ترجمة وتحرير: نون بوست
عقب القمة التي عقدها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ألاسكا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، واجتماعه اللاحق مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وعدد من القادة الأوروبيين، أعرب مراقبون مرة أخرى عن قلقهم من احتمال أن تكون الولايات المتحدة بصدد التحضير للاعتراف بمطالبات روسية رئيسية بأراضٍ. ويبدو أن إدارة ترامب قد تعترف بمنطقة القرم الأوكرانية، التي تحتلها روسيا بشكل غير قانوني منذ عام 2014، كجزء من الأراضي الروسية، كما قد تقبل بسيطرة موسكو على معظم مناطق إقليم دونباس، التي احتُلت خلال الحرب الروسية عام 2022.
لن تكون هذه المرة الأولى في السنوات الأخيرة التي تعترف فيها الولايات المتحدة رسميًا بضم أراضٍ بشكل غير قانوني جرى الاستيلاء عليها بالقوة العسكرية، وتكون بذلك الوحيدة في المجتمع الدولي التي تفعل ذلك.
وكانت عدم شرعية هذا التوسع الإقليمي أحد المبادئ التأسيسية للأمم المتحدة وراسخًا في ميثاقها. في الواقع، نشأ النظام الأممي كله من إدراك ضرورة منع المجازر التي نجمت عن غزو وضم دول مجاورة على يد ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وإمبراطورية اليابان خلال الحرب العالمية الثانية. وقد استخدمت إدارة الرئيس جورج بوش الأب الدفاع عن هذا المبدأ القانوني الدولي الجوهري، باسم الأمن الجماعي، لتبرير حرب الخليج عام 1991 عقب غزو العراق للكويت وضمه لها. ورغم الجدل الواسع آنذاك حول ما إذا كانت الحرب ضرورية لإجبار العراق على الانسحاب، فقد كان هناك إجماع دولي واسع على عدم قبول استيلاء العراق على تلك البلد الغنية بالنفط، وهي دولة ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة.
وعلى عكس محاولة ترامب الواضحة لاسترضاء مطالب بوتين التوسعية، دعمت إدارة بايدن بقوة وحدة أراضي أوكرانيا مستندة إلى ما وصفه الرئيس السابق بـ”النظام الدولي القائم على القواعد”. وقد شدّد بايدن، ومعه مسؤولون أمريكيون آخرون، مرارًا وتكرارًا على عدم شرعية أي دولة في تغيير الحدود الدولية أو توسيع أراضيها بوسائل عسكرية من جانب واحد. وكما جاء في بيان مشترك لوزراء خارجية مجموعة السبع: “أي استخدام للقوة لتغيير الحدود محظور تمامًا بموجب القانون الدولي”.
ومع ذلك، عندما تعلق الأمر بحليفين مهمين للولايات المتحدة – إسرائيل والمغرب – لم تبد إدارة بايدن وقادة من كلا الحزبين اهتمامًا كبيرًا بهذا المبدأ الدولي الأساسي. ففي الواقع، وتحت الإدارات الجمهورية والديمقراطية على حد سواء، لم تكتفِ الولايات المتحدة بالتغاضي عن الغزوات غير القانونية المماثلة من قبل هذين الحليفين فحسب، بل كانت الوحيدة تقريبًا داخل المجتمع الدولي التي دعمتهما رسميًا.
على سبيل المثال، في عام 2019، خلال ولاية ترامب الأولى، أصبحت الولايات المتحدة أول دولة والدولة الوحيدة التي تعترف رسميًّا بضم إسرائيل لهضبة الجولان – الذي تم في عام 1981، والتي غزاها الإسرائيليون في عام 1967 واحتلوها منذ ذلك الحين — وقد أيدت إدارة بايدن بشكل أساسي قرار ترامب الأحادي الجانب.
وبعد غزوها الأوّلي، قامت القوات الإسرائيلية بعملية تطهير عرقي طالت ما يقرب من 130 ألف سوري، أي أكثر من 95 بالمائة من سكان المنطقة. أما الدروز المقيمون في القرى الخمس المتبقية فقد عانوا لسنوات من الاحتلال العسكري الإسرائيلي، وظلوا إلى حد كبير متمسكين بولائهم لسوريا. وعندما حاولت إسرائيل فرض قوانينها على المنطقة عام 1981، خاض الدروز السوريون حملة مقاومة سلمية ناجحة، أحبطت محاولات إسرائيل لإجبارهم على حمل بطاقات هوية إسرائيلية، وتجنيدهم في الجيش الإسرائيلي، ودمجهم قسرًا في إسرائيل.
وردًا على إعلان إسرائيل ضم المنطقة، اعتمد مجلس الأمن الدولي بالإجماع، وبدعم من إدارة ريغان، القرار رقم 497، الذي نصّ على أن “قرار إسرائيل بفرض قوانينها وولايتها القضائية وإدارتها على الجولان السوري المحتل باطل ولاغٍ ولا أثر قانوني له دوليًا”، ودعا إسرائيل إلى التراجع عن إجراءاتها، كما علّقت إدارة ريغان اتفاقًا للتعاون العسكري مع إسرائيل احتجاجًا على ذلك.
