في ليلة وضحاها وجد آلاف الغزيين أنفسهم بلا مأوى، يبحثون عن أماكن لنصب خيامهم المهترئة في غرب مدينة غزة وجنوب القطاع، بعدما حوّلت الاستهدافات الإسرائيلية منازلهم إلى ركام، تزامنًا مع أوامر الإخلاء لبدء العملية العسكرية البرية.
يحملون أمتعتهم الثقيلة بوجوه شاحبة وقلوب مرتجفة، وتحت القصف بدأ كثير من المواطنين رحلة نزوح جديدة من المدينة نحو غربها وجنوبها، في محاولة يائسة للعثور على مكان آمن لعائلاتهم، بعد أن وسّع الجيش الإسرائيلي دائرة استهدافاته، لا سيما في الشمال.
تشير إحصائيات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إلى أن نحو 35 ألف فلسطيني ممن نزحوا إلى الجنوب عادوا مرة أخرى إلى مدينة غزة، بسبب الاكتظاظ الكبير هناك وارتفاع أسعار إيجار الشقق والأراضي، وبفعل ظروفهم المادية القاسية فضّلوا مواجهة الموت على النزوح.
كما أكد المكتب أن 1.2 مليون فلسطيني ما زالوا مصرّين على الثبات في مدينة غزة، رغم القصف المتكرر والانتهاكات المتواصلة من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
لا رفاهية للاختيار
عاهد أبو حسنين نزح مع عائلته المكوّنة من 30 فردًا من منطقة أبو إسكندر تحت القصف، متوجهًا إلى جنوب قطاع غزة بحثًا عن مكان ينصبون فيه خيامهم، بعد أن زعمت “إسرائيل” أن مواصي خان يونس منطقة إنسانية، بينما تعرّضت في الواقع لـ109 غارات وقصف متكرر خلّف مئات الشهداء.
يقول عاهد لـ”نون بوست”: “لم يكن أمامنا أي خيار سوى النزوح مجددًا إلى جنوب أو وسط غزة، خوفًا من دخول الجيش الإسرائيلي للمدينة مرة أخرى. النجاة بأرواحنا ليست أمرًا سهلًا، خاصة مع وجود الأطفال”.
ويشير عاهد إلى أنه قرر عدم النزوح مرة أخرى، غير أن الاحتلال لجأ إلى أساليب جديدة أجبرت الأهالي على ترك منازلهم، مثل تدمير البيوت المحيطة، وإطلاق النار والقذائف، إضافة إلى استخدام طائرات الكواد كابتر التي دفعت بالعشرات إلى الخروج من مناطقهم.
ويضيف: “عدت في اليوم التالي إلى المنزل في محاولة لجلب بعض الأمتعة والأشياء الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها كالملابس وأدوات المطبخ والخيام، لكن طائرات الكواد كابتر أطلقت النار والقذائف على المنزل، ومع ذلك أصريت على إخراج ما استطعت حمله”.
ويؤكد أن تجربة النزوح تشبه خروج الروح من الجسد، ولا يمكن تحملها، لكن الغزيين لا يملكون رفاهية الاختيار، معبرًا عن أمله بانتهاء الحرب في أقرب وقت ممكن والعودة إلى بيوتهم من جديد.
حقيبة صغيرة
محمد أبو سلعة نزح مع عائلته من منطقة جباليا النزلة شمال غزة بعد أن هدد الاحتلال بقصف مربع سكني يضم منزله، في أول تجربة نزوح له منذ اندلاع الحرب. يقول محمد (45 عامًا) لـ”نون بوست”: “رغم خطورة جباليا بقيت فيها طوال الأشهر الماضية، لكن هذه المرة مختلفة، إذ طلب الجيش منا الإخلاء تمهيدًا لقصف مربع سكني كامل، ولم أتوقع أن أعيش لحظة النزوح يومًا”.
ويشير إلى أنه لم يمتلك خيمة، ولم يكن يعلم ماذا يأخذ من منزله بعدما منحه الاحتلال عشر دقائق فقط للإخلاء، فاختار حمل بعض الملابس، متحسرًا: “تمنيت لو أستطيع حمل منزلي في حقيبتي الصغيرة”. خرجت عائلته بقلوب مثقلة لتشهد انهيار بيتهم أمام أعينهم، وبكوا على سنوات العمر التي انهارت في ثوانٍ.
ويتابع محمد: “نزحنا للمرة الأولى إلى دير البلح في وسط غزة، بعد معاناة كبيرة للحصول على أرض فارغة لوضع خيامنا”، متمنيًا أن تنتهي الحرب والنزوح والتشريد وتعود الحياة إلى طبيعتها. اليوم تكدست الخيام في غرب غزة ووسطها وجنوبها، إلى جانب المنازل المدمرة وأكوام النفايات، فيما اضطر البعض للنزوح إلى مناطق حمراء في خان يونس رغم المخاطر.
نزوح داخلي
وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، فإن أكثر من 1.9 مليون شخص نزحوا داخليًا، أي ما يعادل نحو 85% من سكان القطاع، ومن بينهم عائلة رائد أبو غزالة التي اضطرت للنزوح إلى منطقة الأبراج المصرية بعد أن رفضت مغادرة مدينة غزة.
عائلة سمية أبو غزالة عانت ويلات النزوح عشرات المرات منذ بدء الحرب في جنوب القطاع، لتقرر في النهاية التوقف عن النزوح واختيار البقاء في قلب الحرب، مفضلة جحيم البقاء في المدينة على عذاب النزوح المتكرر خارجها.
تسرد سمية لـ”نون بوست” وهي تتنهد: “منذ بداية الحرب على غزة نزحنا من المناطق الشرقية في الشجاعية إلى مدينة غزة على أمل أن تنتهي سريعًا كسابقاتها، لكن دائرة الحرب اتسعت، واضطررنا في النهاية إلى النزوح أولًا نحو رفح”.
وتشير سمية إلى أن محطتها الأخيرة لم تقتصر على رفح، بل امتدت إلى خان يونس ومختلف مناطق الوسطى، قبل أن تعود مجددًا إلى غزة، حيث أعاد الاحتلال اجتياح المدينة ليُذيق أهلها مرارة النزوح الأبدي.
وتوضح أن النزوح يفتح أبواب الجحيم على العائلات، بما يحمله من أمراض ومعاناة في الحصول على المياه وغياب الخصوصية، فضلًا عن تكاليف النقل الباهظة، إلى جانب القتل المستمر بالصواريخ الإسرائيلية، إذ لا يأبه الاحتلال بالمناطق الإنسانية أو ما يسمى بالمناطق الحمراء.
وتلفت إلى أن الجيش الإسرائيلي لا يزال يمعن في تدمير المدينة، وآخر استهدافاته طالت المباني والأبراج السكنية، ما أدى إلى تشريد مئات العائلات ودفعها إلى الشوارع، في محاولة لإجبارهم على النزوح جنوبًا وإفراغ غزة من سكانها.