على وقع الحِزامات النارية المتتالية، وإنذارات الإخلاء اللامتناهية، بدأت عشرات العائلات الفلسطينية في مدينة غزة بالنزوح فعليًا نحو وسط وجنوب القطاع، وسط معاناة النزوح المستمرة منذ عامين من الحرب. وفي الوقت ذاته، تتمسك عائلات أخرى بالبقاء رغم الخوف الكبير، معتبرة أن الموت في منازلها أهون بكثير من عذابات النزوح إلى وجهة مجهولة المصير، لا يُرجى منها سوى الموت والاستهداف، لا النجاة ولا الأمان، إذ لا مكان آمن في غزة، وإن ادّعت إسرائيل ذلك، فهي تقتل الجميع في كل مكان.
في أحد ممرات مراكز النزوح وسط مدينة خانيونس، تجلس الحاجة أم تامر عيسى (58 عامًا)، النازحة من عزبة عبد ربه شمال قطاع غزة، وهي تتجرع آلام إصابتها جراء استهداف إسرائيلي في حي الزيتون جنوبي مدينة غزة، فقد اخترقت شظية ظهرها وخرجت من بطنها، وبقيت تنزف أيامًا طويلة في ظل نقص الكوادر الطبية والإمدادات العلاجية، وانهيار البنية الصحية بفعل الحرب.

وتضيف أم تامر أنها نزحت ما يقارب خمس عشرة مرة بين أحياء غزة في الشمال، مرورًا بالوسطى ورفح وخانيونس جنوبًا، ولم تنتهِ محنتها عند عودتها المؤقتة إلى الشمال خلال الهدنة في التاسع عشر من يناير الماضي، حيث غمرتها لحظات فرح قصيرة لم تلبث أن تبددت مع استئناف “إسرائيل” حربها على غزة بشراسة أكبر، لكن عادت أم تامر مجددًا إلى رحلة النزوح القاسية، برفقة زوجها المسن المقعد وعدد من أفراد عائلتها، تحت القصف والرعب، بلا أي ممتلكات، ليستضيفهم أحد أقاربهم في مركز إيواء.
تصف الحاجة عيسى لـ “نون بوست” رحلة النزوح بأنها قطعة من العذاب، إذ تؤكد أن أسعار المواصلات مرتفعة للغاية، فيما تعيش عائلتها ظروفًا مادية معدومة، فقد كانت تعتمد قبل الحرب على الأجرة اليومية لأبنائها، دون دخل ثابت أو رواتب. وتوضح أن من يملك حسابًا بنكيًا خلال هذه الحرب قد استنزف مصاريفه في شراء الأخشاب والشوادر وأواني المطبخ وتجهيز الحمامات البسيطة للخيام. وتعبّر عن صدمتها قائلة: “تخيلي، في كل مرة لا نكاد نستقر في مكان وننصب خيمة ونجهز حمامًا ونحاول التأقلم، حتى يفاجئنا الاحتلال بأوامر إخلاء ونزوح جديدة”.
في زاوية أخرى من زوايا النزوح القاهر، تجلس الشابة أميرة شلح (29 عامًا) مع أطفالها الأربعة، تبكي زوجها الذي نزح بها وبأبنائها إلى الجنوب خوفًا عليهم من القصف والموت، قبل أن يعود إلى منزله في شمال القطاع حيث ارتقى هناك. لم تتمكن أميرة وأطفالها من رؤية زوجها أو إلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه؛ فقد ارتقى في الشمال وهي تبكيه في الجنوب، ففي الحرب لا وقت للحزن ولا للوداع.
تصف أميرة وجعها العميق بفقدان زوجها وعدم قدرتها على وداعه، وتروي أن سبب نزوحها هو خوفه الشديد عليها وعلى أبنائها مع تصاعد وتيرة القصف واستهداف الأبراج السكنية. وتوضح أن لحظة قصف الاحتلال لبرج مشتهى غرب مدينة غزة، المقابل لمنزلها، كانت أشبه بزلزال دمّر البرج ومحيطه بالكامل، الأمر الذي أجبرهم على الاستدانة لتأمين تكاليف النزوح إلى الجنوب.
وتسرد تفاصيل رحلة النزوح القاسية، إذ ما إن تحاول العائلة الاستقرار في مكان ما حتى يأتي أمر جديد بالإخلاء، لتبدأ المعاناة من الصفر مجددًا، بحمل ما تبقى من ممتلكات جمعت بشق الأنفس، في ظل أوضاع مالية شبه معدومة. تتمنى أميرة أن تنتهي الحرب سريعًا، فهي اليوم تخوض حربًا أخرى بعد فقدان زوجها، تتمثل في تحمل مسؤولية تربية أربعة أطفال وتوفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة لهم، معتبرة أن هذه المعركة اليومية للبقاء لا تقل قسوة عن الحرب ذاتها.
وتصف الحاجة فاطمة سحويل (76 عامًا) من بيت حانون رحلة نزوحها التي تجاوزت خمس عشرة مرة بأنها غاية في الصعوبة، إذ اضطرت إلى السير على قدميها مسافات طويلة، متنقلة بين مناطق عدة، شملت بيت حانون ووسط البلد وجباليا والشاطئ وأصدقاء المريض والنصيرات ورفح وخانيونس والزوايدة وغزة المدينة وغيرها من الأماكن التي لجأت إليها مرارًا بحثًا عن الأمان.