وقد أدى رفض إسرائيل الامتثال للقرار 497 إلى صدور قرار ثانٍ يدعو المجتمع الدولي إلى اتخاذ إجراءات لتنفيذه، لكن ذلك القرار اصطدم باستخدام الولايات المتحدة لحق الفيتو. وقد قامت الإدارات الأمريكية اللاحقة، بالطريقة ذاتها، بإحباط أي جهود دولية لفرض حظر توسيع الأراضي بالقوة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. وفي ديسمبر/ كانون الأول 2024؛ عقب سقوط نظام بشار الأسد، عندما انتهكت إسرائيل اتفاقية فصل القوات الموقعة عام 1974 مع سوريا بوساطة وزير الخارجية الأمريكي آنذاك هنري كيسنجر، وغزت مساحة أكبر من الأراضي السورية، وكانت إدارة بايدن نفسها الوحيدة داخل المجتمع الدولي التي دافعت عن ذلك الإجراء.
وعلى مدى عقود؛ ظلت الحكومة الإسرائيلية تبني مستوطنات في المرتفعات الخصبة وتزيد عدد السكان اليهود في الجولان ليصل إلى نحو 31 ألف نسمة، في انتهاك للقانون الدولي ولسلسلة من قرارات مجلس الأمن التي تحظر على القوى المحتلة توطين مدنييها في الأراضي التي جرى الاستيلاء عليها بالقوة العسكرية. ومجددًا، أعاقت الإدارات الأمريكية المتعاقبة محاولات الأمم المتحدة التصدي لهذا الانتهاك المستمر للقانون الإنساني الدولي.
ومع ذلك؛ لم تكن الولايات المتحدة مستعدة لاتخاذ السابقة الخطيرة التي تتمثل في الاعتراف رسميًا بالضم حتى إعلان ترامب عام 2019. وكانت ردود الأفعال الدولية على قرار ترامب سلبية للغاية؛ إذ قالت وزارة الخارجية الفرنسية: “إن الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، كأرض محتلة، يتعارض مع القانون الدولي، ولا سيما التزام الدول بعدم الاعتراف بوضع غير قانوني”. كما أدانت الحكومة الألمانية “الخطوات الأحادية” التي اتخذتها واشنطن، مشيرة إلى أنه “إذا كان لا بد من تغيير الحدود الوطنية، فيجب أن يتم ذلك بوسائل سلمية بين جميع الأطراف المعنية”.
وكانت هناك أيضًا اعتراضات من خبراء في وزارة الخارجية، فقد أشارت تمارا كوفمان ويتس، النائبة السابقة لمساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، في تغريدة لها إلى أن القرار “يقوّض أساس السياسة الأمريكية المعارضة لضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وكذلك الموقف الأمريكي بشأن الأراضي المتنازع عليها أخرى”.
وكتبَت ويتس وإيلان غولدنبرغ، وهو مسؤول سابق آخر في وزارة الخارجية، في مقال لهما على موقع بوليتيكو عام 2019: “إذا توقفت واشنطن عن التمسك بالمبدأ الدولي الجوهري الذي يعارض الاستيلاء على الأراضي بالقوة، فعلينا أن نتوقع أن تقدم مزيد من الدول على الاستيلاء على الأراضي التي تطمع بها من جيرانها”.
وفي الجولان نفسه، اندلعت الاحتجاجات فور إعلان ترامب، في مواجهة استعراض قوي للقوة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي. وقد استمرت حملات القمع الإسرائيلية ضد الدروز في الأراضي السورية المحتلة، مما يثير الشكوك حول صدق المزاعم الإسرائيلية بأن قصفها الأخير لدمشق ومواقع أخرى كان بدافع القلق على الدروز في سوريا. وبينما أدى صعود الإسلاميين إلى السلطة في دمشق والهجمات على الدروز في منطقة السويداء إلى تعميق الانقسامات داخل المجتمع الدرزي، لا يزال هناك رفض واسع النطاق بين دروز الجولان للبقاء تحت الاحتلال الإسرائيلي.
وعندما تولّت إدارة بايدن السلطة في عام 2021، لم تُجدّد الاعتراف الذي أقرّه ترامب بضم إسرائيل غير القانوني، لكنها أيضًا في الوقت نفسه لم تتراجع عنه. وعلى الرغم من الجهود داخل وزارة الخارجية والضغوط التي مارسها الليبراليون في الكونغرس على بايدن لإعادة الولايات المتحدة إلى الإجماع الدولي بشأن عدم شرعية توسيع الاستيلاء على الأراضي بالقوة، نشرت إدارة شؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية تعريدة قالت فيها: “لم يتغيّر موقف الولايات المتحدة بشأن الجولان، والتقارير التي تدّعي خلاف ذلك غير صحيحة.”
