استيقظ المصريون الثلاثاء 9 سبتمبر/أيلول 2025 على مقطع فيديو مصوَّر نشرته وكالة الأنباء الإثيوبية (ENA) يتناول حفل افتتاح “سد النهضة” بشكل رسمي، في حضور عدد من الضيوف من بعض البلدان، ما تسبَّب في صدمة كبيرة للشارع المصري الذي كان يؤمِّل نفسه حتى اللحظة الأخيرة أن تنجح الجهود الدبلوماسية ومسار التفاوض في إثناء الإثيوبيين عن هذا المشروع الذي يُعرف مصريًا بـ”سد الخراب”.
القاهرة، وعبر وزارة خارجيتها، أكدت أنها لن تسمح لإثيوبيا بالهيمنة على إدارة الموارد المائية بصورة أحادية بعد تشغيلها سد النهضة بعد 14 عامًا من الإنشاء، لافتةً في بيان لها أنها وجَّهت خطابًا إلى مجلس الأمن الدولي، واصفةً الخطوة بأنها “مخالفة للقانون الدولي”.
فيما أوضح الوزير بدر عبد العاطي أن “محاولات منح السد الإثيوبي غطاءً زائفًا من القبول والشرعية لا تغيِّر من كونه إجراءً أحاديًا مخالفًا للأعراف والقوانين الدولية”، مشدِّدًا على أن أي تصور بأن مصر قد تتنازل عن “مصالحها الوجودية في نهر النيل” هو “محض وهم”.
🔴 #إثيوبيا_تنتصر : لقطات حصرية لرئيس وزراء إثيوبيا وقادة الدول في هذ اليوم العظيم الذي لا يُنسى من افتتاح السد الذي سيُكتب في صفحات التاريخ. 🇪🇹🇪🇹🇪🇹
✊🏽🇪🇹 إثيوبيا تنتصر
🌍🇪🇹 أفريقيا تشرق وتنتصر#النيل_للجميع ✊🏽#الى_الامام_إثيوبيا 🇪🇹🇪🇹🇪🇹 pic.twitter.com/yobt4DokrW— Ethiopia – اثيوبيا (@ArabicEthiopia) September 9, 2025
اللافت هنا أن افتتاح السد جاء متزامنًا مع احتفال “عيد الفلاح” المصري، هذا اليوم الذي يحتفي به المصريون تقديرًا لدور الفلاح في النهضة المصرية وارتباطه التاريخي الممتد عبر آلاف السنين بنهر النيل وإمداداته من المياه، حتى بلغ احترامهم له حدّ التقديس وتقديم القرابين طلبًا لفيضه السنوي.
لقد ألقى السد بظلال ثقيلة من الغموض وعدم اليقين على بلد طالما وُصف بأنه “هبة النيل”، وارتبط تاريخيًا بالزراعة كأحد روافد حضارته الخالدة، إذ أصبحت الموارد المائية المصرية مرتهنةً بقرارات أحادية من جانب إثيوبيا، ما يضع مستقبل الملايين من المصريين على المحك، إذ يمثل القطاع الزراعي عصب الاقتصاد المصري، حيث يساهم بما يقرب من 15% من الناتج المحلي، و20% من الصادرات، ويحتضن 30% تقريبًا من إجمالي قوة العمل المصرية، مما أثار الكثير من التخوفات والتساؤلات حول تداعيات افتتاح سد النهضة على النشاط الزراعي في مصر، فهل يفقد المصريون ريادتهم التاريخية كبلد زراعي؟
افتتاح السد رسميًا.. 12 عامًا من الفشل
نكأ افتتاح السد جراح 12 عامًا من المفاوضات التي خاضتها القاهرة منذ عام 2012 وحتى اليوم دون أي اختراق ملموس ينقل المصريين من دائرة الشك والقلق إلى الاطمئنان، رغم قصائد الحسم والجزم والتأكيد التي أصدرها النظام، الذي أكد أن المساس بنقطة واحدة من مياه المصريين “خط أحمر”.
لم ينجح تعامل النظام المصري مع هذا الملف في تلبية تطلعات المصريين، الذين تابعوا منذ يونيو/حزيران 2013 اجتماع الاتحادية الشهير في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي بسخرية وأمل في آنٍ واحد، قبل أن تأتي النتائج لاحقًا مخيبةً للآمال.
