السكان
منذ أواخر شهر أغسطس الماضي، تشهد محافظات الرقة والحسكة ودير الزور في منطقة الجزيرة الخاضعة لسيطرة ميليشيا “قسد” حملة اعتقالات واسعة، طالت عشرات المدنيين، بينهم نساء وأطفال وكبار في السن، بذريعة الإرهاب والتعامل مع جهات خارجية أو مع الحكومة السورية. وتتزامن هذه الحملات مع عمليات تفتيش تنفذها الميليشيا داخل مخيم “الهول” شرقي الحسكة، في مشهد يتكرر إعلاميًا تحت عنوان “مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية – داعش”، لكنه يسير جنبًا إلى جنب مع الاعتقالات ويمنحها غطاءً تبريريًا.
إن عمليات الاعتقال هذه ليست بجديدة بل هي استكمال لما سبقها من اعتقالات متواصلة منذ ديسمبر 2024 في الجزيرة، وفي آخر تقاريرها قالت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن 59 حالة احتجاز تعسفي حصلت على يد ميليشيا “قسد” بينهم 8 أطفال و5 سيدات خلال الشهر الماضي لهذا العام في آب/أغسطس.
قسد تسلم الحكومة السورية طلابًا من السويداء كانوا معتقلين لديها، لإعادتهم لعائلاتهم في جرمانا pic.twitter.com/MO1VwlNAY9
— نون بوست (@NoonPost) September 10, 2025
في ذات السياق لم يقتصر التصعيد الذي قامت به ميليشيا “قسد” عند هذا فحسب بل تخطاه لأبعد من ذلك وبشكلٍ خطير، حيث أعلنت ما يسمى بـهيئة التعليم التابعة لـ”الإدارة الذاتية” التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي “PYD“ أنها مَنعت و أوقفت العمل بمنهاج الحكومة السورية في الكليات والمعاهد والمدارس الموجودة في مناطق الجزيرة بالكامل.
قرار جاء ليقضي على التعليم بما تبقى من مدارس في محافظة الحسكة وتسبب بتداعيات كبيرة بين أوساط السكان، حيث شمل المدارس السريانية والأشورية كذلك، وبحسب مصادر خاصة لــ “نون بوست” فقد أقدمت عشرات العوائل من بينهم مسيحيون وأكراد على ترك الحسكة والتوجه نحو مناطق سيطرة الحكومة السورية من أجل متابعة أبنائهم تعليمهم هناك بسبب فرض سلطة الأمر الواقع “قسد” مناهجها الدراسية على سكان الجزيرة، وهي مناهج غير مُعترف بها أصلاً ومؤدلجة ضمن فَلك وإيدلوجية حزب العمال الكردستاني.
وكان ناشطون وحقوقيون من أبناء “الجزيرة السورية” قد أصدروا بياناً للرأي العام نددوا فيه بقرار ميليشيا “قسد” هذا، وأبدوا رفضهم بشكلٍ قاطع احتكار التعليم أو تحويله إلى أداة للهيمنة والصراع السياسي وأكدوا أن التعليم حق أساسي مكفول، ويجب أن يبقى بعيدًا عن كل أشكال التسييس والأدلجة. ووضحوا أن فرض مناهج مؤدلجة لا يعكس تنوع المجتمع ولا يُلبي تطلعات أبناء المنطقة بل يهدد نسيجها ومستقبلها.
تلاها قيام ميليشيا “قسد” أيضاً تغيير اسم مبنى “المركز الثقافي العربي” في مدينة القامشلي بمحافظة الحسكة لـمركز “شلير” للأدب الكردي، وكذلك مصادرة مباني مديرية التربية وكليات الإقتصاد، وكذلك عمدت مايسمى بهيئة التعليم التابعة للميليشيا على فصل عشرات المُعلمين العرب الموظفين لديها بسبب اعتراضهم على تدريس مناهج ” قسد”.
استعدادات متواصلة للحرب
تواصل ميليشيا “قسد” تعزيز حشودها العسكرية على مختلف الجبهات، من ضفاف نهر الفرات في دير الزور مرورًا بالرقة وتل أبيض وطريق “M4″، وصولًا إلى منطقة دير حافر شرقي حلب. وتشمل هذه التحركات حفر أنفاق جديدة، وإقامة سواتر دفاعية، إضافة إلى تلغيم مساحات واسعة، كان آخرها في المنطقة الممتدة من جنوب سد الفرات حتى أوتستراد المنصورة غرب الرقة، وفق ما أفادت به وكالة “نهر ميديا” المحلية.