وتوضح الحاجة سحويل لـ “نون بوست” أن النزوح لم يكن وحده العذاب، بل رافقته حالة مجاعة يعيشها الغزيون منذ أشهر، إذ لم تعد أجسادهم قادرة على بذل أي مجهود، ولو بسيطًا، بسبب الهزال وانخفاض ضغط الدم الناجم عن غياب الطعام الصحي، فالمواد الغذائية الأساسية كاللحوم والدواجن والخضار والفواكه ممنوعة من الدخول إلى القطاع منذ ستة أشهر. وتضيف أنها سقطت مغشيًا عليها في أحد الشوارع أثناء النزوح من شدة التعب وسوء التغذية، خاصة وأنها مسنة وتعاني أمراضًا مزمنة لم تتلقَ علاجها لغيابه في غزة.
في السياق ذاته، تروي الشابة سحر المصري (31 عامًا) التي نزحت من مدينة غزة إلى خانيونس جنوبًا، أنها تمكنت من النزوح برفقة عائلة زوجها، فيما بقيت عائلتها في شمال القطاع بانتظار العثور على قطعة أرض تقيم فيها خيامها، وقد أوكلت مهمة البحث عن مأوى لعمها الأصغر إبراهيم المصري، لكنه استُهدف واستُشهد في مدينة دير البلح خلال محاولته تأمين مكان لإيواء العائلة، وهي المنطقة ذاتها التي يوجّه الاحتلال الإسرائيلي المواطنين للنزوح إليها بزعم أنها “إنسانية”.
وتضيف سحر أن عائلتها الممتدة، المكوّنة من أكثر من خمسين فردًا، رفضت النزوح بعد استشهاد عمها، إدراكًا منهم أن الاحتلال يستهدف كل مكان، سواء داخل مدينة غزة أو في المناطق التي يدّعي أنها آمنة للنزوح، فلا وجود لمكان آمن في القطاع.
وتعبّر سحر عن أملها بانتهاء الحرب قبل حلول فصل الشتاء، إذ تخشى أن يفتح هذا الفصل أبواب معاناة جديدة على آلاف العائلات في مخيمات النزوح، خاصة مع تهالك الخيام، واستمرار موجات النزوح منذ الصيف، دون أن يمتلك النازحون أو أطفالهم أدنى مستلزمات وملابس شتوية تقيهم برد الشتاء القارس.
وفي تصريح خاص لـ “نون بوست”، أوضح إسماعيل الثوابتة، مسؤول المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، أن مدينة غزة يقطنها نحو 914 ألفًا و556 نسمة، فيما يبلغ عدد الأبراج والعمارات السكنية متعددة الطوابق قرابة 51 ألفًا و544 مبنى، ما يعني أن استهداف الاحتلال لبرج واحد فقط يعادل تدمير حي سكني كامل وتهجير عشرات العائلات.
وفي الوقت ذاته، يواصل جيش الاحتلال منذ أيام إصدار إنذارات إخلاء متكررة تستهدف المباني والأبراج السكنية، إلى جانب أوامر عاجلة بإخلاء مدينة غزة كليًا والتوجه نحو الجنوب عبر شارع الرشيد الساحلي باستخدام المركبات “دون تفتيش”، تزامنًا مع إعلانه توسيع نطاق “المناورة البرية” ضمن عملية “عربات جدعون 2” التي تهدف إلى احتلال المدينة بالكامل.
من جانبه، أعلن منسق أعمال حكومة الاحتلال عبر حسابه على فيسبوك أن الجيش “ينفذ عملية لحسم حماس داخل مدينة غزة”، مضيفًا: “ابتداءً من هذه اللحظة، وبهدف التسهيل على من يغادر المدينة، نعلن منطقة المواصي في خان يونس منطقة إنسانية، حيث ستُجرى فيها أعمال لتوفير خدمات إنسانية أفضل”، وفق زعمه.
وفي بيان آخر، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي عن توسيع “المناورة البرية” في مدينة غزة ضمن عملية “عربات جدعون 2″، مجددًا تحديده مواصي خان يونس كـ”منطقة إنسانية” وفق ادعاءاته، في الوقت الذي يواصل فيه استهداف النازحين في المناطق التي يوجههم إليها.
وزعم جيش الاحتلال أن “المنطقة الإنسانية تضم بنى تحتية أساسية مثل مستشفيات ميدانية، وخطوط مياه، ومرافق لتحلية المياه، إلى جانب توفير متواصل لمواد غذائية وخيم وأدوية ومواد طبية، يتم إدخالها بتنسيق بين وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية والمجتمع الدولي”.
في المقابل، أفادت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة بأن الحرب المستمرة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى التاسع من سبتمبر/أيلول 2025 خلفت ما تراوح بين 64,600 و65,500 شهيد، وأكثر من 163 إلى 171 ألف جريح، معظمهم من النساء والأطفال، إضافة إلى ما يزيد عن 9 آلاف مفقود.
كما ارتقى ما بين 376 و399 شهيدًا بسبب سوء التغذية، بينهم نحو 140 طفلًا، في ظل استمرار المجازر الإسرائيلية بحق مليوني نسمة في غزة، حيث تُستهدف المربعات والمباني السكنية والمستشفيات وخيام النزوح وحتى طالبي المساعدات في نقاط التوزيع.