وبدلًا من تثبيت حقوق مصر التاريخية في مياه النيل وضمان حصتها، وقّع النظام في مارس/آذار 2015 على اتفاقية إعلان المبادئ التي منحت إثيوبيا الشرعية والغطاء القانوني لتمضي قُدمًا في مشروعها، وتحصل على التمويل والدعم الدولي اللازمين، وهو ما لم يكن ممكنًا لولا التوقيع المصري.
ورغم أن الملف يُعدّ من أكثر القضايا وجودية بالنسبة لمصر، فإن السلطة التي تسلّمت الحكم بعد 3 يوليو/تموز 2013 لم تُبدِ اهتمامًا جادًا به إلا بعد عام كامل. ومع انتخاب عبد الفتاح السيسي رئيسًا للجمهورية في يونيو/حزيران 2014، بدأت القاهرة في استئناف التفاوض مع أديس أبابا بمشاركة السودان، ثم جرى في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه التوافق على تكليف مكتبين استشاريين لإعداد الدراسات الفنية حول السد.
غير أن التحول الأهم جاء في مارس/آذار 2015 بتوقيع السيسي مع نظيره السوداني السابق عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق هايلي ديسالين في الخرطوم على وثيقة إعلان المبادئ، التي اعتُبرت بمثابة إقرار رسمي مصري بحق إثيوبيا في استكمال بناء السد. ومنذ تلك اللحظة، انتقلت أديس أبابا إلى مرحلة جديدة اتسمت بالتسويف والمماطلة وتجاهل التحذيرات المصرية والإقليمية والدولية.
المفاوض المصري، وفق مراقبين، افتقر إلى الحزم والقدرة على توظيف أوراق الضغط المتاحة، مما أتاح لإثيوبيا أن تُقدِّم مشروع السد كرمز قومي داخلي يُعبِّئ الشارع خلفه باعتباره قضية حياة أو موت. وكان مشهد يونيو/حزيران 2018 داخل قصر الاتحادية في القاهرة دليلًا صارخًا على هشاشة الموقف المصري؛ حين طلب السيسي من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أن يقسم بالله بعدم الإضرار بمصر في ملف المياه، فاستجاب الأخير، واعتبر الإعلام المحلي ذلك نصرًا دبلوماسيًا، قبل أن تعلن إثيوبيا بعد أيام قليلة بدء الملء الأول للسد.
وبعد عقد كامل من المفاوضات الشاقة التي لم تثمر سوى وعود متكررة، وجدت مصر نفسها أمام أزمة مائية متفاقمة انعكست في اضطرار المواطنين إلى التقشف المائي، وتوسيع الاعتماد على مياه الصرف المعالَجة، وتغيير أنماط الزراعة بما يحمله ذلك من تكاليف اقتصادية باهظة.
وعلى مدار ما يزيد على 10 سنوات تبنّى النظام المصري خطابًا ثابتًا يعزف على وتر أنه لا بناء للسد دون اتفاق، وأن الاقتراب من هذه النقطة مغامرة لن تقف القاهرة عندها مكتوفة الأيدي، حتى فوجئ الجميع صبيحة الاحتفال بيوم الفلاح المصري بحفل افتتاح المشروع الأخطر في تاريخ مصر الحديث.
3.1 مليار دولار خسائر سنوية للقطاع الزراعي
تجدر الإشارة ابتداءً إلى أن حصة مصر السنوية من مياه النيل لا تتجاوز 55.5 مليار متر مكعب، وهي بطبيعة الحال لا تلبي الاحتياجات المنزلية والزراعية والصناعية، ما خلق فجوة مائية تُقدَّر بأكثر من 20 مليار متر مكعب سنويًا، يتم تعويضها عبر وسائل أخرى مثل تحلية المياه وإعادة استخدام مياه الصرف بعد معالجتها والمياه الجوفية.
وتمثل مياه النيل قرابة 90% من احتياجات مصر المائية، ومن ثم فإن أي خلل أو نقص في تلك الكميات سيكون له تأثير مباشر على كافة الأنشطة البشرية، وعلى رأسها الزراعة، كون المياه عصبها الأساسي ورافدها الأول الذي تتأثر به إيجابًا وسلبًا.