وواصلت الخرائط الحكومية الأمريكية في عهد بايدن إظهار جزء من جنوب غرب سوريا على أنه تابع لإسرائيل، فيما أصر وزير الخارجية أنتوني بلينكن على أن السيطرة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان “لا تزال ذات أهمية حقيقية لأمن إسرائيل”. وجاء دفاعه عن استمرار الاحتلال رغم تنامي الإدراك لدى محللين إستراتيجيين إسرائيليين بأن السيطرة على المرتفعات المطلة على منطقة الجليل لم تعد بنفس الأهمية في عصر باتت فيه التهديدات الرئيسية لأمن إسرائيل تأتي على شكل فدائيين وصواريخ بعيدة المدى. فعلى سبيل المثال، صرّح موشيه يعلون، وزير الدفاع الإسرائيلي السابق ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، في مقابلة عام 2004 قائلاً: “من ناحية المتطلبات العسكرية، يمكننا التوصل إلى اتفاق مع سوريا بالتخلي عن مرتفعات الجولان. يمكن للجيش الدفاع عن حدود إسرائيل أينما كانت.”
ويتناقض قرار بايدن بعرقلة جهود الأمم المتحدة بشأن الجولان، إلى جانب زيادة المساعدات العسكرية والتعاون الإستراتيجي مع إسرائيل، بدعم من قيادات الحزبين في الكونغرس، ويتناقض بشكل حاد مع رد الفعل السلبي الذي أبدته إدارة ريغان تجاه القرار الإسرائيلي الأولي. وفي الواقع، فإن كون موقف إدارة ديمقراطية بشأن توسيع الأراضي بالقوة أكثر يمينية من موقف إدارة ريغان – المعروفة بتجاهلها للقانون الدولي في حالات أخرى – يكشف عن مدى تحول السياسة الخارجية الأمريكية نحو عداء متزايد لما كان يُعتبر سابقًا من الركائز الأساسية للقانون الدولي.
لقد شكّل الدعم الأمريكي لسيطرة إسرائيل على الأراضي السورية المحتلة بمثابة هدية لروسيا؛ ففي مناظرة حول أوكرانيا في سبتمبر/ أيلول 2023، تعهّدت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، بـ”العمل على دعم المبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، بما في ذلك احترام سيادة واستقلال وسلامة أراضي جميع الدول الأعضاء”، لكنها، عند سؤالها عن وضع مرتفعات الجولان، أجابت بأن الولايات المتحدة لم تغيّر اعترافها بسيادة إسرائيل على الأراضي المحتلة. وقد منح هذا التصريح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، ذريعة لاتهام الولايات المتحدة بازدواجية المعايير، إذ رفض الانتقادات الأمريكية لضم روسيا لمنطقة دونباس، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة لا تحترم فعليًا “سيادة وسلامة أراضي جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة”، نظرًا لاعترافها بسيطرة إسرائيل على الجولان.
ولا يقتصر الدعم الأمريكي للتوسّع الإسرائيلي على سوريا فحسب، فقد عبّر المفاوضون الفلسطينيون منذ زمن طويل عن استعدادهم لقبول قيام دولة فلسطينية على ما لا يزيد عن 22 بالمائة من أراضي فلسطين التاريخية، أي الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، والتي يعترف بها المجتمع الدولي على أنها خاضعة للاحتلال العسكري الأجنبي. إلا أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة اعتبرت أن هذا المطلب مبالغ فيه، وأصرّت على أن على الفلسطينيين القبول بأقل من ذلك. فعلى سبيل المثال؛ النسبة التي طُلب من الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات التنازل عنها من أراضي الضفة الغربية في المقترح الذي قدّمه رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك والرئيس الأمريكي بيل كلينتون خلال قمة كامب ديفيد عام 2000، كانت مماثلة لما يقترحه ترامب بشأن تنازلات أوكرانيا. وبينما رفض الديمقراطيون مثل هذه التنازلات الإقليمية في حالة أوكرانيا، انضم كلينتون وما يقرب من 90 بالمائة من الديمقراطيين في الكونغرس إلى الجمهوريين في انتقاد عرفات لرفضه التنازل عن معظم القدس الشرقية الكبرى (والتي وسّعت إسرائيل حدودها من جانب واحد لتشمل كتل استيطانية ضخمة تمتد إلى عمق الضفة الغربية)، ووادي الأردن وأراضٍ أخرى لصالح إسرائيل، بطريقة من شأنها تقسيم الضفة الغربية إلى أربع أقاليم غير متجاورة جغرافيًا.
