ترجمة وتحرير: نون بوست
على مدار السنوات الأربع الماضية، تمثلت وظيفتي في التدقيق في التصريحات الحكومية، إلى جانب الوثائق السياسية والقانونية، ثم تقديم إحاطات لأعضاء البرلمان حول الأساليب اللغوية والمناورات القانونية التي تستخدمها الحكومة القائمة لتبرير تصدير المعدات العسكرية، رغم وجود أدلة تشير إلى أن هذه الصادرات يُحتمل أن تُستخدم في ارتكاب جرائم حرب.
وفي مرحلة معينة، أدركت أن هذه الوثائق والحجج القانونية ليست سوى بيروقراطية الإبادة الجماعية في جوهرها.
ورغم أننا قد شهدنا في الأسابيع الأخيرة تغيرًا في لهجة الخطاب لدى كبار الوزراء البريطانيين بشأن المجاعة والتجويع في غزة، فإن ذلك تزامن مع إنكار متزايد للتواطؤ البريطاني، بما في ذلك من خلال استمرار بيع الأسلحة لإسرائيل.
وفي مقابلة إذاعية على محطة “إل بي سي” خلال صيف هذا العام، قال ديفيد لامي، وزير الخارجية البريطاني السابق، ووزير العدل الحالي: “المملكة المتحدة لا تزوّد إسرائيل بأسلحة يمكن استخدامها في غزة”. ثم سأله المذيع نيك فيراري عمّا إذا كانت المزاعم التي طرحتها حملة مناهضة تجارة الأسلحة، والتي تفيد بأن المملكة المتحدة لا تزال تزوّد إسرائيل بمكونات لطائرة إف-35 المقاتلة، غير صحيحة. فردّ لامي قائلاً: “هذا غير صحيح. غير صحيح. غير صحيح.”
ةبصفتي مديرة الدعوة في حملة مناهضة تجارة الأسلحة، يمكنني أن أؤكد بكل يقين أن موقفنا، وموقف شركائنا ومؤيدينا، ليس خاطئًا بأي حال.
ومن غير المعقول أن يكون لامي، المحامي المتخرّج من جامعة هارفارد، قد نسي الثغرة غير المسبوقة التي أعلنها بنفسه أمام البرلمان في سبتمبر/ أيلول الماضي، والتي تتيح استمرار نقل المكوّنات البريطانية الصنع لطائرات إف-35 المقاتلة إلى شبكة توريد عالمية تصل إليها إسرائيل.
ورغم تعليق عدد محدود من تراخيص تصدير الأسلحة، استمرت المملكة المتحدة في تصدير أكثر المعدات العسكرية فتكاً وقيمة. وقد برّرت ذلك بأسباب مبهمة تتعلق بـ”السلام والأمن الدوليين”، مؤكدة على ضرورة مواصلة تصدير مكونات طائرات إف-35 إلى شبكة التوريد العالمية، وهي خطوة يبدو أنها تهدف بالدرجة الأولى إلى إرضاء الشريك الرئيسي في البرنامج، الولايات المتحدة.
طائرات قاتلة
في مايو/ أيار الماضي، جلستُ في القاعة العامة لحضور أسبوع كامل من جلسات المحكمة العليا، حيث دافع ما لا يقل عن اثني عشر محاميًا عن موقف الحكومة بشأن قضية طائرات إف-35، في مواجهة دعوى قانونية قدّمها شركاؤنا المتميّزون في مؤسسة الحق، وهي منظمة فلسطينية تُعنى بحقوق الإنسان وتقع في الضفة الغربية المحتلة، إلى جانب شبكة العمل القانوني العالمية. ولن أنسى أبدًا الكرامة التي تحلّى بها زملائي من مؤسسة الحق، وهم يشهدون نقاشًا يدور على مدى أسبوع حول حياة شعبهم أمام أعينهم.
ووفقاً لما ورد في موقف الحكومة المقدم إلى المحكمة، فقد تم استثناء طائرات إف-35 رغم “وجود خطر واضح بأن إسرائيل قد ترتكب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني أثناء العمليات العدائية في غزة، بما في ذلك من خلال استخدام طائرات إف-35”.
