يبرز ملف إعادة الإعمار كأحد أبرز التحديات التي تواجه البلاد اليوم، بعد سنوات من الحرب وما خلّفته من دمار هائل في البنية التحتية والاقتصادية، وبينما تتزايد الحاجة إلى دعم دولي واسع النطاق لإنعاش الاقتصاد وإعادة تأهيل المدن المدمَّرة، يواجه هذا المسار عراقيل متعددة، أبرزها العقوبات الغربية ومحدودية الاستجابة الدولية، ما أدى إلى تباطؤ تدفّق التمويل الخارجي، وغياب رؤية دولية موحدة بشأن آليات الإعمار وشروطه.
أمام هذا الواقع، بدأت البدائل الوطنية تفرض نفسها على المشهد، حيث صعدت المبادرات المحلية، والحملات الأهلية، وصناديق التنمية الداخلية كلاعبين أساسيين في محاولة لتقليص الفجوة التمويلية وتلبية الاحتياجات العاجلة.
وتعكس هذه التحركات توجّهًا حكوميًا نحو تقليص الاعتماد على الخارج، وتفادي الشروط السياسية التي قد ترافق أي تمويل دولي، وهو ما يثير تساؤلات حول فعالية هذا النهج وقدرته على تحقيق إعادة إعمار حقيقية ومستدامة.
تحديات متراكمة في الطريق
يواجه ملف إعادة الإعمار جملة من التحديات العميقة، التي تُعرقل انطلاقته وتؤجّل آثاره المرجوّة على الأرض، فالبلاد ترزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة، ومؤسسات هشّة، وواقع ميداني منقسم، في وقت تواصل فيه المنظمات الدولية التحذير من التدهور الإنساني المتسارع.
وبحسب تقرير حديث للأمم المتحدة، فإن الأوضاع الإنسانية في سوريا كارثية جدًا، حيث يحتاج نحو 16.7 مليون شخص – ما يزيد عن ثلثي السكان – إلى شكلٍ من أشكال المساعدة الإنسانية، في ظل وجود أكثر من سبعة ملايين نازح داخليًا. كما تُسجّل معدلات سوء التغذية المزمن ارتفاعًا ملحوظًا، ما يعكس عمق الأزمة المعيشية والاقتصادية التي تعاني منها البلاد.
تنعكس هذه التحديات على تصنيف سوريا في مؤشرات التنمية؛ فقد صنّف تقرير “الإسكوا” لعام 2024 سوريا في المرتبة 158 من أصل 160 دولة، في دليل التحديات التنموية، مشيرًا إلى مشكلاتٍ متجذّرة في ضعف الحوكمة، وتدهور البيئة، وانتشار الفقر على نطاق واسع.
وفي ظل هذا الواقع، أطلقت الأمم المتحدة في 25 آذار/ مارس الماضي، نداءً عاجلًا للمجتمع الدولي للتحرك الفوري والاستثمار في إعادة إعمار سوريا وتنميتها. وصرّح توم فليتشر، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، أن توسيع نطاق الخدمات الأساسية يمثّل عنصرًا حاسمًا في تسهيل عودة اللاجئين والمهجّرين، داعيًا إلى تكثيف الجهود الدولية، ومؤكدًا أن سوريا تمرّ بمرحلة حاسمة تتطلب استجابة سريعة وفعّالة.
لكن، وعلى الرغم من هذه الدعوات، تبقى المعوّقات الداخلية أحد أبرز أسباب تأخّر الإعمار، إذ يشير خبراء إلى أن الدولة لا تزال تعاني من هشاشة مؤسسية واضحة، وافتقارٍ للأجهزة الإدارية القادرة على تنفيذ مشاريع استراتيجية، إلى جانب غياب مجلس تشريعي فعّال يُصادق على الخطط الكبرى، وهو ما يفاقم حالة التردّد لدى الدول المانحة في الدخول في شراكات جادّة.
ميدانيًا، تفرض قوات سوريا الديمقراطية (قسد) سيطرتها على نحو 35% من الأراضي السورية، فيما تخرج محافظة السويداء جنوبي البلاد عن نطاق سيطرة الحكومة المركزية، وهو ما يُعقّد جهود التنسيق على المستوى الوطني، ويحدّ من إمكانية تنفيذ خطة إعادة إعمار شاملة تشمل كامل الجغرافيا السورية.
تكلفة هائلة واستجابة دولية خجولة
رغم تفاقم الدمار وارتفاع تكلفة إعادة الإعمار في سوريا، لا تزال الاستجابة الدولية محدودة، وسط تباينات سياسية تُعرقل تدفّق الدعم اللازم لإنعاش البلاد.
ووفقًا لتقديرات حديثة صدرت عن الأمم المتحدة، فإن تكلفة إعادة الإعمار في سوريا تتراوح ما بين 250 و400 مليار دولار أميركي، وهي أرقام أكدها معهد كارنيغي للسلام الدولي في تقرير صدر بتاريخ 8 مايو/ أيار 2025.