وكان هذا “العرض السخي” – كما وصفه الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون وقادة الكونغرس – سيمنح إسرائيل السيطرة على موارد المياه والمجال الجوي للدولة الفلسطينية، بالإضافة إلى التحكم في حركة الأشخاص والبضائع بين مناطقها. وفيما يُعد تمهيدًا لانتقادات ترامب لاحقًا لزيلينسكي، أصرّ القادة السياسيون الأمريكيون من كلا الحزبين على أن رفض عرفات التنازل عن تلك الأراضي لصالح قوة احتلال أجنبية يُعد دليلاً على أنه لم يكن مهتمًا فعلاً بتحقيق السلام.
وفي عام 1980؛ قامت إسرائيل بضم القدس الشرقية المحتلة رسميًا وجزء واسع من أراضي الضفة الغربية المحيطة بها، وهي مناطق كانت قد احتلتها بشكل غير قانوني منذ حرب العرب وإسرائيل عام 1967. وقد أدان ما لا يقل عن سبعة قرارات صادرة عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هذه الخطوة، واعتبرته “باطلاً ولاغيًا”، إلا أن الولايات المتحدة منعت تنفيذ هذه القرارات بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يُلزم المنظمة باتخاذ إجراءات لـ”استعادة السلم والأمن الدوليين”.
ومنذ تسعينيات القرن الماضي، بدأت تقارير الحكومة الأمريكية في التعامل مع القدس الشرقية الكبرى المحتلة على أنها جزء من إسرائيل، وفي عام 2018، وبمساندة قوية من الحزبين، أصبحت الولايات المتحدة أول دولة كبرى تنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس. وقد أصرّ الحزبان السياسيان منذ زمن طويل على اعتبار المدينة متعددة الأعراق والأديان “عاصمة موحدة” لإسرائيل، متجاهلين حقيقة أن القدس كانت على مدى قرون مركزًا للحياة السياسية والتجارية والدينية والثقافية الفلسطينية. وفي عام 2019، أغلقت إدارة ترامب القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية العربية المحتلة، والتي كانت قائمة منذ فترة الانتداب في ثلاثينيات القرن الماضي، وأصرت على أن يتعامل الفلسطينيون مع السفارة الأمريكية بدلاً منها. وقد رفض بايدن إعادة فتح القنصلية.
وفي أماكن أخرى؛ لا تكتفي الولايات المتحدة بتوقّع استعداد الشعوب للتنازل عن جزء من أراضيها التي احتلتها قوى أجنبية، بل تتوقع منهم أيضًا التخلي عن أوطانهم بالكامل.
وفي عام 2020؛ وخلال الأسابيع الأخيرة من ولايته الأولى، جعل ترامب الولايات المتحدة أول دولة تعترف رسميًا بضم المغرب للصحراء الغربية، وهي المنطقة التي استولت المغرب عام 1975 قبيل موعد استقلالها المقرر عن إسبانيا، وذلك في تحدٍ مباشر لحكم تاريخي صادر عن محكمة العدل الدولية وسلسلة من قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وفي مقابل هذه الخطوة؛ رضخ المغرب للضغوط الأمريكية ووافق على الاعتراف بإسرائيل، لينضم إلى أربع دول عربية أخرى في انتهاك موقف جامعة الدول العربية الراسخ، الذي ينص على عدم إقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل قبل انسحابها من الأراضي العربية المحتلة.
ومرة أخرى؛ ورغم أن بايدن لم يؤيد قرار ترامب رسميًا، إلا أنه أبقى عليه دون تعديل. فقد بدأت خرائط الحكومة الأمريكية في عهد بايدن تُظهر الصحراء الغربية – المعروفة رسميًا باسم الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية – على أنها جزء من المغرب، دون أي فاصل أو تمييز بينهما. كما بدأت تقارير وزارة الخارجية الأمريكية وغيرها من الوكالات الفيدرالية، التي كانت حتى ذلك الحين تتعامل مع الصحراء الغربية ككيان منفصل، في إدراج الإقليم ضمن الأراضي المغربية. وبينما زعمت الإدارة أنها لا تزال تدعم عملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة، فإن اعترافها شجّع المغرب على اتخاذ موقف أكثر تشددًا إزاء السماح بإجراء استفتاء في الإقليم كخطوة نحو تقرير المصير، كما تطالب الأمم المتحدة، بحجة أن الاعتراف الأمريكي قد حسم القضية فعليًا.
وعندما استولى المغرب على المستعمرة الإسبانية السابقة عام 1975، دعا مجلس الأمن بالإجماع القوات المغربية إلى الانسحاب الفوري من الإقليم، والسماح لشعب الصحراء الغربية بتقرير مصيره، إلا أن فرنسا والولايات المتحدة حالتا دون تنفيذ المجلس لمهامه المنصوص عليها.
