جددت “إسرائيل” غاراتها على الأراضي السورية مستهدفة مواقع في مدينتي حمص واللاذقية، في نهج تصعيد واستهداف متواصل اتبعته منذ الساعات الأولى لسقوط نظام بشار الأسد، في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024.
قوبلت الغارات بتنديد رسمي سوري عبّرت عنه وزارة الخارجية في بيان، اعتبرت فيه أن الاستهداف يأتي ضمن تصعيد تنتهجه “إسرائيل” ضد الأراضي السورية، مع تأكيد الرفض لأي محاولات للنيل من السيادة أو المساس بالأمن الوطني، ودعوة المجتمع الدولي، ولا سيما مجلس الأمن، إلى تحمّل مسؤولياته القانونية والأخلاقية.
تأتي هذه الضربات بعد لقاءات رسمية سورية إسرائيلية ومحادثات لتهدئة التوتر جنوبي سوريا خلال الأشهر الماضية، وقبيل لقاء مرتقب هذا الأسبوع بين وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، وفق وسائل إعلام إسرائيلية، ما يثير تساؤلات حول دلالات هذه الغارات وتوقيتها.
تصعيد متواصل على وقع المحادثات
بعد فرار بشار الأسد إلى روسيا، صعّدت “إسرائيل” من عملياتها العسكرية في سوريا، مستهدفة القدرات العسكرية عبر غارات متواصلة على مناطق عدة، بينها دمشق وريفها وحمص واللاذقية وحلب. وركّزت الهجمات على مخازن الأسلحة، مبرّرة ذلك بالخشية من وقوعها في “أيدي متطرفين”، وبذرائع حماية أمنها، ومنع تنامي النفوذ التركي، إضافة إلى دعمها المزعوم لحماية الدروز.
كما واصلت القوات الإسرائيلية توغلاتها في قرى وبلدات ريف القنيطرة، وهو ما أدانته دمشق بشدة، معتبرة أن هذه الاعتداءات تعرقل جهود الاستقرار، وتشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي ولاتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974، داعية المجتمع الدولي إلى التدخل لوقفها.
وكانت أحدث الضربات الإسرائيلية، مساء الاثنين 8 من سبتمبر/ أيلول الحالي، حين شنت طائرات إسرائيلية غارات جوية على محيط مدينتي حمص واللاذقية، وفق الإعلام الرسمي السوري، دون توضيح ماهية المواقع المستهدفة أو حجم الأضرار. في حين نقلت وسائل إعلام أن الضربات طالت مواقع عسكرية جنوب شرقي حمص، وفي بلدة سقوبين بريف اللاذقية.
طيران الاحتلال الإسرائيلي يستهدف كلية الدفاع الجوي في محيط مدينة #حمص pic.twitter.com/nGRGm8Fnob
— نون سوريا (@NoonPostSY) September 8, 2025
ووصفت الخارجية السورية الاستهداف الإسرائيلي بأنه انتهاك للقانون الدولي ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وخرق لسيادة الجمهورية العربية السورية وتهديد مباشر لأمنها واستقرارها الإقليمي، ودعت المجتمع الدولي إلى اتخاذ موقف واضح وحازم يضع حدًا لهذه الاعتداءات المتكررة ويضمن احترام سيادة سوريا وسلامة أراضيها، بينما لم تعلق “إسرائيل” على هذه الغارات.
تأتي هذه الغارات بعد 11 يومًا من عملية إنزال جوي نفذتها أربع مروحيات إسرائيلية في منطقة الكسوة جنوب غرب دمشق، واستمرت نحو ساعتين، سبقها بيوم قصف مسيّرات إسرائيلية لمنطقة جبل المانع بالكسوة أدت إلى مقتل خمسة عناصر من قوات تابعة لوزارة الدفاع السورية، عقب العثور على أجهزة مراقبة وتنصّت يُرجَّح ارتباطها بمنظومة تجسس إسرائيلية.
ولم تتوقف التدخلات الإسرائيلية العسكرية في سوريا رغم وجود محادثات بين الطرفين، تطورت تدريجيًا من محادثات غير مباشرة عبر وسطاء إلى لقاءات غير مسبوقة، لعل أبرزها التي أعلن عنها الجانب السوري رسميًا، في 19 من أغسطس/آب الماضي، عندما اجتمع الشيباني مع ديرمر، في العاصمة الفرنسية باريس، بوساطة أمريكية، وكان اللقاء الثاني خلال أقل من شهر في المدينة نفسها.