وبحسب مصادر محلية، فقد عمدت ميليشيا “قسد” مؤخراً على توطين العشرات من الضباط السابقين في جيش نظام الأسد في المدينة السكنية بـ رميلان بمحافظة الحسكة، ويجدر الإشارة هنا أن “قسد” كانت في فترات سابقة قد ضمت أكثر من 3000 عنصراً فلول النظام ضمن قواتها ونشرتهم في محافظات الرقة والحسكة.
على صعيد آخر، قامت استخبارات “قسد” باعتقال (40) عنصراً من قواتها في الرقة بتهمة التواصل مع جهات خارجية، سبقها اعتقال عدد من قيادات مجلس دير الزور العسكري (DMC) العرب، بحسب ما أفادت به شبكة “نهر ميديا”.
تشي هذه التحركات بأن “قسد” تستعد لخوض حرب واسعة وتعمل على حشد قواتها، في وقت لا تظهر فيه أي مؤشرات على وجود اتفاق مع الحكومة السورية. وقد سبقت هذه التطورات إجراءات مشددة اتخذتها الميليشيا، من بينها قطع الاتصالات الخلوية عن السكان بعد إيقاف شركتي “سيريتل” و”إم تي إن” الحكوميتين. ويعيش أهالي منطقة الجزيرة أوضاعًا وُصفت بالكارثية تحت سلطة “قسد”، تتفاقم فيها أزمات المياه والجفاف والتلوث، إلى جانب توقف التعليم ومختلف الخدمات الأساسية.
View this post on Instagram
اتفاق ميت سريرياً ووجهات نظر متباعدة
الموقف التركي
تراقب تركيا مسار تفكيك حزب العمال الكردستاني “PKK” على جبهتين متوازيتين: الأولى داخل حدودها، والثانية في شمال سوريا وجبال قنديل. ويبدو أن أنقرة تُظهر قدراً كبيراً من الصبر في انتظار التخلّص من معضلة الحزب عبر تسوية سياسية مع مؤسسه عبد الله أوجلان، المعتقل في جزيرة إيمرلي منذ عام 1999. ورغم كثرة التساؤلات حول جدّية هذه التسوية وآليات تطبيقها، فإن المؤشرات تعكس إصراراً تركياً واضحاً على المضي قدماً في هذا المسار.
سوريا ليست بمنأى عن هذه العملية، فما زالت السياسة التركية حيال ميليشيا “قسد” تتسم بالمراقبة والحذر والتهديد المبطّن دون أي أفعال جادة حاليًا، بانتظار تقدم مفاوضات اندماج “قسد” مع الحكومة السورية.
تجلت هذه السياسة في تصريحات وزارة الدفاع التركية الأخيرة، والتي تلاها تصريح بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية المشارك في الائتلاف الحاكم، الذي قال: “يجب أن يعلم الجميع أن قوات سوريا الديمقراطية يجب أن تلتزم التزامًا صارمًا بمذكرة التفاهم الموقعة مع الحكومة السورية في 10 آذار 2025، وأن تفي بمتطلباتها بدقة. وإلا، فسيكون التدخل العسكري بإرادة مشتركة من أنقرة ودمشق أمرًا محسوما”.
تلاه تصريح من وزارة الدفاع التركية خلال المؤتمر الصحفي الأسبوعي، حيث قال المتحدث الرسمي باسم الوزارة، اللواء البحري زكي أكتورك: “على منظمة قسد الإرهابية الالتزام بعملية الاندماج مع الجيش السوري والتخلي عن أي أفعال قد تمس بوحدة البلاد. تركيا تراقب وتواصل متابعة هذه عملية الدمج، وستقدم كل أنواع الدعم لدمشق عند الضرورة، سواء من أجل أمنها أو للمساهمة في استقرار سوريا”.
بالمجمل، فإن أنقرة مستعدة لجميع السيناريوهات حيال ملف “قسد”، وهي تربطه أيضًا بملف التسوية مع “PKK”. ولكن في المنظور القريب، لن تفتح تركيا حربًا شاملة، بل ستُبقي على سياسة الضغط “المحدود”، وقد نرى ضربات عسكرية محدودة في حال تعنتت “قسد” حيال الدمج. وبالتأكيد، تنسق أنقرة مع الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الملف، ومع موسكو أيضًا، التي أعادت مؤخرًا انتشار قواتها في الحسكة ضمن قاعدتها القديمة في مطار القامشلي.
من جانب آخر، تريد تركيا اليوم جعل ملف الأكراد بشكل عام ملفًا تركيًا، بما في ذلك ملف “قسد”. لذلك، كانت هي من ضغطت على الحكومة السورية لرفض الذهاب إلى باريس من باب عدم إخراج هذا الملف من ملعب أنقرة وعدم السماح لأي جهة أخرى بالتدخل فيه.
