في التاسع عشر من يونيو المنصرم، وعلى إثر الحرب العدوانية على إيران، تعرض مبنى بورصة الألماس الإسرائيلية لإصابة مباشرة جراء القصف الإيراني على الكيان ردًا على استهداف العمق الإيراني وساسته وعلمائه. لتُضاف هذه الضربة إلى سلسلة متتابعة من الضربات الاقتصادية والجيوسياسية التي أصابت قطاع الألماس الإسرائيلي خلال الأعوام الأربعة الأخيرة.
من بين هذه الضربات كان طوفان السابع من أكتوبر، الذي مثّل ضربة ثلاثية الأبعاد داخليًا، إقليميًا، وعالميًا، لهذا القطاع الاقتصادي الحيوي، المرتبط بغسيل وجه “إسرائيل” الاستعماري، وعلاقاتها العابرة للنُظم الدولية، ودعم مكانتها الاقتصادية، وتمويل أنشطتها التوسعية والعسكرية على حدٍ سواء.
ولفهم أبعاد الضربة، تأتي هذه المادة لتُضاف إلى مواد سابقة استعرضت مفاصل محددة في المجتمع الإسرائيلي، بعضها فاقع، وكثيرٌ منها خفي، عمل السابع من أكتوبر على قلبها رأسًا على عقب، وعلى إعادة برمجتها ليعود الكيان وفقًا لها إلى مربعه الأول عام 1948؛ مجتمعٌ عسكري يعيش عقدتي الخوف والأمن.
من هنا، تُمسك “نون بوست” بتلابيب الألماس الإسرائيلي، محاولة صقله وتفكيكه، فتبحث في تاريخ التداخل بين الصهيونية والألماس على أرض فلسطين، ثم تستعرض أدواره في الحروب والحكومات الاحتلالية المختلفة حتى منتصف 2020، حين بدأت خريطة الألماس الإقليمية تتغير على حساب الهيمنة الإسرائيلية، وانتهاءً بالطوفان الذي أغرق الألماس الإسرائيلي بالدم.
حرفة الاستعمار
لا توجد أدلة قاطعة على حصرية حرفة الألماس بالديانة اليهودية، لكن أواخر القرن الخامس عشر شهدت ثورة في هذه الصناعة نتيجة اختراع اليهودي لودفيك فان بيركن أداة “سكيف” (scaif)، وهي عجلة تلميع مُشبّعة بمزيج من زيت الزيتون وغبار الماس، تقوم بصقل جميع جوانب الماس بشكل متناظر بزوايا تعكس أقصى قدر من الضوء.
وهو الاختراع الذي ساهم في تربع الألماس على عرش الأحجار الكريمة في عيون أمراء أوروبا، بالتوازي مع امتهان اليهود في أراضي الإمبراطورية العثمانية لحرف الصياغة والمجوهرات، وهو ما أهلهم للانفتاح على تحديثات هذه الحرف، حتى عام 1937، حين استطاع مهاجرون يهود من هولندا وبلجيكا افتتاح أول مصنع لتلميع الألماس في فلسطين.
كان ذلك في بتاح تكفا – نتانيا (شمال تل أبيب)، حيث حظي مصنع كُلٍ من تسفي روزنبرغ وآشر (أنشيل) داسكل (Asher Anshel Daskal وZvi Rosenberg)، ومصنع شيمشون هوليندر اليهودي البلجيكي، وعامله أبراهام هيرشكوفيتش، بدعمٍ من السياسات المالية الانتدابية، فتم إزالة رسوم الاستيراد على الأحجار الخام المستوردة بنسبة 15%، لتصعد صناعة الألماس خلال أقل من عقدٍ واحد، بالتوازي مع تراجع صناعة الألماس الأوروبية، وتستوعب أكثر من 3 آلاف عامل، في 33 مصنعًا، باستثمارات رأسمالية صهيونية بلغت قيمتها أكثر من 1.3 مليون جنيه فلسطيني، (أي ما يقارب 153.85 مليون دولار أمريكي بقيمة اليوم).
الاستثمار لم يكن وحده دليل القيمة الخاص بالألماس، بل هناك حجم الصادرات الذي وصل إلى 3,200,000 جنيهًا فلسطينيًا، (372.6 مليون دولار بقيمة العام 2025)، وتنوعها بوصولها لكلٍ من الولايات المتحدة وكندا والهند، ليحقق القيمة الأكبر للسلع الفردية المصدرة من فلسطين الانتدابية عام 1944، وهناك شبكة علاقات الاستيراد، من الكونغو وأفريقيا.