ومن المتوقع أن يلتقي الوزير الشيباني مع رون ديرمر هذا الأسبوع، بحسب ما ذكرته هيئة البث الإسرائيلية، نقلًا عن مصادر إسرائيلية وسورية، دون تأكيد أو إعلان من الجانب السوري، أو الوسيط الأمريكي.
“جندونا جندونا، الشعب يريد تحرير الجولان”.. مظاهرة في سوق الحميدية بـ #دمشق دعمًا لـ #غزة وللمطالبة بمقاومة الاحتلال. pic.twitter.com/QJQbeBSS0v
— نون سوريا (@NoonPostSY) September 7, 2025
ولا توجد صيغة واحدة حول فحوى النقاشات التي تدور بين الطرفين، لكن ما ظهر للعلن من الجانب السوري هو العمل على خفض التصعيد، وعدم التدخّل بالشأن السوري الداخلي، والتوصّل لتفاهمات تدعم الاستقرار في المنطقة، ومراقبة وقف إطلاق النار في محافظة السويداء، وإعادة تفعيل اتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974.
وتتحدث بعض وسائل الإعلام بالاستناد إلى مصادر وتسريبات عن “تطبيع ناعم” أو “اتفاقية أمنية”، رغم نفي الخارجية السورية صحة توقيع اتفاق أمني مرتقب.
وعن تقييم الإدارة الأمريكية لاجتماعات الجانبين السوري والإسرائيلي، يقول مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية لـ”نون بوست” إن الولايات المتحدة تواصل تشجيع التوصل إلى اتفاق دائم بين “إسرائيل” وسوريا، دون توضيح طبيعة الاتفاق المقصود.
ويضيف المسؤول أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حدد رؤيته الواضحة لشرق أوسط مزدهر وسوريا مستقرة تعيش في سلام مع نفسها ومع جيرانها. ويُعد السلام بين الجيران، بما في ذلك “إسرائيل” وسوريا، عنصرًا أساسيًا في هذه الرؤية.
أهداف عسكرية و”عربدة مركّبة”
تواصل “إسرائيل” تنفيذ ضرباتها على المواقع العسكرية داخل سوريا، مصحوبة بخطاب إعلامي معادٍ للحكم الجديد الذي تصفه بـ”كيان جهادي متشدد”. وفي الوقت نفسه تستمر “إسرائيل” في الترويج لمشاريع توسعية مثل “ممر داوود” و”إسرائيل الكبرى”.
كيف يرتفع الكيان الصهيوني على أجسادنا؟ وما هو مشروع الهيمنة والعلو الذي يسعى إليه الاحتلال الإسرائيلي؟ استمع للتفاصيل مع عبد الرحمن دالاتي 👇 pic.twitter.com/WPZKLjhPtK
— نون سوريا (@NoonPostSY) September 9, 2025
يرى المحلل السياسي والمدير التنفيذي في مركز “جسور للدراسات” وائل علوان، أن الاستهداف الإسرائيلي لمواقع في حمص واللاذقية يأتي ضمن أهداف التدخل الإسرائيلي المستمر في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، والقائمة على التعامل العسكري مع أي تحركات تقوم بها القوات السورية، سواء على مستوى المجموعات المنتظمة للجيش في الجنوب السوري، أو أي تحرك للسلاح الثقيل يشكّل تهديدًا لأمن “إسرائيل” بنظرها، في مختلف المناطق السورية، ومنها مثلًا الطائرات الحربية، أو الدفاعات الجوية، أو الرادارات، أو الصواريخ بعيدة المدى.
ويقول علوان لـ”نون بوست” إن “إسرائيل” تتعامل عسكريًا في سوريا ضمن نطاقين هما:
- الجنوب السوري، وترى “إسرائيل” أنه يجب ألّا يضم أي وجود عسكري.
- باقي الأراضي السورية، والتي تعتبر “إسرائيل” أنه يجب ألّا تحتوي على أي سلاح قد يشكّل تهديدًا لها مستقبلًا.
وعن توقيت الغارات الإسرائيلية على سوريا، فلا يعتقد علوان أن الاستهداف مرتبط بمسار المفاوضات بين الجانبين، والذي يبدو مستقرًا في الوقت الراهن. كما أن الوساطة الأمريكية تمضي بخطوات جيدة نحو الوصول إلى تفاهمات أمنية تتعلق بوقف الاشتباك، ووقف إطلاق النار، ومنع المواجهات المباشرة، حسب رأيه.