تتطابق هذه التقديرات مع دراسة منتدى الشؤون الخارجية (FAF)، الذي أشار إلى أن بعض التقييمات قد تصل إلى تريليون دولار، بحسب نطاق الأضرار المحتسبة، مبيّنًا أن قطاع الإسكان وحده يشكل نحو 60% من إجمالي التكلفة، وفق مقال نُشر يوم 16 مايو الفائت.
دراسات ميدانية أخرى، استندت إلى صور الأقمار الصناعية، كشفت عن فجوة كبيرة بين التقديرات القديمة التي اعتمدها صندوق التنمية السوري، وتلك المستندة إلى تقييمات أحدث. فقد أظهرت دراسة صادرة عن معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث (UNITAR) أن 16 مدينة سورية كبرى تعرّضت لدمار كبير، حيث سجلت حلب أعلى نسبة دمار بعدد مبانٍ مدمَّرة بلغ نحو 36 ألف مبنى، تلتها الغوطة الشرقية بـ 35 ألف منزل.
ورغم هذه الأرقام المقلقة، تبقى الاستجابة الدولية محدودة. ففي أبريل/ نيسان الماضي، كشفت وكالة رويترز عن إطلاق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حزمة دعم لسوريا بقيمة 1.3 مليار دولار فقط، تمتد على ثلاث سنوات، تركّز على إعادة تأهيل البنية التحتية، إلى جانب التحول الرقمي وريادة الأعمال، وهي مبادرة طموحة، لكنها تبدو ضئيلة مقارنة مع حجم الدمار.
من جهة أخرى، حاول مؤتمر بروكسل التاسع للمانحين، المنعقد في مارس/ آذار 2025، بقيادة الاتحاد الأوروبي، حشد الدعم السياسي والمالي لسوريا. وقد حضره وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، الذي دعا الدول المانحة إلى المساهمة الفاعلة في مشاريع الإعمار والتنمية المستدامة، مؤكدًا التزام دمشق بتسهيل وصول المساعدات الإنسانية. لكن نتائج المؤتمر جاءت دون التوقعات، إذ بلغت قيمة التبرعات 5.8 مليار يورو فقط، مقارنة بـ 7.5 مليار يورو في العام السابق، ما يعكس تراجعًا ملحوظًا في مستوى الالتزام الدولي.
ولم يخلُ البيان الختامي للمؤتمر من الرسائل السياسية، حيث شدّد على أن أي دعم أوروبي لإعادة الإعمار يجب أن يكون مرهونًا بحلٍّ سياسي شامل، يضمن تطلعات السوريين، ويصون سيادة البلاد ووحدتها.
الحكومة تبادر.. صندوق التنمية الوطني
على الرغم من إدراك الحكومة السورية لحجم الحاجة إلى دعم مالي خارجي ضخم لإطلاق عملية إعادة الإعمار، إلا أنها لم تقف مكتوفة الأيدي بانتظار استجابة المجتمع الدولي، فقد بادرت إلى إطلاق مبادرات محلية وصناديق وطنية، في محاولة لتعبئة الموارد المتاحة وتحريك عجلة الإعمار من الداخل، ولو بشكل محدود مقارنة بالاحتياجات الهائلة.
وفي هذا الإطار، أعلن الرئيس أحمد الشرع في الرابع من أيلول/ سبتمبر الجاري، عن تأسيس صندوق التنمية السوري، باعتباره مؤسسة وطنية رئيسية لإعادة بناء ما دمّرته الحرب. وجاء الإعلان في فعالية أُقيمت بقلعة دمشق، حيث دعا الشرع المواطنين ورجال الأعمال إلى المساهمة في الصندوق، قائلًا: “نجتمع لنعلن انطلاق صندوق التنمية السوري، الذي ندعوكم من خلاله للإنفاق من كريم أموالكم، لنبني ما هدمه النظام البائد، ونحيي الأرض التي أحرقوها خضراء يانعة”. وقد تجاوزت قيمة التبرعات للصندوق 60 مليون دولار خلال الساعات الأولى من إطلاقه، ما يعكس تجاوبًا لافتًا مع هذه المبادرة.
ويرى الخبير الاقتصادي فراس شعبو أن الصندوق يمثّل خطوة داعمة وجاذبة لاستثمارات لاحقة، كونه يهيّئ البنية التحتية الأساسية عبر إصلاح الطرق، وشبكات الصرف الصحي، وإعادة بناء المدارس والمستشفيات.
لكن، في الوقت نفسه، يشدد فراس شعبو لـ”نون بوست” على أن هذه الجهود تظل مكملة، لا بدائل عن الدعم الدولي، مشيرًا إلى أن سوريا تحتاج إلى مؤتمر مانحين دولي، على غرار التجارب التي عرفتها دول خرجت من الحروب والكوارث.