قبل أربعة أعوام خرجت بعض الدراسات التي تحذر من التداعيات المحتملة لسد النهضة على الزراعة المصرية، من بينها انخفاض الإنتاج الكلي لأهم سلعتين استراتيجيتين في مصر: القمح من نحو 9.6 مليون طن إلى 6.7 مليون طن سنويًا، أي أن انخفاض إنتاج القمح سيصل إلى 2.9 مليون طن سنويًا خلال فترة الملء، بجانب الأرز من 5.5 مليون طن إلى 3.8 مليون طن سنويًا بانخفاض قدره 1.7 مليون طن كل عام.
وتوقعت تلك الدراسات أن تصل قيمة الخسائر في مجمل المحاصيل الحقلية خلال فترة ملء السد إلى نحو 28 مليار جنيه سنويًا، فيما تصل في المحاصيل المعمِّرة إلى نحو 3.6 مليار جنيه سنويًا، وفي محاصيل الخضر إلى نحو 6.1 مليار جنيه سنويًا، وفي محاصيل الفاكهة إلى نحو 6.1 مليار جنيه سنويًا. وبالتالي فإن إجمالي خسائر الإنتاج النباتي سيصل إلى نحو 43.8 مليار جنيه سنويًا خلال فترة الملء (الدولار يساوي 48 جنيهًا).
الخسائر لم تقتصر على النشاط الزراعي فحسب، بل امتدت للإنتاج الحيواني والسمكي، حيث توقعت الدراسات خسائر بقيمة 9.8 مليار جنيه سنويًا، كما قُدِّرت خسائر التجارة الخارجية نتيجة زيادة الواردات ونقص الصادرات بنحو 97.8 مليار جنيه سنويًا. وبهذا يبلغ إجمالي الخسائر المصرية المباشرة في الزراعة فقط نحو 151 مليار جنيه (3.1 مليار دولار) سنويًا خلال فترة الملء.
إعادة تشكيل الدورة الزراعية
اضطرت الحكومة المصرية، مدفوعةً بتداعيات سد النهضة المحتملة، إلى إعادة النظر في الدورات الزراعية وخارطة المحاصيل وفق التطورات الجديدة. تلك الخارطة حاولت من خلالها تقليل الاعتماد على المزروعات ذات الاستهلاك العالي للمياه واستبدالها بالأقل استهلاكًا، بصرف النظر عن القيمة الاستراتيجية لتلك المحاصيل وتأثيرها على منظومة الأمن الغذائي المصري.
الأرز.. يُعد الأرز من أكثر المحاصيل استهلاكًا للمياه، إذ تشير تقديرات إلى استهلاكه نحو 6–7 آلاف متر مكعب للفدان في الموسم، ما يعني صعوبة وربما استحالة الإبقاء عليه بالمساحات نفسها المزروعة، رغم أنه أحد المحاصيل التي يعتمد عليها المواطن المصري في بنائه الغذائي.
وتبنت وزارة الزراعة المصرية خلال العام الماضي استراتيجية هدفت إلى تقليص مساحات الأرز المزروعة بنحو 25% خلال الموسم الحالي، لتوفير استهلاك المياه، خاصة أن المحصول من الزراعات الشرهة للمياه، حسب مسؤول مطلع على ملف واردات الحبوب بالوزارة لموقع “المنصة” المصري.
وأشار المصدر إلى أن الوزارة ستخفض المساحة المنزرعة من الأرز من مليون و74 ألف فدان في الموسم الماضي، إلى نحو 800 ألف فدان في الموسم الحالي، مبينًا أن إنتاج المساحات المزروعة حاليًا يغطي احتياجات كل أنحاء الجمهورية ويزيد.
وتشير الأرقام إلى تراجع المساحة المخصصة لزراعة الأرز خلال السنوات الأخيرة، حيث انخفضت من 1.3 مليون فدان عام 2018/2019 إلى 1.1 مليون فدان عام 2020/2021، إلى 1.07 مليون فدان عام 2021/2022، وهي نفس المساحة تقريبًا عام 2022/2023.
وانعكس هذا التأثير بطبيعة الحال على حجم الواردات المصرية من الأرز، حيث تراجعت بنحو 88% خلال الربع الأول من 2024، لتصل إلى 416 طنًا فقط، مقابل 3425 طنًا في الفترة نفسها من عام 2023، حسب وثيقة حكومية صادرة عن وزارة الزراعة.
