يتجهز أبوعَرب البطران (61 عامًا) لاستقبال آذان صلاة الجمعة، فيما تجلس زوجته في صالة الضيافة تستشير أبناءها وأحفادها حول وجبة الغداء التي يرغبون في تناولها. لم يكن أحد منهم يتخيّل أنهم على موعد مع رحيل جماعي بلا مهلة ولا وداع لجدران بيت نزحوا إليه واحتضنهم طيلة أيام الحرب؛ بل سيركضون ويهرولون من الطابق الحادي عشر بعد مكالمة هاتفية لم تتجاوز الدقيقة، قلبت حياتهم رأسًا على عقب!
يحدثنا أبوعَرب بصوت مختنق بالحسرة التي ارتسمت على محيّاه: “معكم 10 دقائق فقط لإخلاء البرج، أبلغ جميع السكان”. يصمت قليلًا ليلتقط أنفاسه، ثم يتابع: “هذه الجملة التي ألقاها ضابط المخابرات الإسرائيلية بعربية خليطة بالعبرية وكثير من السادية، سمعها جارنا فأسرع لإبلاغنا جميعًا”.
عشر دقائق فقط، هي المدة التي مُنحت لسكان برج مشتهى المكوّن من أحد عشر طابقًا، ويضم 75 عائلة في داخله، تحتضن كل عائلة عدة نازحين أطفالًا ونساءً وكبار سن وجرحى وعددًا من ذوي الإعاقات الحركية الذين لا يقوون على النزول عبر الدرج في الوقت الممنوح قبل نسف البرج.
يسرد العم أبوعَرب لـ”نون بوست” مأساة نزوحه التي عاشها داخل مخيم جباليا، وحصاره لثلاثة أشهر داخل مستشفى كمال عدوان، وفقدانه بيته، ثم تنقّله بين بيوت أقاربه قبل أن يصل إلى شقة أخيه في البرج، معتقدًا أنها آخر محطة نزوح آمنة يأوي إليها برفقة 26 فردًا من أسرته. يقول: “وضعت كل ما أملك من مال في إصلاح الشقة؛ من الشبابيك والأبواب، وبمعاناة شاقة استطعت إيصال وتمديد خط ماء إليها لكونها في الطابق الحادي عشر”.
يستكمل البطران: “عشت في الشقة نصف عام برفقة أبنائي وبناتي اللواتي فقدن أزواجهن وأبناءهن. تأقلمنا وصنعنا ذكرياتنا بداخلها، وتقاسمنا رغيف الخبز في أحلك أوقات المجاعة. وكانت وجبة الغداء التي تجمعنا سببًا في ابتسامة أعدتها بعد سلسلة الفقد والخسارة التي عشتها في حرب الإبادة الإسرائيلية”.
يتابع العم أبوعَرب بصوت تخنقه العبرة: “حتى في معقل النزوح الأخير لم يتركنا الاحتلال في حال سبيلنا! تقاسمت إيماءات وجهي الصدمة والهلع حين تلقيت خبر الإخلاء. صعقني الخبر وأرعبني: كيف سأتمكن من النزول من الطابق الحادي عشر بأختي المسنّة التي لا تقوى على الحركة؟ إلى أين سنذهب؟”.
في لحظة خاطفة، اضطر الآلاف من سكان البرج إلى النزول دفعة واحدة، إذ لم يمنحهم الاحتلال الإسرائيلي الوقت الكافي لإخراج أبسط احتياجاتهم الأساسية: من حقيبة الطوارئ والفراش والملابس.
خلال مقابلتنا، كان الرجل الستيني يجلس على كومةٍ من الحجارة المحطّمة في الشارع، حين شاركنا ابنه الحديث قائلًا: “نزلنا بالملابس التي نرتديها فقط!”، ثم تابع بغضب: “بهاتين اليدين حملتُ مسنّين من ذوي الإعاقة الحركية، كانوا يبكون ويصرخون من الخوف، فيما الجميع ينادي أسماء أطفاله خشية أن يكون قد فقدهم أو تركهم في البرج من شدّة اللهفة والسرعة”.
يضيف البطران: “انهار البرج في أقل من عشرين دقيقة بدفعة من الصواريخ الإسرائيلية التي زلزلت الأرض، وحوّلت البرج الشاهق إلى كومةٍ من الركام، دُفنت تحتها الذكريات وتعب العمر وشقاؤه، وأصبحنا جميعًا بلا مأوى”.
يذرف دموعه ويقول: “النساء نزحن إلى خيمة أقاربنا داخل جامعة الأزهر، بينما بقينا نحن الرجال في الشارع قرب ركام البرج. لا أفكّر مطلقًا بالنزوح نحو الجنوب، فأنا لا أملك شيئًا يساعدني على النزوح ولا أستطيع تدبير أموري بعيدًا عن هنا”.
يخطط الاحتلال الإسرائيلي لهدم الأبراج الشاهقة والمباني السكنية ضمن إطار خطته العسكرية لإفراغ المدينة وترحيل المدنيين قسرًا، تمهيدًا لإعادة احتلال غزة.