وتُوصَف طائرة إف-35 بأنها المقاتلة الأكثر فتكًا في العالم، ويُصنَّع نحو 15 بالمائة من كل طائرة منها في المملكة المتحدة. وقد استخدمت إسرائيل هذه الطائرات لإلقاء قنابل تزن 2000 رطل على فلسطينيين نازحين يعيشون في خيام، كما حدث في منطقة المواصي بغزة، حيث قتلت إسرائيل 90 شخصًا في ما يُفترض أنه “منطقة آمنة”.
ويبدو أن التغاضي عن الانتهاكات العسكرية الإسرائيلية أصبح نهجًا معتمداً لدى الحكومة البريطانية. فبينما أقرت بأن إسرائيل قد انتهكت حقوق الفلسطينيين فيما يتعلق بتقديم المساعدات و”معاملة المحتجزين”، صرّحت وزارة الخارجية في سبتمبر/ أيلول 2024 بأنه “لم يكن من الممكن التوصّل إلى حكم حاسم بشأن المزاعم المتعلقة بسلوك إسرائيل في العمليات العدائية”.
وأشارت الحكومة في المحكمة العليا إلى “مخاوف عامة” بشأن سلوك إسرائيل في العمليات القتالية، لكنها امتنعت عن الإقرار ولو بانتهاك “محتمل” واحد للقانون الدولي الإنساني يتعلق باستخدام قنبلة أو شنّ غارة جوية ضد الفلسطينيين تحديدًا.
وبحلول سبتمبر/ أيلول الماضي، كانت وزارة الخارجية البريطانية بقيادة لامي قد قيّمت 413 انتهاكًا محتملاً للقانون الدولي الإنساني ارتكبتها إسرائيل في غزة، وتوصّلت إلى أن “المعلومات المتوفرة غير كافية لاتخاذ قرار” في 411 حالة منها، أي ما يعادل 99.5 بالمائة من إجمالي الحالات. أما الحادثة الوحيدة التي اعتُبرت “انتهاكاً محتملاً” فكانت الضربة التي استهدفت منظمة “وورلد سنترال كيتشن” في أبريل/ نيسان 2024.
وفي غضون ذلك، كشفت قضية مؤسسة الحق أن تقييم الحكومة، حتى سبتمبر/ أيلول 2024، خلص إلى أنه “لا يوجد خطر جسيم بوقوع إبادة جماعية”، وذلك رغم أن فريقًا مشتركًا بين عدد من الدوائر الحكومية كان قد توصّل في يونيو/ حزيران من العام نفسه إلى أنه “من غير المثير للجدل أن السلوك الذي يمكن، من حيث المبدأ، أن يستوفي المكوّن المادي للإبادة الجماعية لا يزال مستمرًا في غزة”.
وما اعتبرته الحكومة مفقودًا هو “النية الإبادة الجماعية” لدى إسرائيل، مشيرة إلى أن “المناطق التي تثير القلق الأكبر فيما يتعلق بالامتثال للقانون الدولي الإنساني لا تتعلق بجعل المدنيين هدفًا للهجوم من قبل إسرائيل”. وبناءً على هذا الأساس المتعمّد في تجاهل الواقع، خلصت الحكومة إلى أن إسرائيل لا تُظهر نية إبادة جماعية.
كيف يمكن لأي شخص أن يتوصّل إلى مثل هذا الاستنتاج بشكل عقلاني، في حين أنه في كل حادثة أو غارة جوية قد تُظهر فعليًا أن إسرائيل تستهدف المدنيين، تقرّرون أنه لا توجد معلومات كافية لتحديد ما إذا كانت تمثّل انتهاكاً؟ إن هذا المنطق ليس فقط عبثيًا وغير عقلاني، بل يُعدّ وصمة في ضمير الإنسانية جمعاء أن ننكر تورّط بلادنا في الإبادة الجماعية المستمرة التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين.
كابوس مستمر
إن القصف والحصار والتجويع والتدمير، لم تكن المجاعة التي تطال شعوبًا بأكملها في اليمن أو غزة نتيجة عرضية لحروب تُستخدم فيها صادرات الأسلحة البريطانية. فمنذ البداية، كان التجويع جزءًا محوريًا من الاستراتيجية، وصادراتنا من الأسلحة متورطة في ذلك بشكل مباشر.
ويُدفع الفلسطينيون الجائعون إلى أقفاص مفتوحة، ويُطلق عليهم الرصاص ويُقتلون وهم يحاولون بيأس تأمين قوت عائلاتهم تحت غطاء ما يُسمّى بـ”المساعدات”، والي صءء$ضضهذا الكابوس المستمر لم يكن ليحدث لولا الحصانة غير المسبوقة التي منحتها الدول الغربية لإسرائيل والولايات المتحدة.