هذه الأرقام دفعت رئيس المنظمة الصهيونية حاييم وايزمان (أول رئيس دولة للاحتلال) لدعم قطاع الألماس وما ينتجه من عملة أجنبية، لتُصبح كل من نتانيا ورامات غان من أبرز المراكز العالمية لصقل الألماس الخام، فيما استُثمرت إيراداتها لتكديس عملة صعبة تُمول الاستيطان وشراء الأسلحة وأنشطة الحركة الصهيونية، قبل النكبة.
بُعيد النكبة، أدخل رئيس وزراء الاحتلال الأول، ديفيد بن غوريون، قطاع الألماس ضمن خطط الاقتصاد الوطني المبكر، باعتبارها صناعة استراتيجية. وبينما قاطعت دولٌ مختلفة الكيان المستعمِر، وجد رئيس شركة الألماس -المحتكرة للألماس الإفريقي- (De Beers) أرنست أوبنهايمر ضالته في التجار اليهود.
وهكذا، ساهم أوبنهايمر خلال الخمسينيات والستينيات في تزويد “إسرائيل” بكميات كبيرة من الألماس الخام المستخرج من مناجم إفريقيا (جنوب أفريقيا، بوتسوانا، ناميبيا..)، وهو ما اعتُبر دعمًا اقتصاديًا لـ”إسرائيل”، بينما وجدت فيه (De Beers) شراكة لصقل الألماس وتوزيعه، تعززت عبر الوسيط والصناعي اليهودي مئير فايسغال، الذي بنى خطًا ممتدًا من المصانع الإسرائيلية إلى شركات الألماس الأوروبية.
ومع ارتفاع حجم صادرات الألماس إلى “إسرائيل”، تم تأسيس بورصة الألماس عام 1968 في رامات غان، التي تحولت لاحقًا، على يد موشيه شنيتسر (Moshe Schnitzer)، إلى أكبر مركز عالمي لتجارة الألماس الخام والمصقول دون منازع، بنسبة وصلت مطلع الثمانينيات إلى 40% من حصة السوق العالمي، بينما شكل الألماس المصقول 20% من الصادرات الإسرائيلية. فيما وثقت سجلات الصناعة نمو صادرات الألماس خلال فترته من 200 مليون دولار إلى 3.4 مليار دولار سنويًا.
ألماس الدم والدمار
لم تقتصر قيمة الألماس على حجم صادراته وتمويله لاقتصاد الاحتلال، بل امتدت لدوره في تعزيز علاقات الكيان الغريب مع أنظمة إفريقية وليدة للاستعمار، مثل الكونغو (زائير سابقًا)، وأنغولا، ليبيريا، سيراليون، وتقديم دبلوماسية الألماس كواجهة لعلاقات التجار الإسرائيليين بالشركات الأوروبية.
بدأ ذلك مبكرًا جدًا، ففي عام 1951 انضم قطاع الألماس الإسرائيلي إلى الاتحاد العالمي للألماس، وفي عام 1956 عُقد المؤتمر العالمي للألماس للمرة الأولى في البلاد، ثم وبعد عامٍ واحدٍ فقط من النكسة، عُقد المؤتمر العالمي الخامس عشر للألماس مرة أخرى في “إسرائيل” وانتُخب موشيه شنيتسر رئيسًا للاتحاد العام لبورصات الألماس العالمية للمرة الأولى.
لكن هبات الألماس لم تجر وفق المخططات الإسرائيلية، فبعد استقلال عددٍ من الدول الإفريقية (1960-1965) أصبحت إمدادات الألماس الخام في خطر، نتيجة وقوعها في يد أنظمة دكتاتورية تمارس القمع والقتل، واستغلالها تمويل هذه الأنظمة للحفاظ على سطوتها.
هُنا، قدم التجار الإسرائيليون أنفسهم كوسطاء لشراء الألماس (الكونغولي غالبًا) بأسعارٍ منخفضة وتهريبه بعيدًا عن الرقابة الرسمية، ومن ثم صقله وبيعه في أوروبا، حيث وُثق دور إسرائيلي مركزي في تقديم دعمٍ سياسي وعسكري على شكل تدريب وأسلحة ومستشارين، للدكتاتور موبوتو سيسي سيكو، وغيره من القادة الأفارقة، مقابل امتيازات في تجارة الألماس.
