أصبح سكان مثلث حلايب وشلاتين وأبورماد، المتنازع عليه بين السودان ومصر منذ عام 1958، أكثر تمسّكًا بهويتهم من أي وقت مضى، فعلى الرغم من تقلّب السنين بما تحمله من صراعات سياسية يثقل عبؤها على كاهلهم، تبقى حقيقة أنّهم أصحاب الأرض وأسيادها راسخة كالجبال.
يمتد المثلث على مساحة تبلغ عشرين ألف كيلومتر مربع، ويقطنه أبناء قبائل البجا، وأغلبهم من البشاريين والعبابدة، الذين يتحدثون اللغة البجاوية. كانت الحياة هناك شبه معدومة؛ مدرسة يتيمة بالكاد تستوعب التلاميذ، ومياه شحيحة تُستخرج بوسائل تقليدية، لكن المشهد تبدّل اليوم مع إدخال الحكومة المصرية خدمات وبُنى تحتية حسّنت ظروف العيش.
ومع ذلك، ظلّ أهل حلايب بعيدين عن صخب القضايا السياسية الكبرى في مصر، منشغلين بتجارتهم وأرزاقهم اليومية، متمسّكين بهويتهم وخصوصيتهم الثقافية التي لم تنل منها التحولات المحيطة.
مراحل الصراع
بدأت جذور الخلاف حول المثلث حين اعترضت القاهرة على إدراج السودان المنطقة ضمن إحدى دوائره الجغرافية في الانتخابات العامة آنذاك. وفي فبراير من العام نفسه، قدّم السودان شكوى إلى مجلس الأمن الدولي احتجاجًا على دخول قوات مصرية إلى المثلث، وسرعان ما تصاعد التوتر بعدما أعادت مصر نشر قواتها وتوغلت نحو 28 كيلومترًا داخل العمق السوداني، لتبدأ عمليًا في فرض سيطرتها على حلايب وسط ظروف سياسية شديدة التعقيد.
وفي عام 1995، عقب محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا – والتي اتهمت الخرطوم بالتورط فيها – دفعت القاهرة بقواتها إلى المنطقة بعد اشتباكات محدودة مع الجيش السوداني أسفرت عن مقتل شرطيين. ومنذ ذلك الحين، رسّخت مصر وجودها العسكري والإداري في المثلث.
ويرى مراقبون أن هذه الخطوة جاءت كعقوبة مباشرة للنظام السوداني، إلا أن الثمن الحقيقي دفعه الشعب الذي خسر جزءًا عزيزًا من أرضه، أما أبناء حلايب أنفسهم فظلوا عالقين بين تنازع الدولتين.
ويؤكد النائب البرلماني السابق عن حلايب، محمود مرساب البشاري، في حديثه لـ”نون بوست”، وهو من أبناء المنطقة ويقيم في بلدة أوسيف الواقعة على بُعد نحو 30 كيلومترًا من المثلث، أن أي توتر سياسي بين القاهرة والخرطوم ينعكس مباشرة على حركة المواطنين وتواصلهم، فقد شهدت السنوات الأخيرة تصاعد الخلافات الثنائية، ما زاد من معاناة السكان نتيجة تشديد السلطات المصرية قبضتها الأمنية عبر تجنيد بعض الشباب للتجسس، والتشويش على الاتصالات الواردة من أقاربهم في الخارج.
فضلًا عن ذلك، فإن محمد سدو، المعروف بلقب “شيخ مشايخ حلايب وشلاتين وأبورماد”، والذي كان أحد قيادات الحزب السوداني الاتحادي الديمقراطي وشغل منصب نائب برلماني قبل انقلاب البشير، اضطر تحت ضغوط ومضايقات الأجهزة الأمنية آنذاك إلى الارتماء في أحضان الحكومة المصرية.
كما لعبت الضغوط الشعبية على نظام الرئيس المخلوع عمر البشير في سنواته الأخيرة دورًا كبيرًا في دفع الخرطوم إلى تجديد شكواها السنوية ضد مصر في مجلس الأمن الدولي، وكان آخرها عام 2018. وفي العام التالي، قبيل سقوط النظام، استدعت وزارة الخارجية السودانية السفير المصري في الخرطوم، حسام عيسى، احتجاجًا على طرح القاهرة عطاءات دولية للتنقيب عن النفط والغاز في حلايب.