القمح.. يمثل القمح شريان الأمن الغذائي المصري، ورغم أنه لا يستهلك كميات كبيرة من المياه، إلا أنه لن يكون بمعزل عن تداعيات سد النهضة، إذ من المتوقع أن يُعاد النظر في مساحات زراعته مع إدخال أصناف أخرى مثل الشعير، في محاولة لتقليل أكبر قدر ممكن من المياه المستخدمة.
هناك أيضًا قصب السكر الذي، رغم قيمته الاقتصادية العالية، يُدرج ضمن المحاصيل ذات الطلب المائي المرتفع (10 آلاف متر مكعب من المياه للفدان). وعليه، هناك توجه عام لاستبدال حصة كبيرة منه ببنجر السكر أو محاصيل أخرى أقل استهلاكًا للمياه، خاصة في الوجه القبلي.
وعلى المقابل، من المتوقع التوسع في زراعة المحاصيل التصديرية الأقل استهلاكًا للمياه والتي تتحمل الجفاف، مثل الزيتون والرمان والموالح بصفة عامة، خصوصًا في المناطق الصحراوية والمتحولة إلى زراعة معتمدة على الآبار والجيولوجيا الملائمة.
لم تقف ارتدادات سد النهضة عند خطوط المحاصيل والدورة الزراعية فحسب، بل تتجاوز ذلك نحو حزم ممتدة من التداعيات الاقتصادية والاجتماعية، أبرزها ارتفاع تكاليف الإنتاج، إذ ستكون الحكومة المصرية مجبرة على تبني استراتيجيات الري الحديث عبر التنقيط، متخليةً عن سياسة الري بالغمر.
غير أن هذا التحول الذي يستهدف تقليص كميات المياه المستخدمة في الزراعة سيتطلب بنية تحتية تحتاج إلى استثمارات باهظة وتدريب ودعم لصغار المزارعين المتأثرين بهذا الارتباك في خارطة الزراعة، وهو ما سيكون له أثره في الكلفة النهائية التي سيتحملها المواطن بطبيعة الحال.
وفي ذات السياق، فإن التوجه نحو ترشيد المساحات المزروعة بالمحاصيل اللوجستية كالأرز والقمح والقصب سيخفض بطبيعة الحال الإنتاج المحلي، وعليه ستزيد فاتورة استيراد الغذاء من الخارج، وهو ما سيثقل كاهل متوسطي ومحدودي الدخل بزيادات في أسعار السلع تفوق قدراتهم المُنهكة.
فقدان ثلث مساحة الأراضي الزراعية
تبلغ المساحة المزروعة حوالي 8.6 ملايين فدان، أي ما يمثل 3% من إجمالي مساحة مصر، وهي النسبة التي لا تتناسب بطبيعة الحال مع عدد السكان المتزايد الذي تجاوز 116 مليون نسمة (108 ملايين في الداخل و8 ملايين في الخارج)، ومن ثم فإن أي خلل في تلك المساحة سيزيد من تفاقم الأزمة.
في دراسة حديثة لباحثين بجامعة “تكساس إيه آند إم” الأميركية، نُشرت في دورية “Journal of Hydrology”، حذّروا من أن سد النهضة قد يتسبب في فقدان مصر لثلث مساحتها الزراعية سنويًا خلال سنوات الجفاف، لافتين إلى أن القاهرة والخرطوم لم تشعر حتى هذه اللحظة بتأثيرات كبيرة للسد الإثيوبي، وذلك نتيجة الهطول الغزير للأمطار الناجم عن التغيرات المناخية في منطقة حوض النيل، مما أسهم في تعويض كميات المياه التي حجزها السد حتى الآن.
واستند الباحثون الذين أعدوا تلك الدراسة بقيادة الأستاذ بمركز دراسات إمدادات المياه بقسم العلوم الفيزيائية والبيئية بجامعة “تكساس إيه آند إم”، محمد أحمد، في تحذيراتهم إلى 8 أنواع من البيانات المعتمدة على تقنيات الاستشعار عن بعد، لتقييم تأثيرات عملية ملء خزان السد على الموارد المائية في إثيوبيا والسودان ومصر خلال الفترة بين 2013 و2022، مع التركيز على تحليل التغيرات المكانية والزمنية في مساحة السطح وحجم المياه وكميات الأمطار والتخزين المائي لـ5 خزانات رئيسية، تشمل سد النهضة في إثيوبيا، وسدود الروصيرص ومروي في السودان، وبحيرة ناصر وتوشكى في مصر.
