ترجمة وتحرير: نون بوست
بقصفها عاصمة قطر للمرة الأولى وقتل ستة أشخاص، أكدت إسرائيل أن السيادة العربية لا توفر أي حماية، بينما تغض واشنطن الطرف عن هذا التصعيد الصارخ
هجوم إسرائيل على الدوحة ليس تصعيدًا عاديًا؛ إنه صاعقة تهز كل قصر، وكل وزارة، وكل شارع في العالم العربي، فلم يكن هجومًا على حماس، ولا على غزة، بل على الفكرة نفسها بأن أي عاصمة عربية آمنة.
في غضون أسابيع، قصفت إسرائيل غزة، والضفة الغربية، وسوريا، ولبنان، واليمن، وإيران، وفي العام الماضي قصفت العراق أيضًا، واستهدفت قبل يومين سفينتين من أسطول صمود في تونس.
وخلال ساعات، أرسلت طائرات حربية إلى الدوحة، وتواصل احتلال ممر فيلادلفيا متحدية مصر، فيما تجوب طائراتها المسيرة وصواريخها سماء العرب كأسياد على الهواء المحتل.
إسرائيل ليست في حرب مع حركة واحدة أو شريط أرض واحد، بل مع المنطقة بأكملها؛ فلا سيادة معترف بها، ولا حدود محترمة.
ومع ذلك، لم يتوقف نتنياهو، فأمر بقصف فريق تفاوض حماس في الدوحة، رغم جهود قطر للتوسط في محادثات وقف إطلاق النار إلى جانب مصر.
وأسفر الهجوم عن مقتل ستة أشخاص، بينهم ضابط قطري، لتكون هذه المرة الأولى التي تضرب فيها إسرائيل التراب القطري؛ فالدوحة ليست عاصمة عادية؛ فهي تحتضن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط، وتحظى بوضع “حليف رئيسي غير عضو في الناتو” لدى واشنطن، وقد ضخّت مليارات الدولارات في الخزائن الأمريكية، ومع ذلك، لم يكن لذلك أي تأثير.
في يوم واحد، قصفت إسرائيل دولة خليجية في قلب الجزيرة العربية ودولة شمال إفريقية عبر البحر الأبيض المتوسط؛ قارتان، ودولتان عربيتان، وآلاف الأميال بينهما، والرسالة واضحة بلا لبس، مكتوبة بالنار والشظايا: لا أحد بمنأى.
إسرائيل تؤسس نظامًا جديدًا: كل أرض عربية، ومياهها، وسمائها أهداف مشروعة إذا أرادت ذلك، فالقانون الدولي أصبح رمادًا، والقوة الغاشمة هي القانون الوحيد.
الرسالة وصلت
وأكد أمير أوهانا، رئيس الكنيست الإسرائيلي، بعد هجوم الدوحة: “هذه رسالة إلى كل الشرق الأوسط”، ونشرها باللغة العربية لضمان أن يكون الإذلال مباشرًا وواضحًا.
وقال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إنه ملتزم بالكامل برؤية التوسع لـ “إسرائيل الكبرى“، التي تشمل أجزاء من فلسطين وعدة دول عربية.
وتكتفي واشنطن بالموافقة الصامتة، فقبل أشهر، وقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الدوحة متفاخرًا باتفاق بقيمة 1.2 تريليون دولار، مستلمًا الهدايا والامتيازات، حتى طائرة خاصة بقيمة 400 مليون دولار، وصفها بـ”قصر في السماء”.
وكانت الدوحة قد توسطت للتو في اتفاق الكونغو–رواندا برعايته في البيت الأبيض. ومع ذلك، عندما أمر نتنياهو بالهجوم، منح ترامب الضوء الأخضر، وتبع ذلك مكالمة اعتذار شكلية.
وتبع الهجوم إدانات دولية سريعة؛ فقد وصفت روسيا الحادث بأنه “انتهاك صارخ” للقانون الدولي، واتهَمَت تركيا إسرائيل بتبني الإرهاب كسياسة دولة، وأدانت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية الهجوم باعتباره تهديدًا للاستقرار الإقليمي.
ويتجلى في هذا العجوم صدق المقولة الشهيرة للرئيس المصري المخلوع حسني مبارك: “من تحميهم أمريكا يُتركون مكشوفين وعراة”.