موقف “قسد”
على الجانب الآخر، يمكن اختصار سياسة ميليشيا “قسد” تجاه الحكومة السورية وتعاطيها مع اتفاق 10 آذار، بأنها سياسة تعتمد على “المماطلة والتسويف” والإغراق بالتفاصيل، مع الرهان على إسقاط حكومة الشرع.
ولا يبدو أن “قسد” ستتخلى بسهولة عن مكاسبها على الأرض التي حققتها منذ 10 سنوات، حيث تُصر على مطلب “اللامركزية” والحكم الذاتي مع الحفاظ على كيان خاص بقواتها العسكرية، وهي تواصل الضغط على الحكومة السورية وحاضنتها بأساليب شتى، حيث ما زالت تضغط على العرب في مناطق الجزيرة من خلال الاعتقالات التعسفية.
كما تزيد من استعداداتها للحرب عبر حفر الأنفاق، وزيادة أعداد قواتها، حيث تسير “قسد” اليوم في اتجاهين: الأول هو المماطلة بلا حدود، والثاني هو الحشد العسكري في محاولات لجرِّ الحكومة السورية إلى صدام مسلح، تستفيد منه هي عبر خلق مظلومية جديدة تكفل الاستفادة من دعم دولي لها، وتأليب ضد الحكومة السورية، مما يتيح فعليًا تحقيق ولو جزء كبير من تطلعاتها.
موقف الحكومة السورية
فيما يخص موقف الحكومة السورية، فهو ما زال ثابتًا ورافضًا أي شكل من أشكال الفيدرالية بأي مسمى كان، وتعتبر دمشق أن وحدة البلاد خط أحمر. على النقيض تمامًا، يتبلور موقف ميليشيا “قسد” الساعي للحصول على فيدرالية تحت مسمى “اللامركزية”. ومنذ شهر نيسان المنصرم، لم يتحرك اتفاق 10 آذار بين الطرفين بأي خطوة للأمام، بل كانت المفاوضات عبارة عن سجال عقيم، ترد عليه “قسد” باستفزازات متنوعة، تارةً ضد السكان العرب، وتارةً عبر مناوشات عسكرية على طول نهر الفرات وفي شرقي حلب.
يحاول الرئيس السوري أحمد الشرع حسم ملف الجزيرة مع “قسد” بشكل سلمي كأولوية، وفي ذات الوقت يقوم بمساعدة تركيا لبناء منظومة عسكرية محترفة، فكل الخيارات مطروحة حيال ملف «قسد»، مهما طال الوقت. وعلى الرغم من الجمود في المفاوضات، إلا أن هناك تعاملات بين الطرفين لم تنقطع، على غرار توريد النفط وحركة الترانزيت. ومن المنتظر أن نشهد تحركًا في ملف المفاوضات بين ميليشيا “قسد” والحكومة السورية قبيل نهاية الشهر الحالي، وإلا فقد تظهر سيناريوهات مفاجئة قد تطرأ على الساحة السورية.
الخلاصة
يمكن إرجاع الصبر التركي الحالي على ملف “قسد” إلى جزئين: الأول هو التفاهم مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تسعى الأخيرة لضمان الأمن لملف السجون والمخيمات التي تؤوي عناصر وعوائل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ثم عدم التصعيد في سوريا. لذلك، لا يمكن لتركيا مثلاً أن تخطو بعملية برية عسكرية شاملة دون ضوء أخضر أمريكي، على غرار عمليتي “غصن الزيتون” و”نبع السلام”.
والتفاهم الثاني هو أن تركيا لا ترغب في التضحية بعملية السلام مع حزب العمال الكردستاني “PKK” الساعية لتفكيكه. فَشن عمل عسكري شامل حاليًا ضد “قسد” يعني نهاية لهذه العملية، وهي لا تزال تراقب جدوى هذه العملية السلمية. ومؤخرًا قال عبد الله أوجلان، متزعم حزب العمال “PKK”: “سوريا وشمالها الشرقي خط أحمر بالنسبة لي”، مما يعكس حساسية وتشابك هذا الملف وتحوله إلى ورقة عابرة للحدود. كل هذا في كفة، ووضع المدنيين في مناطق الجزيرة التي تسيطر عليها ميليشيا قسد في كفة أخرى، بحيث ما زالت الأوضاع تسوء أكثر فأكثر بسبب ممارسات “قسد”، وبات إيجاد مخرج لهذه المعضلة ضرورة ملحة فعليًا.