في فيلم “18 يوم”، جسَّد الممثل المصري آسر ياسين دور مواطن مصري فقير، يُخبره صديقه، الذي يقوم بدوره الممثل محمد ممدوح، عن مظاهرات التحرير التي يقودها شباب يتحدثون “أجنبي”، ويرغبون في الإطاحة بالرئيس المصري حينها (محمد حسني مبارك). ويطلب منه النزول معه للتظاهر للمطالبة ببقاء الرئيس، والاعتداء على هؤلاء الخونة مقابل مبلغ مالي، فيما يُعتبر “مصلحة” دون مشاكل مع الحكومة (وزارة الداخلية)، رغم أن هذا المواطن يعيش في أسوأ الظروف الاجتماعية، ويعاني فقرًا مدقعًا بسبب سياسات مبارك.
هذا المشهد هو تجسيد لشخصية “المواطنين الشرفاء”، وهم مجموعات تعيش على الهامش، يعيشون في فقرٍ مدقع، وأغلبهم من مرتادي الأقسام، بحسب ورقة “المواطنين الشرفاء، هل هم كذلك؟” الصادرة عن الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان. وحين تعرض الحكومة، ممثلة في أفراد وزارة الداخلية أو أصدقائها ممثلين في أحزاب الموالاة بعد ثورة يناير، أو الحزب الوطني قبل ثورة يناير، شخصياتٍ مقرَّبة من النظام، أن تقوم بعملٍ تكتسب عبره بعض المال وبعض الرضى كخدمة، فالكثير والكثير من هؤلاء يرحب بعملها، سواء طمعًا في المال أو في رضى أهل الحكم عنه، أو كلاهما.
مشهد “المواطنين الشرفاء”، المفهوم في السياق الداخلي المصري، امتد بصورة مفاجئة إلى القنصليات والسفارات المصرية بالخارج، ووصل الأمر إلى مطاردات واشتباكات بين أعضاء الجالية المصرية بالخارج ومتظاهرين ضد النظام المصري.
إشارة عبد العاطي
في 21 يوليو/ تموز الماضي، قام الشاب المصري أنس حبيب بتصوير مقطع فيديو له، وهو يغلق السفارة المصرية بهولندا بسلسلة وقفل، اعتراضًا على ما اعتبره مشاركة مصر في حصار غزة، بإغلاق معبر رفح. عقب هذا الفيديو، اندلعت العديد من الوقفات الاحتجاجية أمام السفارات المصرية في عدد من العواصم.
في المقابل، قامت مصر عبر الوسائل الرسمية وغير الرسمية بانتقاد هذه التصرفات، وتوضيح أن المعبر ليس مغلقًا من الجانب المصري، لكن كان هناك ردٌّ آخر غير رسمي في الغرف المغلقة، وهو ما جاء في تسريب اجتماع لوزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي مع عدد من السفراء، تم عبر تقنية الفيديو كونفرانس، حيث قال عبد العاطي موجهًا الحديث للسفير عماد حنا، سفير مصر بالعاصمة الهولندية “لاهاي”: “أي حد يحط شوية بوية أو يلمس السور، تجيبه من قفاه، تدخله جوا، وتطلب له الشرطة، وتقول بيتحرش بالسفارة، احنا مش بلطجية، لكن أي حد يلمس سور السفارة يطلع عين أبوه.”
جرى تنظيم استقبال لأحمد ناصر دبابة في مطار القاهرة عقب عودته، على خلفية التحقيق في بلاغات مقدمة ضده في هولندا، وفق ما ذكرت الصحفية المصرية بسمة مصطفى في منشور على حسابها بموقع “فيسبوك”. وفي السياق ذاته، تم القبض على رئيس “اتحاد شباب مصر” أحمد عبد القادر ميدو، قبل أن يُفرج عنه بجهود مصرية، من دون توضيح ما إذا كان قد عاد إلى القاهرة أم لا.