وعاد ترامب إلى واشنطن غارقًا في ثروات الحكام الخليجيين، لكن الغنائم لم تشترِ أي ضبط للنفس. ففي غزة؛ تعمقت الإبادة وانتشر الجوع بشكل واسع، وفي الضفة الغربية أحرق المستوطنون القرى تحت حماية الجيش، واقتحم الجنود جنين ونابلس والخليل دون محاسبة.
إسرائيل تجمع أموال العرب بيد، وتحرق أرضهم باليد الأخرى.. تقوم بنهب ثرواتهم وإطلاق الطائرات الحربية عليهم؛ هذا هو النظام الجديد.
المفاوضون المستهدفون بالقصف
وتتعمق السخرية أكثر، فالرجال الذين قُصفوا في الدوحة لم يكونوا مقاتلين، بل مفاوضين؛ أي ممثلين حضروا بناءً على طلب واشنطن لاستضافتهم قطر.
تمامًا كما استضافت قطر طالبان سابقًا بطلب أمريكي، استضافت قادة حماس لضمان استمرار الحوار. ومع ذلك، قصفت إسرائيل عاصمتها تحت غطاء أمريكي. وإذا لم تكن قطر، بقاعدتها العسكرية وهداياها وثرواتها، بمنأى، فمن سيكون؟
وعندما فشلت محاولة الاغتيال، لم تتردد أمريكا في التراجع، وغسل يديها، وترك إسرائيل تتحمل العبء وحدها.
أعلن السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة بصراحة: “أحيانًا نُبلغ الإدارة الأمريكية وأحيانًا لا نفعل. لكن في النهاية، نحن وحدنا من يتحمل مسؤولية هذه العملية.”
هكذا، تجني واشنطن الفوائد عندما تنجح إسرائيل، وتنكر الفشل عندما تتعثر؛ فالذئب ومديره يعرفان أدوارهما جيدًا.
كما اعترف المبعوث الأمريكي الخاص توم باراك ذات مرة: بالنسبة لإسرائيل، “خطوط سايكس-بيكو بلا معنى. سيذهبون حيث يريدون، متى يريدون، ويفعلون ما يريدون.”
الكشف عن المخطط
هذه العقيدة القائمة على الإفلات من العقاب ليست طارئة، بل تتبع المخطط المعروف بخطة ينون عام 1982.
نُشرت الخطة على يد أوديد ينون في مجلة “كيفونيم” وترجمها الإسرائيلي الراحل إسرائيل شاحاك، ودعت إلى تفتيت الدول العربية إلى دويلات طائفية: فالعراق يتجزأ إلى كيانات سنية وشيعية وكردية، وسوريا تنقسم إلى أملاك علوية ودرزية وسنية، ومصر تُضعف إلى حد يسمح بإعادة احتلال سيناء، والفلسطينيون يُنقلون عبر نهر الأردن.
وتعاود هذه الرؤية الظهور في الخطاب الإسرائيلي اليوم.
وفي مقابلة، توقع السياسي الإسرائيلي آفي ليبكين، مؤسس حزب “الكتلة اليهودية للكتاب المقدس”، أن تمتد حدود إسرائيل “من لبنان إلى السعودية”، والتي وصفها بـ”الصحراء الكبرى”، و”من البحر المتوسط إلى الفرات”.
وأضاف: “ومن على الضفة الأخرى للفرات؟ الأكراد، وهم أصدقاء. لدينا البحر المتوسط خلفنا والأكراد أمامنا… لبنان، الذي يحتاج حقًا إلى مظلة حماية إسرائيل، ثم سنأخذ – على ما أعتقد – مكة والمدينة وجبل سيناء، ونطهر تلك الأماكن.”
الكتّاب الصهاينة يتخيلون علنًا حدود إسرائيل تمتد إلى مكة والمدينة، وكتب مثل “العودة إلى مكة” تعرض مخططات كتابية للغزو.
الهدف النهائي كان دائمًا واضحًا: تفتيت القوة العربية إلى شظايا لتتمكن إسرائيل من الهيمنة الكاملة. انظر حولك: سوريا مُقسمة إلى شظايا، والعراق مُجزأ، واليمن محطم، وغزة محاصرة، ولبنان ينزف؛ إن خريطة ينون أصبحت واقعنا الحالي.
تواطؤ العرب
وتتحمل الأنظمة العربية مسؤولية كبيرة في تمكين هذا المشروع التوسعي والمتفوق، فخلال عقود تلو للعقود؛ تخلوا عن كرامتهم تحت وهم أن الاسترضاء سيحقق الأمن: كامب ديفيد، واتفاقيات أوسلو، ووادي عربة، واتفاقيات أبراهام.