ثم عادت القضية إلى الواجهة في عام 2020، بعد ثورة ديسمبر وصعود قوى المعارضة إلى الحكم، عندما أدلى رئيس مفوضية الحدود السودانية، معاذ تنقو، بتصريحات لصحيفة “الصيحة”، أكد فيها أن الوجود المصري في حلايب قائم على القهر والقوة، لا على أسس منطقية أو تفاوض سليم، مضيفًا أن المصريين أنفسهم يدركون تمامًا أنهم لا يملكون حقًا تاريخيًا في المنطقة.
وقد شكلت هذه التصريحات خرقًا لحالة الصمت التي أحاطت بالقضية خلال الفترة الانتقالية، والتي انشغلت فيها الحكومة الجديدة بتحديات جسيمة أعاقتها عن استكمال هياكلها الدستورية. وبسبب فشلها في تشكيل البرلمان الانتقالي، تراجعت القضية عن جدول الأولويات، بعد أن كان نواب البرلمان في عهد البشير يثيرونها باستمرار، وعلى رأسهم نائب دائرة حلايب، أحمد عيسى، الذي ظل متمسكًا بسودانية المثلث.
وعلى الرغم من قناعة قيادات بارزة في تحالف قوى الحرية والتغيير، الذي تولى الحكم بعد الثورة، بسودانية حلايب، فإنهم كانوا يتجنبون الدعوة إلى أي مواجهة عسكرية مع مصر، خشية أن ينعكس ذلك سلبًا على العلاقات التاريخية بين البلدين.
أصوات محلية: شهادات من أبناء المثلث بين التهميش والإغراءات
ينتقد المواطن أحمد البشاري، أحد أبناء المثلث والمقيم حاليًا في أوسيف، ما وصفه بتهميش الحكومة السودانية للمناطق الحدودية، في وقت تحظى فيه حلايب بتمثيل برلماني داخل مجلس الشعب المصري. ويرى أن بعض سكان المثلث قد يختارون مصر في حال جرى استفتاء مستقبلي، نظرًا لما توفره من خدمات وفرص، إضافة إلى تسهيل حصولهم على الأوراق الثبوتية المصرية.
ورغم التعقيدات السياسية التي تطغى على واقع المثلث، فقد اعتاد سكانه التعايش مع أوضاعهم، مستمرين في أنشطتهم التجارية والرعوية بحثًا عن الرزق ضمن فضاء ضيق لا يتيح لهم حرية التعبير. ومع ذلك، توفر السلطات المصرية معظم احتياجاتهم الأساسية من غذاء ومياه وكهرباء واتصالات، بل وتمنحهم مساكن مجانية، بينما تُباع السلع بالأسعار نفسها المعمول بها في القاهرة.
لكن، وبرغم هذه الإغراءات اليومية، ظل سكان المثلث متمسكين بانتمائهم إلى السودان وعاداتهم المتوارثة، متمثلين في صلابة البجاوي الذي لا يترك أرضه مهما اشتد عليه الجفاف أو عصفت به الحروب.
هذه الصورة ليست مجرد انطباع عابر، بل شهادة يرويها النائب البرلماني عن حلايب، محمود مرساب، من موقعه القريب جغرافيًا والملتصق وجدانيًا بالمنطقة. يصف مرساب تفاصيل الحياة اليومية بين واقع السيطرة المصرية ومحاولات السكان الحفاظ على هويتهم السودانية.
يقول محمود إن أهله في حلايب تعايشوا مع أوضاعهم على نحو يشبه تجربة “فلسطينيي الخط الأخضر”، حيث يواصلون تجارتهم ورعيهم كمصادر رزق، لكنهم محرومون من الحريات السياسية. في المقابل، يحصلون على الغذاء والمعونات والخدمات بشكل دائم، وهو مستوى من المعيشة قد لا يتوفر حتى للمواطن المصري في بلاده. ومع ذلك، يؤكد أن الهوية السودانية لم تندثر، فالعادات والتقاليد لا تزال حاضرة حتى بين الأجيال التي نشأت تحت الإدارة المصرية.
