في الحروب الكبرى لا يُهدم الحجر وحده، بل تُهدم معه البُنى الخفية التي نسجها الإنسان حول ذاته: طبقته، مكانته، وإحساسه بجدوى العُمر الذي مضى في السعي.
في غزّة، لم تعد الحرب مجرّد مشهد من الركام، بل تحوّلت إلى مرآة قاسية تكشف هشاشة الإنسان حين يُجرَّد من كلّ ما اعتقد أنّه ثابت، نساءٌ حملن شهادات مرموقة، واعتلين مقاعد التدريس والوظائف الرفيعة، وجدن أنفسهنّ فجأة في خيمة عارية من كلّ امتياز. هنا لم يعد السؤال: ماذا خسرنا من ممتلكات؟ بل: ماذا خسرنا من صورتنا عن أنفسنا؟
إنّها المفارقة التي تصوغها الحرب بلا رحمة: أن يتحوّل النجاح الاجتماعي إلى حكاية قديمة تُروى على أطراف نار في المخيّم، وأن تُمحى المسافة بين مَن اجتهدن طويلًا ومَن حُرمن من الفرص، في لحظة قسرية تعيد الجميع إلى نقطة العدم. وفي هذه المسافة الفاصلة بين البيت والخيمة، تولد معاناة لا تُقاس بالدمار الماديّ وحده، بل بجرح الكرامة، ذلك الجرح الذي يظلّ عصيًا على الالتئام.
قبل الحرب الأخيرة، كانت غزّة تحتضن شريحة من النساء اللواتي صنعن لأنفسهنّ حياةً مستقرةً، رغم الحصار. سميّة وادي (33 عامًا)، مدرسة لغة عربية وشاعرة، تُمثّل هذه الشريحة. كانت تجمع بين التدريس وإبداعها الشعري في مساحة من الاستقرار والسكينة التي منحها منزلها وبيئتها التعليمية.
وتماثلها هناء أبو حمادة (33 عامًا)، محاضِرة جامعية، كانت تستيقظ صباحًا لتلتحق بعملها، وتحمل أوراقها إلى قاعات المحاضرات المزدحمة بالطلاب. حياتها كانت مزيجًا من البحث الأكاديمي، اللقاءات الاجتماعية، وإدارة شؤون البيت بطمأنينة نسبيّة.
أمّا إيمان حمودة (40 عامًا)، فهي محامية بارزة، كانت تتنقّل بين مكتبها وقاعات المحاكم بسيارتها الخاصة، بينما يحيط بها بيت أنيق ومساحة للاستقرار العائلي. كانت حياتها منظّمة بدقّة، وتمنحها شعورًا بالثقة والنجاح.
كلّ هذه الملامح كانت خلقت مساحة صغيرة من التوازن والجمال، لكنّ هذه الطبقة انهارت فجأة تحت وقع الحرب، لتُعيد الجميع إلى نقطة الصفر، إذ تشير الإحصائيات الرسمية الصادرة عن وزارة شؤون المرأة والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى أنّ أكثر من 28 ألف امرأة عاملة بأجر فقدن وظائفهن في غزة، إضافة إلى ما يزيد عن 4 آلاف من صاحبات المشاريع والعاملات لحسابهن الخاص، أي ما مجموعه نحو 32 ألف امرأة انقطعت مصادر دخلهن خلال أشهر قليلة فقط.
شهادات من قلب الخيمة
في خيام النزوح، امتدّ الدمار ليشمل حياة الناس اليومية وأبسط تفاصيلهم. التجارب الشخصية للنساء الثلاث تكشف عمق هذا التحوّل.
ترى وادي أن فقدان منزلها لم يكن مجرّد خسارة للجدران والسقف، بل سرقة للإحساس بالثبات النفسي الذي يُفضي إلى الكتابة والإبداع، فتقول: “كانت الصورة معلمة وطالبات وقلم، واليوم كلّ شيء أصبح بحثًا عن مقومات الحياة الإنسانية. النزوح أعاد صياغة صورتي عن نفسي؛ أنا التي كنتُ أُحضّر درسًا في الصباح، وأقف بين الطلاب بثقة، أصبحتُ أقف بين الباعة أساوم على ثمن رغيف خبز أو قطعة صابون بلا رغوة. ربّما ضعفت جسديًا وأصبحتُ أقوى روحًا، وأكثر وعيًا بأنّ الإنسان بيتٌ قبل أن يكون له بيت”.
تُضيف أبو حمادة صدى تجربتها: “أشعر بأنّ هذه الحرب قلبت كلّ المعايير. أصبحتُ أقضي وقتي في مهام لم أتخيّلها يومًا: إيقاد النار لإعداد كوب شاي، غسل الملابس على اليدين، وإعداد الخبز لعشرات الأفراد. خسرتُ عملي، واخترتُ البقاء في البيت تحت وطأة القصف والخوف، ولم أكن أتخيّل أن أنسى زر تشغيل الغسالة أو أن تتحوّل ثلاجتي إلى مجرّد ديكور بلا فائدة”.