ولم تكن أم حمزة أبو الكاس (33 عامًا) أفضل حالًا، إذ فقدت الشقة التي احتوتها وأطفالها المرضى في برج السوسي، بعدما تنقّلت بين محطات نزوح عديدة. لم يتبقَّ من البرج المؤلَّف من أربعة عشر طابقًا سوى كومةٍ أخرى من الركام.
جيش الاحتلال يواصل قصف الأبراج السكنية في غزة ضمن عملية “عربات جدعون 2″، ما خلف دمارًا واسعًا ونزوحًا جماعيًا نحو المواصي جنوبًا. pic.twitter.com/4OXcynRkpI
— نون بوست (@NoonPost) September 12, 2025
يتجمّع الأطفال السبعة خلف والدتهم الجالسة على الحجارة الرمادية بملابسها السوداء المغبّرة، وتقول الأم الثلاثينية: “وين بدنا نروح؟ لا ظل سقف ولا ظل خيمة تحتوينا! إحنا سبع عائلات، كل عيلة فيها عشرة أفراد. في بداية النزوح للبرج تكدّسنا في الشقة الأرضية، وبعدها نصبنا خيامًا أسفل البرج لنحتوينا، من أجل التخفيف عن بعضنا: النساء والأطفال في الشقة، والرجال في الخيم”.
تحكي لنا أم حمزة ذكرياتها: “تأقلمنا بقدر الإمكان في مساحة الشقة الصغيرة، كنا نطهو الطعام كعائلة واحدة، ويلعب الأطفال معًا حين شعروا بالأمان وقدرتهم على التقاط أنفاسهم مرّة أخرى. لكن الخوف والرهبة والبكاء عادوا مع أول اتصال بإخلاء البرج تمهيدًا لقصفه”.
وتتابع حديثها لـ”نون بوست” فيما تفتّش أناملها بين الركام عن أدوية وألعاب أطفالها: “شُرّدنا بطولنا. حملت طفلتي المريضة بالقلب المفتوح بين أحضاني، وناديت على أطفالي ليسرعوا أمامي حاملين حقيبتهم التي فيها خبز وماء. ركضنا بسرعة كما أمرنا ضابط المخابرات الإسرائيلية بالابتعاد 500 متر عن البرج”.
وتقول أبو الكاس: “شاهدنا البرج حين أغارت عليه طائرات الاحتلال الإسرائيلي، مساويةً أربعة عشر طابقًا بالأرض، دافنةً تحتها كل ما نملك من طعام وشراب وملابس للأطفال واحتياجات ضرورية”.
قاطعتنا جارة أم حمزة ذات الملامح الستينية وتجاعيد وجهها وانحناء ظهرها، قائلة: “والله ما بقالي ولا معلقة ولا فرشة ولا مخدة. طلعت أتكأ على عصايتي، كل إشي راح. والله بس إحنا مش راح نروح من هان، من غزة. ولا يفكروا بتدميرهم للبرج إنه راح يخليني أنزح للجنوب. ما نزحت والموت خطف أحبابي، ما بطلع من شمال غزة، حتى لو روحي بتطلع هان”.
يقول د. صلاح عبد العاطي، رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني “حشد”: “ينفّذ الاحتلال الإسرائيلي سياسة تدمير البنايات والأبراج السكنية منذ بداية الحرب على قطاع غزة، لكنه ضاعف وتيرتها خلال الشهر الحالي، فسوّى سبعة أبراج شاهقة بالأرض (برج مشتهى، برج السوسي، برج الرؤيا، برج طيبة…) ودمّر 50 بناية سكنية متعددة الطوابق مكتظّة بالسكان”.
يتابع عبد العاطي: “سياسة هدم الأبراج التي ينفذها الاحتلال الإسرائيلي تهدف إلى ترويع المدنيين، إضافة إلى تدمير ما تبقّى من المعالم السكنية والحضارية في مدينة غزة، في إطار مخطّط معلن لجعل المدينة وشمالها منطقة منكوبة غير صالحة للحياة، ودفع السكان نحو معسكرات الاعتقال النازية في الجنوب، تمهيدًا لإفراغ القطاع من سكانه ضمن مخططات التهجير المُعلَن عنها”.
وتطرّق رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني إلى أن ما يفعله الاحتلال جرائم حرب، وجزء من جريمة الإبادة الجماعية التي تتعارض مع القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
ويضيف د. عبد العاطي: “دمّر الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب الإبادة ما يزيد على 86% من المباني السكنية والأبراج، وكل ادعاءاته باطلة، خصوصًا مع تشريد مئات آلاف المدنيين وجلوسهم بلا مأوى على الطرقات”.
ويؤكد المحامي والناشط القانوني: “نحن نتابع مع المحاكم الدولية، ونحيل الملفات والجرائم الإسرائيلية إلى محكمة الجنايات الدولية من أجل فتح تحقيقات جادة، إضافة إلى المراسلة والمتابعة مع المنظمات الأممية، وخاصة الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان، لوضعهم في صورة الواقع في قطاع غزة”.
وفي الوقت الذي يهدم فيه الاحتلال أبراجًا أخرى ليدفن الحياة في عيون الغزّيين، يُخرج طفل من تحت الركام لعبته ويبتسم، فيما تُعدّ أم الشاي على موقد صغير أمام خيمتها الملاصقة لكومةٍ من جدران بيتها المقصوف.