ويقر محمود بوجود مخاوف من أن أبناء التسعينيات وما بعدها باتوا “مصريي المزاج” بفعل نشأتهم وسط الخدمات المصرية، لكنه يستدرك قائلاً: “قد يكون هناك تأثير، لكن قبائل شرق السودان لا تفرط في أرضها”. ويشدد على أن قبيلة البشاريين الممتدة في السودان حافظت على ارتباطها بأرضها رغم الاحتلال في حلايب، ورغم الجفاف وغياب التنمية في مناطقها الأخرى داخل السودان.
من جانب آخر، يرى سكان أوسيف، التي نزح إليها عدد كبير من أبناء حلايب بعد السيطرة المصرية، أن مدينتهم قد تمثل مفتاحًا لحل القضية. ويوضح أحمد البشاري أن أوسيف تعاني ضعفًا في الخدمات رغم قربها من المثلث، مؤكدًا أن النهوض بالبنية التحتية والخدمات أمر ملحّ ليكون بإمكان السكان مقارنة ما توفره الدولة السودانية بما تقدمه السلطات المصرية. أما محمود فيعبر عن حلمه بأن يرى الحكومة السودانية تولي أوسيف والمناطق المجاورة مثل دنقناب ومحمد قول عناية خاصة عبر مشاريع وخدمات وفرص عمل، لتصل رسالة واضحة إلى أهالي المثلث أن دولتهم لم تتخلَّ عنهم.
يشير محمود إلى مفارقات حادة يعيشها سكان المثلث؛ فبينما يُعاملون كمصريين داخل حدود حلايب وشلاتين، سرعان ما يُتهمون بالتسلل بمجرد خروجهم منها. ويكشف عن وجود جدار عازل يُعرف محليًا بـ”السلك”، حيث يُحاكم من يتجاوزه دون امتلاك أوراق مصرية بالسجن لسنوات، قبل أن يُسلَّم لاحقًا إلى السفارة السودانية.
ويرى محمود أن الجيل الذي نشأ في ظل النفوذ المصري يتمسك أكثر بأرض حلايب وشلاتين نفسها، بعيدًا عن الانتماءات القومية للسودان أو مصر. إنه تمسك بالأرض قبل الهوية الوطنية، في حين لا يزال جيل الآباء متمسكًا بسودانيته، وكذلك أبناء المنطقة خارج المثلث الذين حافظوا على هويتهم السودانية رغم قسوة الجفاف وضعف الخدمات. وهكذا، يبقى خيط رفيع يربط حلايب بالسودان ويحول دون انتزاعها نهائيًا.
ومع اندلاع الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، تراجعت الضغوط الشعبية والرسمية بشأن قضية حلايب، إذ انشغل السودانيون بتداعيات النزوح واللجوء والعودة الطوعية. غير أن ما نشرته صحيفة “ذا غارديان” النيجيرية في أغسطس الماضي، نقلًا عن موقع “Reseau International” الفرنسي ووكالة “روسيا اليوم”، حول اعتراف رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد الجيش السوداني، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، بالسيادة المصرية على حلايب وشلاتين وأبورماد، أعاد القضية إلى واجهة النقاش مجددًا.
ورغم نفي السفارة السودانية في أبوجا صحة هذه الأنباء، فإن الشكوك لا تزال قائمة داخل الأوساط السودانية. إذ يرى العديد من الدبلوماسيين والسياسيين أن الحكومة الحالية عاجزة عن مواجهة الأطماع المصرية بسبب ما تعانيه من عزلة إقليمية وضغوط داخلية. لذلك، فهي لن تغامر بخسارة تحالفها الاستراتيجي مع مصر في هذه الظروف الحرجة، حتى لو كان الثمن التخلي عن حلايب. وتستمد هذه الشكوك قوتها من غياب موقف رسمي واضح على أعلى المستويات؛ إذ لم تصدر وزارة الخارجية أو سفارة السودان في باريس أي إعلان صريح ينفي التخلي عن المثلث.