أمّا حمودة، فتُصوّر رحلة الانتقال من المكتب الفخم إلى الخيمة: “أصعب ما يوجعني ليس فقط خسارة البيت أو المكتب، بل ذلك السؤال الذي تطرحه عليّ ابنتي: لماذا لم يعد لدينا بيت؟ كنتُ محامية قوية وأثق بخطواتي، واليوم كلّ همّي تأمين وجبة ساخنة ومساحة آمنة للأطفال”.
هذه القصص ليست مجرّد سرد للمعاناة اليومية، بل كشف لتحوّل الهويّة الاجتماعية والمكانة الشخصية، فالنساء اللواتي كنّ يشغلن وظائف مرموقة يجدن أنفسهنّ فجأة في خيمة بلا خصوصية، ولا مساحة لإثبات الذات، ولا أيّ امتياز.
هذه الشهادات الفردية تتقاطع مع ما أعلنته وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، التي أوضحت أن أكثر من 12 ألف معلمة وأكاديمية توقفن عن العمل بفعل تدمير المدارس والجامعات، لتتحول النساء المتعلمات فجأة إلى عاطلات قسريًا في خيام النزوح.
الانكسار الطبقي القسري
الحرب لم تدمّر البيوت فحسب، بل دمّرت صورة الإنسان عن ذاته، وألغت الفوارق الطبقيّة التي كانت تُشكّل جزءًا من النسيج الاجتماعي. تلاحظ وادي: “كلّ يوم هو امتحان للبقاء، والكرامة أصبحت شعورًا داخليًا يتطلّب قوّة مضاعفة. أحلم بمكان صغير هادئ يحميني من فوضى الحرب، حيث أستطيع الكتابة واستعادة خيوط نفسي الممزّقة. الكتابة هي السلاح الوحيد لمقاومة العدم”.
وتُضيف حمادة: “الحرب انتزعت كلّ عاداتنا البسيطة وحقوقنا الآدميّة، وأجبرتنا على معايشة ظروف قاهرة وأحلام منسيّة بدّدها سقف الخيمة. أشعر أنّي أُقاتل لاستعادة شعور بسيط بالهويّة والكرامة”.
أمّا حمودة، فتقول: “كلّ ما كنتُ أعتقد أنّه يُميّزني اختفى، لم أعد أعلم ماذا يعني النجاح أو المكانة في عالم لا يرحم. أتعلم أنّ الكرامة اليوم ليست امتيازًا ماديًا أو منصبًا، بل شعورًا داخليًا نصنعه في البقاء والصمود”.
الحرب لم تُلغِ فقط الفوارق الطبقية التي ميزت المجتمع الغزي، بل أعادت صياغة مفهوم الكرامة ذاته، حيث تؤكد هذه التجارب الشخصية المريرة تقارير الأمم المتحدة التي تحدثت أنّ نحو 95% من المشاريع التي تشغّل النساء في غزة أُغلقت بالكامل، فيما دُمّر ما يقارب 18% من المشاريع المنزلية المملوكة لهن. وحتى القطاع القانوني لم يسلم، إذ أشارت نقابة المحامين إلى أنّ أكثر من 70% من مكاتب المحاماة توقفت كليًا عن العمل، وهو ما يعني ضياع سنوات طويلة من الجهد والنجاح في لحظة واحدة.
البُعد النفسي والاجتماعي
الأخصائيّة النفسيّة أ. هدى اليازجي من منظمة “أطباء بلا حدود” تقول: “هذا الانكسار سيترك أثرًا طويل المدى، قد يخلق شعورًا مؤقّتًا بالمساواة، لكنه على حساب جرح عميق في الثقة بالنفس والكرامة. النساء اللواتي فقدن كلّ شيء يحملن تجربة صادمة قد تُعيد صياغة علاقتهنّ بالعمل والمجتمع والتعليم مستقبلاً”.
ويكفي أن نذكر ما ورد في تقارير صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA) عن تأثر أكثر من 43 ألف امرأة حامل بشكل مباشر بفقدان الأمان الصحي والنزوح، لفهم عمق الكارثة الاجتماعية والنفسية.

وتُضيف: “التحوّل المفاجئ من حياة مستقرة إلى الخيمة يترك أثرًا نفسيًا عميقًا، وشعورًا بالفراغ والضياع، وبلا هدف يوميّ واضح. والمساواة المفروضة في الخيمة تمزج بين شعور المشاركة والعار والفقد، ليُصبح البقاء المقياس الوحيد للهويّة والكرامة”.
وهكذا، بين الركام والخيمة، تظهر الحرب على حقيقتها: ليست مجرّد خراب الحجر، بل نكبة للكرامة والهويّة والطبقة الاجتماعيّة. النساء اللواتي كنّ يعملن ويكدحن لبناء مكانة، يجدن أنفسهنّ اليوم في اختبار قاسٍ، يجمع بين فقد الممتلكات وفقد الصورة عن الذات.