في كل مرة، ظنوا أنهم يستطيعون شراء الحماية بأن يصبحوا المفضلين لدى واشنطن أو “شركاء” إسرائيل، وفي كل مرة، جنت إسرائيل القائدة من هذه التنازلات وعادت للمطالبة بالمزيد.
مصر هي المثال الأوضح: فبينما يصدر مسؤولون مصريون إدانات شكلية للإبادة في غزةو يتصاعد حجم تجارة مصر مع إسرائيل؛ فقد تضاعفت صادرات مصر إلى إسرائيل في 2024، وزادت بنسبة 50 بالمئة إضافية في النصف الأول من 2025، وتتفاوض القاهرة على صفقة غاز بقيمة 35 مليار دولار مع إسرائيل – الأكبر في تاريخها – في وقت انسحب فيه صندوق الثروة السيادي النرويجي من الشركات الإسرائيلية بسبب جرائم الحرب.
والأسوأ من ذلك، أن نتنياهو يستخدم هذه الصفقات الآن كورقة ضغط على مصر، موقفًا تنفيذها لانتزاع تنازلات سياسية. وما يتجاوز التجارة، فإن الأنظمة العربية تمكّن إسرائيل من السيطرة على سمائها.
عندما اندلعت الحرب في أوكرانيا، أغلقت أوروبا مجالها الجوي أمام كل الطائرات الروسية؛ مدنية وتجارية وخاصة. وفعل الأمريكيون الشيء نفسه، وردت روسيا بالمثل، ورغم أنه لم يقطع أحد العلاقات الدبلوماسية، لكن السماء أُغلقت.
ومع ذلك، لم يجرؤ الحكام العرب والمسلمون على اتخاذ هذه الخطوة البسيطة حتى الآن. فلا تزال الرحلات التجارية الإسرائيلية تعبر الأجواء السعودية والعمانية والأردنية، مختصرة مساراتها إلى آسيا، بينما تقصف الطائرات الإسرائيلية غزة والآن الدوحة، وتحافظ تركيا أيضًا تحافظ على سمائها مفتوحة.
الرسالة واضحة: تواطؤ؛ والنتيجة: شلل وخيانة.
لا يتوقع أحد أن تعلن الدول العربية الحرب على إسرائيل، لكنها على الأقل يمكن أن تفرض عقوبات، أو مقاطعات، أو إغلاق أجوائها، أو تجميد التجارة. بدلًا من ذلك، تسجن المحتجين، وتُحظر المظاهرات، ويُقمع التضامن، ويُفرض الشلل داخل البلاد، بينما تتجول إسرائيل بحرية في الخارج؛ هذه ليست وصفة للاستقرار، بل للانهيار.
ومع ذلك، لن يدوم الصمت إلى الأبد، فالشعب العربي يراقب، ويرى الفلسطينيين يتحملون القصف والجوع، ويشهد تصاعد التضامن العالمي من لندن إلى كيب تاون، ومن جاكارتا إلى نيويورك. ويتساءل: لماذا لا يفعل حكامنا شيئًا؟
هذا الإلهام سينفجر في الشوارع والبحار والسماء، ولا يزال أمام الأنظمة وقت للاختيار: للتخلي عن وهم أن التطبيع مع إسرائيل الفاشية التوسعية سينقذهم، وبناء الدفاع الجماعي مع الحلفاء بدلًا من ذلك.
وإذا لم تعترف الدول العربية بإسرائيل – وليس إيران أو أي طرف آخر – كتهديد أساسي لبقائها، فستظل مكشوفة ومذلولة.
إن وعد الحماية الأمريكية أصبح في خبر كان، فلعقود؛ اعتقد حكام الخليج أن النفط والقواعد والاستثمارات يمكن أن تشتري الأمن، لكن ترامب ونتنياهو مزقا هذا الوهم، لتصبح الولايات المتحدة وإسرائيل في الشرق الأوسط اليوم كيانًا واحدًا؛ الراعي والمنفذ.
ومعًا، بعثا بالرسالة الوحيدة التي تهم: لا أحد بأمان؛ لا غزة، لا الدوحة، ولا تونس.
وإذا لم تستيقظ المنطقة، فلن تُستثنى حتى مكة والمدينة.
المصدر: ميدل إيست آي