وهو ما انعكس في صادرات الألماس التي ضربت عام 1977 حاجز المليار دولار للمرة الأولى، وتواصل بدعمٍ رسمي من يتسحاق رابين (رئيس الوزراء) وشمعون بيريس خلال فترة حكمهما، حتى تكاثفت التقارير الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية مثل Global Witness وHuman Rights Watch، والتي أكدت دور تجار “إسرائيليين” في تهريب -غسيل- الألماس القادم من مناطق النزاع، وهو ما عُرف حينها بـ “ألماس الدم” أو “ألماس الصراع”.
كان من بينهم لييف ليفاييف (Lev Leviev)، رجل الأعمال الذي سيطر على تجارة الألماس الخام الإفريقي من أنغولا وسيراليون، متحديًا احتكار (De Beers)، ومؤسسًا إمبراطورية (Africa Israel Investments)، والمسؤول عن غسيل الألماس الخام من ليبيريا مارتن رفائيل.
المثير أن قطاع الألماس الإسرائيلي احتفظ بصمته طويلًا، حتى عام 2000، حين انعقد المؤتمر الدولي الأول للألماس الخام في “إسرائيل”، فقدم القطاع دعمه لإجراء استشاري كانت حكومات أفريقية قد اقترحته (جنوب أفريقيا، ناميبيا وبوتسوانا)، عُرف بإجراء كيمبرلي (Kimberley Process).
وفقًا لهذا الإجراء، تقوم وزارة الاقتصاد في الدول المنضوية بقطاع الألماس بمراقبة كافة عمليات المتاجرة بالألماس الخام والمصقول، وإصدار شهادة وفقًا لذلك تؤكد أن الألماس ليس “ألماس صراع”. وهنا تلقف قطاع الألماس إجراء كيمبرلي ليُصدر أول شهادة عالمية عام 2003.
هذا الالتفاف الذي تجاوز فلسطين كمنطقة صراع، عمل لصالح الألماس “الإسرائيلي” فارتفع عدد موظفوه لأكثر من 15 ألف موظف، وبلغ عدد الشركات العاملة فيه 1500 شركة، وتجاوزت قيمة صادراته من الألماس 5 مليار دولار سنويًا، وبلغت نسبتها عام 2024 8% من الصادرات، كما أنها من الصناعات القليلة التي يعمل بها المتدينون الحريديم، الذين وصلت نسبتهم فيها إلى 15%.
لم تدم إعادة غسيل الألماس طويلًا، فخلال العقد الأول من القرن الجديد، تم توجيه اتهامٍ رسمي لـ”إسرائيل” بالتورط في استيراد الألماس بطريقة غير شرعية من القارة الأفريقية مقابل تأجيج الصراعات، وخاصة في أنغولا وسيراليون، كما اتُهم الجيش بمساهمته في سرقة 25% من الماس الخام المستخرج.
إضافةً إلى الاتهام بتمويل الاستيطان وأنشطة الجيش بحق الفلسطينيين، من خلال رجل الأعمال ليف ليفاييف الذي يُسيطر على مناجم الألماس في كلٍ من الكونغو الديمقراطية، والكاميرون، وسيراليون، وأنغولا، وليبيريا، وساحل العاج، وغينيا، وزائير، وإفريقيا الوسطى، وتنزانيا، وحتى جنوب السودان.
لاحقًا، واجه رجل الأعمال الإسرائيلي لييف ليفاييف فضائح مالية وأزمات قانونية -نتيجة تهريبه 81 مليون دولار من الألماس-، بينما فقد رئيس بورصة الألماس شموئيل شنيدر قدرته على مواجهة قطاع الألماس الناشئ في كلٍ من الهند ودبي، قبل أن تُطيح به.
فيما تعرض قطب الألماس بيني شتاينميتز للاعتقال على خلفية أعمال إجرامية وقعت ما بين 2006 و2013، بينما فُرض على الملياردير “الإسرائيلي” دان جيرتلر، و13 آخرين من القطاع نفسه، عقوبات من قبل الولايات المتحدة، بموجب قانون يسمى “قانون ماجنيتسكي” في العام 2018، نتيجة انتهاكهم حقوق الإنسان وقضايا فساد.
الألماس يسقط حُرًا
أما أبرز ضربة تلقاها قطاع الألماس الإسرائيلي فقد جاءت في السابع من أكتوبر، التي اكتسبت زخمها لتزامنها مع عدة ضربات مثل تراجع الاهتمام العالمي بالألماس الطبيعي مقابل الألماس الصناعي، وهو ما صدّر دبي كقطبٍ جديد في تجارة الألماس، بينما عمل الانكفاء الإسرائيلي عن صقل الألماس الصغير لصالح صعود الهند (مدينة سورات) كمركز أول لصقل الألماس عالميًا.