ورغم أن البعض يصف تلك التحذيرات بالمبالغ فيها، إلا أنها تدق جرس إنذار بصوت عال، وترسم صورة واضحة لما يمكن أن يُحدثه السد الإثيوبي على مساحة الأراضي الزراعية المصرية، التي تبذل الدولة جهودًا مضنية لزيادة رقعتها.
البدائل المطروحة.. ترميم مؤقت لا يعالج الأزمة
أمام هذا المشهد الصعب، لجأت الحكومة المصرية إلى بعض البدائل الأقرب للمسكنات، لكنها لا تعالج جذور الأزمة ولا توفر حلولا دائمة، منها التوسع في مشروعات تحلية مياه البحر، ما قد يخفف الضغط عن المياه العذبة، لكن تكاليفها ومنطق توزيعها على الزراعة مقابل الشرب تمثل تحديًا اقتصاديًا وسياسيًا.
كذلك معالجة وإعادة استخدام مياه الصرف الزراعي، مثل مشاريع بحر البقر ومحطات المعالجة الكبرى، والتي تهدف إلى استرجاع كميات معتبرة للاستخدام الزراعي والصناعي، تُعدّ استراتيجية عملية للتخفيف من نقص مياه النيل، رغم التحفظات البيئية والصحية بشأن هذا الخيار.
وفي ذات المسار، اضطرت الدولة للتوسع في مشروعات المياه الجوفية لتلبية احتياجات المشروعات الزراعية الجديدة، إلا أن المضي قدمًا في هذا الاتجاه سيستنزف المنسوب الجوفي المتواضع بطبيعة الحال ويهدد صلاحية التربة إذا ما ارتفع منسوب الملوحة في المياه.
وبالتوازي مع ذلك، لجأت الحكومة لتدشين بعض القوانين التي تستهدف ترشيد الاستهلاك من المياه قدر الإمكان، منها قانون تنظيم مياه الشرب والصرف الصحي، الذي وافق عليه مجلس النواب بشكل نهائي خلال الجلسة العامة للمجلس التي عقدت الاثنين 26 مايو/أيار الجاري.
القراءة المتأنية للمشروع بعد الانتهاء من دراسته برلمانيًا أثارت الكثير من الجدل والمخاوف معًا، في ضوء ما يتضمنه من بنود يعتبرها البعض كارثية، كونها تكرس لسياسات انتهاكية واضحة، تفرض طوقًا مشددًا على ألسنة المصريين، وتحول دون التعبير عن أرائهم في مستوى جودة ونظافة ووفرة المياه، وتضع مصالح محدودي ومتوسطي الدخل في مهب الريح في ظل شرعنة الخصخصة في هذا المرفق الحيوي.
لا يمكن قراءة قانون المياه الحالي وما به من ثغرات وانتقادات بمعزل عن تطورات ملف سد النهضة، فهو الحاضنة الأم الذي تحتضن بداخله كل تلك التحركات من قوانين وإجراءات وممارسات وتقييد ومشروعات تصب في النهاية نحو التعامل مع الوضع كأمر واقع، والبحث عن بدائل مقبولة وسريعة للتعاطي مع الارتدادات الكارثية لهذا المشروع الإثيوبي.
في الأخير، لا يمكن التعامل مع تدشين سد النهضة الإثيوبي رسميًا كحدث عابر يُرد عليه بثورة بيانات شعبوية وتهديدات ثبت هشاشتها، بل هو لحظة فاصلة في التاريخ المائي لمصر، إذ يكرّس واقعًا جديدًا يجعل حياة ملايين المصريين وقطاعهم الزراعي ــ العمود الفقري للاقتصاد الوطني ــ رهينة لإرادة طرف خارجي.
ورغم كل ما تبنته الدولة من بدائل كتقليص الدورات الزراعية، والتوسع في تحلية المياه ومعالجة الصرف وتدشين قوانين مُلزمة، فإن هذه الخطوات تبقى حلولًا مؤقتة أشبه بالمسكنات، لا تعالج جذور الأزمة ولا توفر ضمانات طويلة الأمد للأمن المائي والغذائي.