ولم يمنع ذلك 84 دولة، في فترات مختلفة، من الاعتراف بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، التي تدير ما يقرب من 40 بالمائة من سكان الصحراء الغربية (ويقيم معظمهم في مخيمات اللاجئين غرب الجزائر). وقد أصبحت الصحراء الغربية دولة ذات عضوية كاملة في الاتحاد الأفريقي منذ عام 1981. وبذلك، تكون الولايات المتحدة قد اعترفت فعليًا بالاستيلاء بالقوة على دولة أفريقية ذات سيادة من قبل دولة أخرى.
وقد تم التنديد بقرار ترامب من قبل أعلى المستويات الدبلوماسية والسياسة الأمريكية. فقد انتقد كل من جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكي السابق، وكريستوفر روس، السفير الأمريكي السابق، وهما من تولّيا منصب المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء الغربية، هذه الخطوة واعتبروها مناقضة تمامًا لمساعي السلام والقيم الأساسية التي تقوم عليها السياسة الأمريكية. كما وجّه جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق، وعدد من كبار المسؤولين الأمريكيين السابقين، انتقادات مماثلة لهذا القرار.
ومع ذلك؛ رفضت إدارة بايدن الدعوات الحزبية من قادة الكونغرس لإلغاء قرار ترامب. وفي الكونغرس، انتقد حتى بعض أقوى مؤيدي إسرائيل – مثل رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ جيمس إينهوف، وهو جمهوري، ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب إليوت إنجل، وهو ديمقراطي – السابقة الخطيرة التي أرساها ترامب بالاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وهي إحدى المرات القليلة جدًا منذ توقيع ميثاق الأمم المتحدة التي اعترفت فيها أي حكومة رسميًا بمحاولة دولة ما توسيع أراضيها من خلال ضم دولة أخرى بالقوة.
ومع وصول إدارة بايدن إلى الرئاسة وتعهدها آنذاك بالتراجع عن العديد من قرارات السياسة الخارجية المتسرّعة التي اتخذتها إدارة ترامب، سادت توقعات واسعة بأن إلغاء الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية سيكون خطوة سريعة وسهلة نحو تصحيح الوضع. وقد بدا أن إعلان ترامب بشأن الصحراء الغربية، الذي جاء بعد خسارته في انتخابات 2020، وكان ثمنًا مضللاً لاعتراف المغرب بإسرائيل، يؤكد عدم شرعية القرار، لا سيما أنه جاء بعد موافقة المغرب على صفقات أسلحة بمليارات الدولارات مع الولايات المتحدة. إن رفض إدارة بايدن التراجع عن هذا القرار شكّل خيبة أمل عميقة لدى قادة الكونغرس من الحزبين، ومسؤولي وزارة الخارجية المخضرمين، وحلفاء واشنطن الرئيسيين، إلى جانب الباحثين في شؤون شمال أفريقيا والمنظمات الحقوقية.
وقد تبنّت إدارة بايدن؛ كما فعلت في حالة إسرائيل، موقفًا مفاده أن توسيع الأراضي بالقوة ليس بالضرورة أمرًا غير قانوني، ويمكن اعتباره شكلاً مقبولاً من ممارسات الدولة، في تناقض واضح مع الغاية الأساسية من تأسيس الأمم المتحدة والمهمة الجوهرية لمجلس الأمن، والمتمثلة في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين من خلال إجراءات تهدف إلى منع أو عكس الحروب العدوانية وعمليات الاحتلال الإقليمي، بغض النظر عن المبررات التاريخية التي يطرحها المعتدي. ويبرز التناقض الصارخ في موقف الولايات المتحدة من غزو واحتلال المغرب للصحراء الغربية مقارنة بردّها على الغزو العراقي للكويت عام 1990. فقد قدّم العراقيون – كما فعل المغاربة – مزاعم تاريخية مشكوكًا فيها بأن جارتهم الجنوبية الصغيرة كانت جزءًا من أراضيهم الوطنية، لكنها فُصلت عن الوطن الأم بفعل مؤامرات استعمارية. ومن وجهة نظر العراق، كان ضم الكويت تصحيحًا لظلم تاريخي، على غرار الطريقة التي يُصوَّر بها غزو الصحراء الإسبانية في الخطاب المغربي. أما في حالة الخليج، فلم تعترف الولايات المتحدة بالاستيلاء، ولم تطالب الكويتيين بالانخراط في “عملية سلام” لا تنتهي ولا تُفضي إلى شيء، بل أصرّت على أن ينهي العراق احتلاله فورًا، ثم خاضت حربًا بعد أقل من ستة أشهر لتحرير الكويت باسم الدفاع عن ميثاق الأمم المتحدة.
وقد شمل اعتراف ترامب الرسمي بسيادة المغرب على الأراضي المحتلة حتى نحو 20 بالمائة من الصحراء الغربية التي لم يسبق للمغرب أن احتلها، والتي لا تزال تحت سيطرة الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية. وفي الوقت نفسه، لم تنضم إلى الولايات المتحدة في هذا الاعتراف سوى حكومة إسرائيل، إذ لم تُقدم أي دولة أخرى على خطوة مماثلة. وحتى إدارتا رونالد ريغان وجورج دبليو بوش – المعروفتان بانتهاكاتهما للمعايير القانونية الدولية ودعمهما لاحتلال المغرب – امتنعتا عن الذهاب إلى الحد الذي بلغته إدارتا ترامب وبايدن في الإصرار على شرعية الضم.