تصدير ظاهرة “المواطنين الشرفاء” إلى خارج حدود مصر، قد تكون مجرد “فشة خلق” تُسعد البعض على المستوى الفردي، لكن استخدامها بشكل مؤسسي، يُعمّق الانقسام بين ابناء الشعب الواحد، مهما اختلفت آراؤهم، ويعطي ذريعة لدعاة العنف المنبوذ بتصعيده، ويُسئ للدولة وصورتها في الخارج أكثر من اي ضرر… https://t.co/DS9MXqzeCP
— حافظ المرازي (@HafezMirazi) August 22, 2025
كيف بدأ المواطنون الشرفاء؟
لا يمكن تحديد متى بدأت ظاهرة “المواطنين الشرفاء” في مصر، ولكن يمكن القول بأن تسجيلًا لهذه الظاهرة وُجد في مذكرات خالد محيي الدين “الآن أتكلم” عن واقعة اقتراح زكريا محيي الدين، الذي شغل منصب وزير الداخلية في حكومة يوليو، تنظيم مظاهرات مضادة للمظاهرات المؤيدة لمحمد نجيب في أزمة 1954، حيث وقع الاختيار على سائق ومحصل في شركة أتوبيسات نقل عام، لحشد المتظاهرين لدعم مجلس قيادة الثورة وجمال عبد الناصر، وتمت مكافأة الاثنين بمناصب في اللجنة النقابية ومجلس إدارة الشركة.
ظهر “المواطنون الشرفاء” مرة أخرى في عدة مناسبات في عهد مبارك، بداية من الانتخابات البرلمانية، وحتى مظاهرات الحركة الوطنية من أجل التغيير “كفاية”، إلا أن الحادث الأبرز لـ “المواطنين الشرفاء” كان فيما يُعرف بـ “الأربعاء الأسود“، حيث تم التعدي على أربع صحفيات مصريات أمام نقابتي الصحفيين والمحامين بواسطة سيدات، حيث تم ضرب الصحفيات الأربع وتعريتهن والتحرش الجنسي بهن من قبل النساء، في حماية قوات الأمن، وذلك في يوم 25 مايو/ أيار 2005، وهو نفس اليوم الذي دعت فيه الحركة الوطنية لوقفة احتجاجية أمام ضريح سعد زغلول ونقابة الصحفيين، احتجاجًا على تعديل الدستور.
استخدم مبارك “المواطنين الشرفاء” عدة مرات، كان منها مظاهرة العتبة في 7 سبتمبر/ أيلول 2005، كما ظهر “المواطنون الشرفاء” عدة مرات بعد ذلك، أبرزها موقعة الجمل.
وفي ورقة بعنوان “المواطنين الشرفاء.. هل هم كذلك؟”، يروي أحد المشاركين في موقعة الجمل، خلال مقابلة مع محامي الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، أن أحد أعضاء الحزب الوطني جاءه إلى منزله ليتفق معه على النزول في مظاهرة داعمة لمبارك وضرب المتظاهرين في ميدان التحرير مقابل 50 جنيهًا مصريًا.
قمع عابر للحدود
مع انتشار فيديوهات “المواطنين الشرفاء” أمام السفارات المصرية، كشفت الصحفية المصرية المقيمة في ألمانيا، بسمة مصطفى، أنها سبق أن تعرّضت للصفع من أحمد عبد القادر ميدو في عام 2022، أثناء زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لألمانيا، بعد هتافها ضد السيسي أمام مبنى الحكومة الألمانية.
وقالت بسمة: “إنها تقدمت بشكاوى قانونية ضده، وضد شركائه في ألمانيا، وبريطانيا، وهولندا، بسبب الاعتداء المباشر، والتحريض، والتهديدات المستمرة ضدي وضد غيري، وكذلك ضد شركاته وأنشطته المشبوهة في أوروبا. كما أن اسمه ذُكر صراحة في الشكوى التي أصدرها عدد من المقررين الخاصين بالأمم المتحدة عني، بشأن ما تعرضت له من قمع عابر للحدود في المنفى.”