أدى ذلك إلى تراجع المكانة الإسرائيلية لصالح الإنتاج الصيني من الألماس، والموقع الجغرافي والحوافز الضريبية لدُبي، وانخفاض قيمة اليد العاملة في الهند. كما نشطت حركات المقاطعة (BDS) في نزع الشرعية الأخلاقية للألماس الإسرائيلي مطالبة بإدراجه ضمن ألماس الدم، وتوسيع تعريفه ليشمل الأنظمة والدول القمعية وليس المليشيات والتنظيمات فقط.
ترافق ذلك مع الأزمات الداخلية الإسرائيلية التي أدخلت بورصة رامات غان في صراع مع الحكومة حول الضرائب وتسهيلات التصدير، وهو ما ضاعف من أزمة انخفاض الشيكل وارتفاع التضخم ليؤثر على قدرة الصناع المحليين على المنافسة الإقليمية والدولية.
ثم جاء الطوفان، فأودى بالبقية الباقية، حيث تعطل قطاع الألماس بسبب الاستدعاءات العسكرية، وانخفضت صادرات الألماس المصقول بنسبة 50% مقارنة بالفترة ذاتها من العام السابق، ثم استقرت النسبة عند 15-20%، بينما انخفضت الإيرادات بنسبة 57% مقارنة بعام 2022، كما دفعت حالة الاضطراب السياسي والاقتصادي، والضغوط الشعبية وحملات المقاطعة، المستثمرين الأجانب للنأي عن السوق “الإسرائيلي” لصالح دبي.
وحتى على صعيد المشاركة في الفعاليات الدولية، الذي ترى فيه وزارة الاقتصاد وبورصة الألماس فخرًا لها، فقد توقفت مشاركة “إسرائيل” في معارض الألماس الكبرى مثل Hong Kong Jewellery & Gem Fair و Antwerp Diamond Fair، حيث خضعت الدول المستقبلة للاحتجاجات العلنية ضد الوفود الإسرائيلية.
هُناك أيضًا تقلص حجم تجارة الألماس البينية مع الهند بداية من عام 2024، بينما مُنعت الشركات الإسرائيلية من العمل في بعض الدول الإفريقية، نتيجة قضية جنوب أفريقيا ضد “إسرائيل” وقرار 5 دول وقف شحن البضائع إليها، واستعادة السيطرة الوطنية على الموارد المحلية.
من العوامل التي أسهمت في تأثير الطوفان على اقتصاد الألماس هو تذبذب حركة الشحن الجوي، وإيقاف العديد من خطوط الطيران الدولية لرحلاتها، ما أثر على نقل الألماس الذي يعتمد الشحن الجوي السريع والمؤمن، ودفع شركات الشحن العالمية لاستخدام مراكز بديلة مثل دبي.
هذا العامل سلَّط الضوء على طبيعة العلاقة مع دبي، فبينما نأت معظم المعارض والشركات عن السوق “الإسرائيلي”، تقدمت التجارة مع دبي، حيث استورد القطاع من الإمارات ألماسًا للصقل بقيمة 57 مليون دولار، ما يُمثل 51% من وارداتها، في الوقت الذي استوردت فيه الإمارات ما قيمته 20 مليون دولار من الألماس الخام، يمثل 19% من الصادرات “الإسرائيلية”.
المؤسف أن صناعة الألماس تُساهم بنحو مليار دولار من ميزانية الجيش سنويًا، ما يجعل عمليات الاستيراد والتصدير تصب في صالح تمويل عمليات الاحتلال ضد الفلسطينيين.
في الواقع، يبدو أن الألماس الإسرائيلي، بعد أكثر من سبعة عقود على لمعانه المصطنع، بدأ يفقد بريقه نتيجة الطوفان وعوامل أخرى، لكن أيًا كان السبب، فالجيد أن يتراجع قطاعٌ آخر يدعم الإبادة، ويعزز النفوذ الاقتصادي والدولي للاحتلال.
اليوم لم يعد الألماس الإسرائيلي يحتكر، ولم تعد الأزمات والمقاطعة والضغط الدولي عابرة، وغدا من الممكن اعتبار الألماس رمزًا لانحدار المشروع الصهيوني لا لسطوته، أما العتب فعلى أولئك الذين يحاولون إنقاذه، وإعادة الدماء إلى ما بقي من رميمه.