على الرغم من التزامها الشكلي بدعم عملية السلام المتعثرة التي ترعاها الأمم المتحدة، تتفق الولايات المتحدة فعليًا مع الملكية المغربية على أن الاستقلال لا ينبغي أن يكون خيارًا متاحًا للسكان المحليين، المعروفين باسم الصحراويين، الذين يتمتعون بتاريخ ولهجة وثقافة متميزة. وعلى عكس السوريين والفلسطينيين، فإن سكان الصحراء الغربية متحدون تحت قيادة واحدة معترف بها، جبهة البوليساريو، التي تحكم الجمهورية العربية الديمقراطية الصحراوية. على الرغم من ادعاءات الملكية المغربية ومؤيديها بخلاف ذلك، فإن جبهة البوليساريو لم تشارك أبدًا في الإرهاب أو تدعمه، كما أنها لم تشكك أبدًا في حق المغرب في الوجود وإجراء انتخابات منتظمة وحرة وتنافسية، لذا لا تملك واشنطن الأعذار التي غالبًا ما تستخدم لتبرير احتلالات إسرائيل، التي تحرم الفلسطينيين والسوريين من حقهم في استعادة أراضيهم المحتلة.
ويصر النظام المغربي – الذي شجعه اعتراف الولايات المتحدة – على أن الاستقلال غير وارد على الإطلاق، وهو على أقصى تقدير مستعد لتقديم درجة محدودة من “الحكم الذاتي” تحت السيادة المغربية، رغم أن بنود هذا العرض تفتقر إلى الوضوح وتسمح فعليًا للملك بسلطة غير محدودة لحكم الإقليم إذا اختار استخدامها. في الواقع، توضح حالات إريتريا وكوسوفو وهونغ كونغ أن الوعود بمنح الحكم الذاتي الإقليمي التي قطعتها الدول الاستبدادية المركزية لم تنجح قط (حصلت إريتريا وكوسوفو في النهاية على استقلالهما، ولكن بعد حروب مدمرة). وقد وثقت منظمة هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية ومنظمات حقوقية مرموقة أخرى القمع الواسع النطاق الذي تمارسه قوات الاحتلال المغربية ضد النشطاء السلميين المؤيدين للاستقلال، بما في ذلك التعذيب والضرب والاعتقال دون محاكمة والقتل خارج نطاق القانون. في عام 2022، صنفت منظمة فريدوم هاوس الصحراء الغربية المحتلة من قبل المغرب في المرتبة الثانية بعد سوريا الأسد من حيث قمع الحقوق السياسية.
ونتيجة لذلك؛ فإن خطة ”الاستقلال الذاتي“ المدعومة من الولايات المتحدة في المغرب تعجز عن منح الصحراويين أي مظهر حقيقي من مظاهر تقرير المصير، كما أن القمع المستمر يثير تساؤلات جدية حول شكل هذه الخطة في الواقع العملي.
وقد أقر مايكل ماكفول، عضو مجلس الأمن القومي في إدارة أوباما وسفير سابق للولايات المتحدة روسيا، وأحد أبرز المدافعين عن دعم واشنطن لأوكرانيا، في عام 2022 بأن موقف إدارة بايدن الرافض لضم الأراضي في أوكرانيا كان سيكتسب مصداقية أكبر لو أنها ألغت اعتراف ترامب بضم المغرب للصحراء الغربية. إلا أن بايدن رفض ذلك، مما شكّل هدية أخرى للكرملين ولمؤيديه.
هناك بالتأكيد أجزاء من العالم تطمح شعوبها بشكل منطقي إلى الاستقلال السياسي، لكن حقها في تقرير المصير لا يُعترف به رسميًا لأنها تُعتبر جزءًا من أراضي دول ذات سيادة. وبغض النظر عن المظالم التاريخية التي أجبرت الأقليات الوطنية على العيش ضمن حدود دول أخرى قبل اعتماد ميثاق الأمم المتحدة عام 1945، فإن المجتمع الدولي يقبل إلى حد كبير بأن شعوب مثل التبت والشيشان وكردستان لا تملك حق الاستقلال بموجب القانون الدولي. ومع ذلك؛ فقد استثنت الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية حالة كوسوفو، التي كانت قانونيًا جزءًا من صربيا، لكنها حظيت بدعم غربي نشط في نضالها من أجل الاستقلال، كما استُثنيت حالة جنوب السودان، التي سهلت الدول الغربية انفصالها أيضًا.