وفي يوليو/ تموز الماضي، وُجّه سؤال صريح إلى لامي حول ما إذا كانت هناك تقييمات حديثة تتعلق بعمليات القتل العشوائي التي استهدفت أشخاصًا جائعين أثناء انتظارهم للحصول على المساعدات. لم يقدّم إجابة مباشرة، واكتفى بالإشارة إلى أن المزيد من التقييمات لانتهاكات محتملة للقانون الدولي الإنساني قد أُجريت. أما وزارة الخارجية، فلم تتناول هذه النقطة عند التواصل معها للحصول على تعليق من قبل موقع “ميدل إيست آي”.
وهكذا، نبقى نتساءل: هل كلّفت وزارة الخارجية نفسها حتى عناء تقييم عمليات قتل الفلسطينيين أثناء انتظارهم للحصول على المساعدات؟ ربما رأت أنه “لا توجد معلومات كافية” لتحديد ما إذا كانت هناك “انتهاكات محتملة”، أو أنها لم تتمكن من تصنيف هذه الانتهاكات ضمن أي فئة؟ هذا هو الكابوس عبثي بيروقراطي الذي يشكّل الأساس لإبادة جماعية تحظى بغطاء رسمي.
بعد أن تواصل موقع “ميدل إيست آي” مع وزارة الخارجية البريطانية للحصول على تعليق، أحالت الوزارة الاستفسارات إلى وزارة الأعمال والتجارة، التي أشارت في بيان إلى أن المملكة المتحدة قد علّقت التراخيص الخاصة بالمواد التي يمكن أن يستخدمها الجيش الإسرائيلي في العمليات العسكرية في غزة – بما في ذلك الصادرات المباشرة لمكونات طائرات إف-35 – وذلك استنادًا إلى تقييم الحكومة البريطانية بأن هذه المواد “قد تُستخدم في ارتكاب أو تسهيل انتهاكات جسيمة” للقانون الدولي الإنساني.
وأضاف البيان: “لا يمكن حالياً تعليق تراخيص مكونات طائرات إف-35 المخصّصة لاستخدام إسرائيل ضمن البرنامج العالمي لطائرات إف-35 دون الإضرار بالبرنامج بأكمله، وهو ما ستكون له تداعيات خطيرة على السلام والأمن الدوليين نظرًا للدور الاستراتيجي المحوري الذي تؤديه هذه الطائرات في الدفاع عن حلف الناتو وحلفاء المملكة المتحدة الآخرين. وقد أيدت المحكمة العليا قرارات الحكومة في هذا الشأن، معتبرة أنها مدروسة ومُتّخذة وفقاً للقانون.”
ولم ترد أي من الوزارتين على الأسئلة الإضافية التي وجّهها موقع “ميدل إيست آي”، بما في ذلك ما يتعلق بمسألة نية إسرائيل في ارتكاب إبادة جماعية.
وعندما يتعلق الأمر ببيع الأسلحة والحفاظ على الهيمنة العسكرية الغربية على الأغلبية العالمية، يبدو أن القانون ينحني لصالح من يملك السلطة. ويجب على المملكة المتحدة، وجميع الشركاء الآخرين في برنامج طائرات إف-35، أستراليا وكندا والدنمارك وإيطاليا وهولندا والنرويج والولايات المتحدة، أن يوقفوا فوراً نقل مكونات وطائرات إف-35 إلى إسرائيل.
وبوصفي شخصًا ينحدر أسلافه من سواحل إيرلندا الغربية شمالاً وجنوبًا، فإن هذه التطورات تُفرغ من معناها “الاعتذار” الذي قدّمته حكومة بريطانية في المجاعة الإيرلندية. ولا تخبروني أنكم تهتمّون بجوعى إيرلندا في الماضي، بينما تزوّدون إسرائيل في الوقت نفسه بالوسائل التي تمكّنها من قصف وتجويع الفلسطينيين بعد قرنين من الزمن.
ونيابةً عن نفسي وأسلافي – وعن كل من ينحدر من إرث المجاعة ويرغب في الوقوف معنا – لن نغفر، ولن ننسى هذا.
المصدر: ميدل إيست آي