وأضافت بسمة: “منذ عام 2022، وأنا أقول بوضوح إن ما تعرضتُ له لم يكن حادثة فردية، بل جزءًا من عملٍ ممنهج تقوده شبكة مدعومة رسميًا من الدولة المصرية، تتحرك عبر وزارة الخارجية، وبتنسيق مباشر مع الأجهزة الأمنية، وبتمويل من أموال المصريين، بهدف استهداف الصحفيين والمعارضين والمنفيين. في أوراق قضيتي بألمانيا، ورد صراحةً على لسان أحد المتورطين، الذي قُبض عليه منذ أيام بعد ظهوره في مقطع فيديو شهير، أنه يعمل لدى دبلوماسي مصري. كما أن دبلوماسيًا آخر من السفارة المصرية، وهو ضابط مخابرات، شهد بنفسه بهذا الكلام صراحة، وكان هو ذاته قد لاحقني أكثر من مرة في شوارع برلين وحول منزلي.”
وأكملت: “على مدى سنوات، تابعتُ هذه الشبكة في أكثر من دولة أوروبية، وقدّمتُ وقائع مثبتة عن اعتداءاتها وتهديداتها وشركاتها وجمعياتها المشبوهة، وبلاغات ضدها في دول مختلفة. ورغم كل ذلك، ظلّ التعامل مع ما جرى معي باعتباره “واقعة معزولة”. حتى حين صدرت شكوى أممية ورد فيها صراحة اسم أحدهم، استمرّ التجاهل. لقد لجأتُ إلى الأمم المتحدة بعد أن أُغلقت في وجهي كل الأبواب، وكان اللافت أن قضيتي كانت أول مرة تتحرك فيها الأمم المتحدة بخطوة استباقية على الجميع، إذ أصدرت الشكوى أولًا، ثم لحقت بها المؤسسات الحقوقية والصحافة. بينما في العادة، العكس هو ما يحدث: المنظمات توثق وترسل الشكاوى، والأمم المتحدة تتابع.”
الجاليات المصرية ودعم النظام
بحسب إحصاء الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر، فإن عدد المصريين بالخارج يمثل 11 مليون مصري، النسبة الأكبر منهم في المنطقة العربية، بينما يعيش 1.6 مليون منهم في أوروبا، وما يزيد عن 2 مليون في الأمريكيتين.
منذ 2013، يتم استخدام هذه الجاليات، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية، في تنظيم المظاهرات والوقفات الداعمة للنظام، لا سيما أثناء زيارات السيسي للخارج، بالإضافة إلى التصريحات الصحفية الداعمة للنظام.
بحسب الباحث الحقوقي المقيم في المملكة المتحدة، عادل سليمان، فإن ما جرى مؤخرًا أمام السفارات المصرية في الخارج يعد امتدادًا لمشهد “المواطنين الشرفاء” داخل مصر، حيث يتم استدعاء أشخاص لهم مصالح مباشرة أو احتياجات خاصة، سواء للمشاركة في المظاهرات أو حتى في الانتخابات، مصحوبًا بالرقص على أنغام “تسلم الأيادي” و”بشرة خير”.
وأوضح سليمان في حديثه لـ”نون بوست” أن النظام استثمر نجاح هذه الظاهرة داخل مصر في السيطرة على الشارع وإظهار صورة دعم شعبي، فقرر نقلها للخارج. وأشار إلى أن وزير الخارجية نجح في توظيف “المواطنين الشرفاء” أمام السفارات لتحويل المشهد من انتقاد مصر بسبب معبر رفح أو الهجوم على الرئيس والحكومة، إلى مجرد مشاجرات بين المتظاهرين وأنصار السفارات، وهو ما يشكل خطورة لأنه يضع الناس في مواجهة بعضهم البعض في توقيت حساس قد تتغير فيه خريطة المنطقة.
وأكد سليمان أن الجاليات المصرية في الخارج ليست كتلة واحدة متجانسة، بل تضم شرائح مختلفة، بينها كتلة كبيرة لها مصالح مثل شهادات الحلال، وغيرها من الخدمات المرتبطة بالسفارات، إلى جانب رجال أعمال يمولون، وأشخاص يسعون إلى نفوذ معنوي مثل عبد القادر أو أحمد ناصر أو يوسف حواس، الذين يحرصون على التقاط صور مع السفير أو شخصيات عامة كاللاعبين، ليحصلوا على مكانة معنوية تترجم لاحقًا إلى مكاسب داخل السفارة.