على النقيض من ذلك، صنفت الأمم المتحدة الصحراء الغربية رسميًا على أنها “إقليم لا يتمتع بالحكم الذاتي” (أي مستعمرة) وبالتالي فهي تتمتع بحق تقرير المصير، والذي يجب أن يشمل بحكم تعريفه خيار الاستقلال. ومع ذلك، فإن إصرار واشنطن على إمكانية ضمها إلى جارتها الشمالية بموجب خطة “الحكم الذاتي” المغربية المشكوك فيها، يُبرز استعدادًا من الحزبين في الولايات المتحدة لانتهاك القانون الدولي حتى في أكثر مبادئه الأساسية.
ولا يمكن لأي دولة أن تدّعي شرعية تجاهل مبدأ قانوني دولي أساسي مثل حظر توسيع الأراضي بالقوة لمجرد أن الطرف المنتهك يُعد حليفًا استراتيجيًا. فإما أن تُدعم هذه المبادئ أو تُرفض، وبينما تنتهك روسيا القانون الدولي بشكل لا لبس فيه خلال غزوها وضمها غير القانوني لشبه جزيرة القرم ومنطقة دونباس، فإنه من المهم الإقرار بأن هذا ليس السبب الحقيقي وراء معارضة واشنطن لتلك التصرفات؛ حيث أظهرت إدارتا بايدن وترامب أنهما لا تدعمان فعليًا مبدأ حظر التوسع الإقليمي بالقوة في حد ذاته.
الحجة الرئيسية ضد استعداد إدارة ترامب للاعتراف بضم روسيا غير القانوني لأراضي أوكرانية، هي أن ذلك سيشكّل سابقة خطيرة في القانون الدولي، لكن نتيجةً لاعتراف ترامب السابق بضم المغرب وإسرائيل، ورفض بايدن التراجع عنه، فإن هذه السابقة ليست جديدة على الإطلاق. وهذا يعزز موقف أولئك الذين، يتساءلون
وأحد الحجج الرئيسية التي تُساق ضد استعداد إدارة ترامب الواضح للاعتراف بضم روسيا غير القانوني للأراضي الأوكرانية هو أن هذا يشكل سابقة خطيرة في القانون الدولي. ولكن نتيجة لاعتراف ترامب السابق بالضم المغربي والإسرائيلي للأراضي، ورفض بايدن التراجع عنه، فإن هذا الاعتراف لا يشكل سابقة على الإطلاق. وهذا يعزز حجة أولئك الذين يتساءلون عما إذا كان السعي لاستعادة نحو 20 بالمائة من الأراضي الأوكرانية المحتلة يستحق الثمن البشري والمادي لحرب استنزاف دموية قد تنتهي بالفشل، رغم إقرارهم بعدم شرعية العدوان الروسي والفظائع التي ارتكبتها موسكو في أوكرانيا.
الحجة المضادة الأبرز هي أن التنازل عن الأراضي، حتى مع وجود ضمانات أمنية، قد يشجع روسيا على مواصلة عدوانها ضد أوكرانيا وجمهوريات البلطيق ودول أخرى، لكن المغرب وإسرائيل أيضًا لديهما طموحات توسعية تتجاوز ما ضموه بالفعل، ولم يمنع ذلك واشنطن من الاعتراف بعمليات الضم والاحتلال التي نفذوها.
لا يزال المغرب يدّعي سيادته على أجزاء واسعة من غرب الجزائر، والتي حاول احتلالها خلال حرب الرمال عام 1963، كما أن الخرائط الحكومية المغربية لا تُظهر بوضوح الحدود مع الجزائر. وبالمثل؛ رفض المغرب في البداية الاعتراف باستقلال موريتانيا عند إعلانها في عام 1960، وادّعى السيادة على أجزاء من شمال مالي أيضًا. ولا يزال حزب الاستقلال، الحزب المحافظ المؤيد للملكية في المغرب، يدعم هذه الرؤية لما يُعرف بـ”المغرب الكبير”.
وبالمثل؛ دعا كبار المسؤولين الإسرائيليين علنًا إلى ضم الضفة الغربية بأكملها ودعموا خطة ترامب للسيطرة الأميركية الإسرائيلية على قطاع غزة، بهدف تسوية ما تبقى من القطاع وتحويله إلى منتجع على البحر الأبيض المتوسط، بل إن بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في الحكومة الإسرائيلية الحالية تدعم استيلاء إسرائيل على الضفة الشرقية، أي ما يعرف اليوم بغرب الأردن.
قد يُقال إن التداعيات الجيوسياسية للتوسع الروسي أكبر من تلك المرتبطة بالتوسع المغربي أو الإسرائيلي، لكن يبدو أن السبب الرئيسي في ذلك هو أن معظم الدول القوية في العالم تهتم بمصير الأوروبيين أكثر من اهتمامها بمصير الأفارقة أو سكان الشرق الأوسط، لا بسبب عدم شرعية التوسع أو المعاناة الإنسانية الناتجة عنه.