View this post on Instagram
وفي مقابلة مع مجلة فوربس الشرق الأوسط، أكّد وزير الاقتصاد والصناعة محمد نضال الشعار أن النموذج الأنسب لسوريا ليس مشروعًا ضخمًا ومركزيًا على غرار خطة مارشال التي أعادت إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، بل مسارات متفرّقة تتناسب مع واقع بلد ما زالت أكثر من 60% من مساحته بحاجة إلى إعادة بناء.
إلى جانب هذه الخطوات، تعمل الحكومة على تحفيز الاستثمار المحلي عبر فعاليات اقتصادية، ففي 20 تموز/ يوليو الماضي، أعلنت عن تنظيم المعرض الدولي لإعادة إعمار سوريا (إعمار)، المقرر إقامته بين 29 تشرين الأول/ أكتوبر، والأول من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبلين.
وفي هذا السياق، أوضح وزير الأشغال العامة والإسكان مصطفى عبد الرزاق أن المعرض يهدف إلى تشجيع مشاركة القطاع الخاص، والانخراط في مشاريع عمرانية جديدة، مؤكدًا أن ملف الإعمار يمثّل مسؤولية وطنية شاملة، تستند إلى أولويات المواطن، وإعادة الحياة الكريمة في المدن والبلدات السورية.
الحملات الأهلية.. جسور نحو إعادة الإعمار
انطلقت في سوريا خلال الأشهر الأخيرة موجة من الحملات الأهلية التي عكست روح التكافل المجتمعي في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
البداية كانت من مدينة حمص مع حملة “أربعاء حمص” منتصف آب/ أغسطس 2025، التي جمعت أكثر من 13 مليون دولار، ثم تبعتها حملة “أبشري يا حوران” التي تجاوزت تبرعاتها 37 مليون دولار في يومها الثاني، مخصصة لدعم قطاعات التعليم، والصحة، والمياه، وتأهيل البنى التحتية.
مبادرة محلية بأرقام مليونية.. حملة #ابشري_حوران تجمع 36 مليون دولار في يومها الأول.. ما التفاصيل؟ pic.twitter.com/jvbk43rPWz
— نون بوست (@NoonPost) August 31, 2025
أما في دير الزور، فحققت حملة “دير العز” هدفها المُعلن بتجاوز 25 مليون دولار، ساهمت فيه وزارة المالية بـ10 ملايين دولار، إلى جانب تبرعات من منظمات مثل “سامز” و”انصر”، ورجال أعمال أبرزهم موفق قداح.
ولم تقتصر هذه المبادرات على جمع التبرعات، بل تحولت سريعًا إلى مشاريع ميدانية، مثلما فعلت جمعية “البنيان المرصوص” في حمص من خلال دعم أسر الشهداء في حي بابا عمرو، وحفر بئر مياه كحلٍّ إسعافي للتخفيف من معاناة الأهالي.
الباحث الاقتصادي مناف قومان يرى في هذه الحملات وجهًا من وجوه اللامركزية العملية؛ فهي تسد فجوة الدولة المركزية العاجزة عن تلبية الاحتياجات بالسرعة المطلوبة، وتمكّن المجتمعات المحلية من تحديد أولوياتها وتنفيذ مشاريعها الخدمية. كما تعزز هذه المبادرات شعور الانتماء والملكية لدى المواطنين، وتُدخل مبادئ الحوكمة الرشيدة من شفافية، ومساءلة، ورقابة متبادلة.
لكن قومان يحذّر في حديثه لـ”نون بوست” من جانب آخر، أن هذه الحملات قد تسمح للحكومة المركزية بالانسحاب أكثر من واجباتها الأساسية تجاه الخدمات، فضلًا عن كونها مبادرات قائمة على الحماس الشعبي والتبرعات، ما يجعلها معرّضة للتراجع مع الوقت، لذلك يعتبرها “إسعافًا أوليًا” قادرًا على تغطية الاحتياجات العاجلة.
وحول هذه الحملات، أصدر مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية دراسة، أكّد فيها أنه من المتوقع أن تترك هذه الحملات المجتمعية أثرًا معنويًا عميقًا في نفوس السوريين، إذ تعزز الأمل بقدرة المجتمع على صناعة التغيير من الداخل، بعيدًا عن انتظار الحلول الخارجية أو الاستدانة من المؤسسات الدولية التي تُرهق الدول ببرامج اقتصادية معقدة.
وأضاف المركز أن رؤية أبناء المدن والقرى يتكاتفون لإعادة بناء مدارسهم ومستشفياتهم تمنح شعورًا متناميًا بالفخر والانتماء، وتعيد الثقة بالقدرة على تجاوز الأزمات عبر التضامن الشعبي.