ويعتبر المحلل السياسي أن المفاوضات بين الجانبين تمثل مسارًا سياسيًا مستقلًا لا يتأثر بالتدخلات الميدانية التي تنفذها “إسرائيل”، ولا يؤثر فيها كذلك. ويوضح أن “إسرائيل” قد تلجأ إلى التصعيد العسكري إذا تعطّل المسار أو كانت بحاجة إلى ممارسة ضغط، لكن في حالة القصف الذي وقع في 8 من سبتمبر/أيلول، لم يكن هذا هو الدافع، إذ كان المسار التفاوضي يسير بشكل مرن ودون إشكالات تُذكر.
هل تطبّع #سوريا مع الاحتلال؟ المستشار الإعلامي للرئيس السوري يوضّح مسار العلاقات مع “إسرائيل” خلال لقاء تلفزيوني. pic.twitter.com/8JZmVjlRQr
— نون سوريا (@NoonPostSY) September 7, 2025
من جانبه، يستبعد الباحث في الشؤون العسكرية في المركز العربي لدراسات سورية المعاصرة، نوار شعبان، أن يكون استهداف “إسرائيل” لمواقع في حمص واللاذقية مرتبطًا بالضغط للحصول على مكاسب ضمن مسار المفاوضات، أو بهدف تدمير القدرات العسكرية السورية، التي يرى أنها تضررت بنسبة كبيرة جدًا بالفعل.
ويقول الباحث لـ”نون بوست” إن التصعيد الأخير خرج عن إطار الضربات الاعتيادية، ولا يمكن ربطه بضربات سابقة، إذ يمثل نمطًا جديدًا مختلفًا كليًا، يتعلق بجمع “إسرائيل” المعلومات ومراقبة نمط التسليح السوري ونوعية الأسلحة التي تُدخلها دمشق.
وربط شعبان استهداف مواقع في حمص باستعراض وزارة الدفاع السورية لقدرات سلاح الجو، ما دفع “إسرائيل” لاستهداف منطقة عسكرية يُعتقد أنها مرتبطة بالدفاعات الجوية.
أما في ما يخص استهداف مواقع في اللاذقية، فيرى الباحث أن الأمر يرتبط بوصول أسلحة جديدة إلى هناك، ضمن ما وصفه بمتابعة “إسرائيل” لطبيعة التسلّح السوري ومحاولة التأثير، عبر أدواتها التخريبية، على الشكل الذي تريد أن تكون عليه البنية العسكرية في سوريا.
ويعتبر شعبان أن الوصف الأدق لما يجري هو “العربدة المركّبة”، والتي تقوم على التدخل السافر في الشؤون الداخلية للدول، بوصفها سياسة إسرائيلية جديدة تتبعها في عموم المنطقة، إذ تستهدف أي عنصر أو نشاط تعتبره خطرًا على أمنها القومي وفق منظورها الخاص.
“يجب إيقاف الفرعنة الإسرائيلية”.. سوريون يستنكرون العدوان الإسرائيلي على #قطر اليوم. pic.twitter.com/X4ozc46itp
— نون سوريا (@NoonPostSY) September 9, 2025
ويشير إلى أن هذه السياسات الجديدة تسعى “إسرائيل” لفرضها إقليميًا، مستشهدًا باستهدافها للعاصمة القطرية الدوحة كمثال على ذلك. ويؤكد أن الهوامش المتاحة أمام “إسرائيل” في هذا السياق كبيرة، كما أن حجم تدخلها في المنطقة بات ضخمًا وغير محدود.
واستهدفت “إسرائيل” قادة الوفد المفاوض لـ”حركة المقاومة الإسلامية” (حماس) الفلسطينية في العاصمة القطرية الدوحة، صباح الثلاثاء 9 من سبتمبر/أيلول الحالي، في عملية باستخدام ذخائر دقيقة استنادًا إلى معلومات استخباراتية.
ونجا الوفد من محاولة الاغتيال، لكن الهجوم خلّف عددًا من الضحايا من بينهم نجل القيادي خليل الحية ومدير مكتبه وعنصر بقوة الأمن الداخلي القطري. في حين وصفت وزارة الخارجية القطرية في بيان رسمي بأن العملية “هجوم جبان واعتداء إجرامي وانتهاك للقوانين الدولية وتهديد خطير لأمن وسلامة المواطنين والمقيمين في قطر”.