في نهاية المطاف؛ يعود القرار للأوكرانيين بشأن مواصلة القتال لاستعادة كامل أراضيهم. أما الفلسطينيون وسكان الصحراء، فقد ظلوا يناضلون لعقود من أجل استعادة أراضيهم، ومن غير المرجح أن يتراجع الأوكرانيون أيضًا. فالشعوب الثلاثة تخوض صراعات وجودية، وطالما أن مقاومتهم تلتزم بالقانون الإنساني الدولي، بما في ذلك تجنب استهداف المدنيين، فلا يجوز انتقادهم على إصرارهم على مواصلة المقاومة.
لقد أصرت الإدارات الأميركية من كلا الحزبين لعقود على أن الفلسطينيين والسوريين والصحراويين الخاضعين للاحتلال يتحملون المسؤولية الأساسية عن مصيرهم وعن إنهاء الصراع مع محتليهم. والآن، يدّعي ترامب بنفس المنطق أن زيلينسكي هو من بدأ الحرب، ويقول إن “إنهاء النزاع يقع على عاتق الرئيس زيلينسكي”.
غير أنه بالنظر إلى اختلال ميزان القوى، فإن الأوكرانيين والسوريين والفلسطينيين والصحراويين جميعًا بحاجة إلى دعم دولي للانتصار، كما أن إحجام بعض حكومات الجنوب العالمي عن دعم أوكرانيا يعود في جزء كبير منه إلى اعتقادهم بأن دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا يستند إلى منافسة جيوسياسية أكثر من كونه قائمًا على احترام القانون الدولي.
وبالمثل؛ فإنه من غير المرجح أن يكون العديد من المسؤولين الأميركيين مهتمين فعليًا بجرائم الحرب الروسية، بالنظر إلى دفاعهم في السنوات الأخيرة عن جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل والسعودية والمغرب وحلفاء آخرون. فرغم أن جرائم الحرب الروسية في أوكرانيا خطيرة وحقيقية، إلا أن القادة السياسيين الأميركيين نادرًا ما عبّروا عن اهتمامهم بحياة المدنيين كمسألة مبدأ أخلاقي أو قانوني. على سبيل المثال، في الوقت الذي أشاد فيه المسؤولون الأمريكيون بالمحكمة الجنائية الدولية لإصدارها لوائح اتهام بحق القادة الروس؛ قاموا بإدانة ومعاقبة مسؤولي المحكمة نفسها عندما أصدروا لوائح اتهام بحق قادة إسرائيليين، أي أنهم ببساطة لا يؤمنون بمحاسبة مجرمي الحرب إذا كانوا من حلفاء الولايات المتحدة.
وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة (أو أي حكومة أخرى) يجب أن تكون متسقة أخلاقيًا قبل أن تفعل الشيء الصحيح، كما لا يعني أنها لا تستطيع أحيانًا اتخاذ قرارات صحيحة لأسباب خاطئة، ولكن مما لا شك فيه أن الاعتراف بعمليات الضم غير القانونية التي نفذتها إسرائيل والمغرب يضر بشدة بمصداقية جهود الولايات المتحدة في كسب الحلفاء لدعم الحرب في أوكرانيا، لا سيما في الجنوب العالمي. فعندما كنت أدافع عن سياسة الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا في رحلاتي إلى إفريقيا وجنوب آسيا ومناطق أخرى منذ الغزو الروسي، كان سائقو سيارات الأجرة وكبار المسؤولين الحكوميين يطرحون مسألة اعتراف واشنطن بضم إسرائيل للجولان والمغرب للصحراء، ليؤكدوا أن معارضة الغرب للتوسع الروسي لا تتعلق بالقانون الدولي، بل بالمصالح الجيوسياسية.
إن حقيقة أن الاحتلالين المغربي والإسرائيلي لا يحظيان باعتراف أي بلدان أخرى سوى الولايات المتحدة (والقوى المحتلة نفسها) تضع واشنطن في موقف ضعيف للغاية لقيادة المجتمع الدولي في مواجهة طموحات روسيا التوسعية غير القانونية في استعادة الأراضي، وهذا يؤكد حقيقة أن استعداد ترامب للاعتراف بضم روسيا للأراضي قد يكون خروجًا عن سياسة بايدن فيما يتعلق بأوكرانيا، ولكنه في الواقع يجعل سياسة الولايات المتحدة أكثر اتساقًا عندما يتعلق الأمر بدعم التوسع الإقليمي بالقوة.
قد نكون للأسف أمام عودة إلى سياسات “القوى العظمى” التي سادت في حقبة سابقة؛ حيث تعتقد الدول القوية أن لها الحق في تقسيم أراضي الدول الأضعف بما يخدم مصالحها الخاصة، وما هو على المحك هنا لا يقتصر على حقوق شعوب فلسطين والجولان والصحراء الغربية وأوكرانيا، بل النظام القانوني الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية بأكمله.
المصدر: نيو لاينز