منذ نكبة 1948، بل وقبلها، شكّلت الساحة الموسيقية السورية صوتًا داعمًا لفلسطين، سواء عبر الأغنية أو الموسيقى البحتة، أو من خلال احتضان الفنانين الفلسطينيين وإسنادهم. وحتى في اللحظات التي كانت فيها سوريا تعيش أزماتها، ظلّت تنظر إلى تلك الأزمات باعتبارها جزءًا من مصير واحد مع فلسطين.
هنا يبرز السؤال: ما الذي قدّمه الموسيقيون السوريون للقضية الفلسطينية في عقودها الأولى؟ كيف أسندوا زملاءهم الفلسطينيين فنيًا وإنسانيًا؟ ولماذا ظلّ صوت الأغنية السورية عميقًا في حزنه على فلسطين؟
هذه الأسئلة تشكّل مدخلًا لفهم طبيعة العلاقة التاريخية بين الفن السوري والقضية الفلسطينية، علاقة امتزجت فيها المعاناة بالمقاومة، والجرح بالنغمة.
جذور الحضور السوري في فلسطين قبل 1948
لطالما كانت فلسطين وطنًا للفنانين السوريين والعكس، ويورد الإخوة إلياس وسليم وفيكتور سحاب في كتابهم “الموسيقى والغناء في فلسطين قبل 1948″، قائمة كبيرة من الفنانين السوريين الذين عملوا في فلسطين منذ عام 1870، سواء عبر إذاعة القدس أو من قبلها، ومن بينهم محمد علي الأسطة، وتوفيق الصباغ، وزاكي الحلبي، والشيخ علي الدرويش، ومحمد عبد الكريم “أمير البزق”، وماري جبران، وعبد الفتاح سكر، وأحمد القفش، وغيرهم.
بعد نكبة 1948، ثم هزيمة 1967، تحولت سوريا إلى ملاذ لعدد كبير من الموسيقيين والمطربين الفلسطينيين الذين استقروا فيها ضمن موجات اللجوء، ومنهم من قضى حياته كاملة في دمشق حتى وفاته، كما يوثق صميم شريف في كتابه “الموسيقى في سوريا”.
من أبرز هؤلاء: روحي الخماش، إبراهيم عبد العال، يحيى السعودي، محمد غازي، باسيل سروة (والد سليم وإميل سروة)، المعلم يوسف بتروني، وميشيل عوض الذي توفي في دمشق عام 2007.
وقد عاش هؤلاء الفنانون وعملوا في سوريا، وأسهموا في إثراء الحياة الموسيقية فيها. فعلى سبيل المثال، ميشيل عوض، عازف الكمان الشهير، التحق بإذاعة دمشق كعازف في فرقتها الموسيقية الأولى، وتعاون مع شفيق شبيب، رئيس الدائرة الموسيقية، في تسجيل وحفظ العديد من درر التراث العربي من بشارف وسماعيات ولونغا، إضافة إلى الأدوار والموشحات والقدود والقصائد. كما عمل مدرسًا في المعهد الموسيقي الشرقي، وتتلمذ على يديه جيل من الموسيقيين البارزين مثل أمين الخياط، صبحي جارور، عدنان أبو الشامات، هشام الحموي وغيرهم.
وبعد هزيمة 1967 واحتلال القدس الشرقية، استقبلت دمشق الموسيقار المقدسي حسين نازك، الذي كان قد تعرّف سابقًا إلى الموسيقي السوري يحيى السعودي، مدير قسم الموسيقى الشرقية في الإذاعة السورية آنذاك. وبعد استقراره في دمشق، تعاون نازك مع فرق موسيقية عدة، مبرزًا مهارته في الألوان الغربية، خصوصًا الجاز، ولحّن لعدد من المطربين، بينهم المطربة ميادة.
لاحقًا أسس نازك فرقة “أغاني العاشقين” التي خصصت برامجها الغنائية بالكامل للقضية الفلسطينية، ثم أسس فرقة “أشبال التحرير”، وأخيرًا فرقة “زنوبيا”. ومن أبرز أعماله برنامج “بأم عيني”، الذي ضم أغنيات كتبها شعراء فلسطينيون كبار مثل محمود درويش، سميح القاسم، وتوفيق زياد، وقد لاقى البرنامج نجاحًا واسعًا دفع لتحويله إلى مسلسل تلفزيوني.
أغنيات وموسيقى سورية ترفض نكبة 1948
بعد مضي عام أو أكثر قليلاً من خروج الاحتلال الفرنسي من سوريا، أعلنت الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين عام 1947. فانطلق الفدائيون السوريون ضمن جيش التحرير العربي في الشهر التالي لمهاجمة الكيان الصهيوني الوليد، رغم الإنهاك الذي عانت منه سوريا نتيجة عقود من الاحتلال الفرنسي.
وخلال حرب عام 1948، كانت الإذاعة السورية تصدح بالأناشيد والأغنيات الداعمة لفلسطين وللجيوش التي تحارب لتحريرها، بزعامة الفنان صبحي سعيد، الذي كان وقتها نقيبًا للموسيقيين السوريين ومراقبًا لقسم الموسيقى في إذاعة دمشق الجديدة، التي تأسست بعد جلاء المستعمر.
وبنفسه لحن صبحي سعيد عددًا من الأغنيات والقصائد، منها “مصرع الباطل” التي كتبها عبد الله البداوي وغنتها المطربة “نهاوند”، وتقول كلماتها:
“يا روابي القدس نادي وانشدي لحن الجهاد
قد ملأنا الأرض جندا سئموا عيش الرقاد
فأغاروا اليوم حتى أزهقوا روح الأعادي
فإذا الأشلاء تعلو ثم تذوي كالرماد
وإذا صهيون يبدو لابسا ثوب الحداد”
ويلاحظ أن القصيدة مفعمة بالحماسة والطموح في الانتصار، وتشجيع الجنود على الجهاد لإلباس الصهاينة ثوب الحداد، كما تقول كلماتها.
لم يعبر السوريون عن ثورتهم ضد الاحتلال قبيل حرب 1948 وخلالها بالأغنية وحدها، بل بالموسيقى البحتة أيضًا. ففي عام 1947، قدم المؤلف الموسيقي السوري هشام الشمعة قطعتين موسيقيتين بعنواني “الحرية” و”الثورة”. وكانت إذاعة دمشق تبثهما كثيرًا، لتصلا من خلال الأثير إلى فلسطين، كما تصل بالطبع إلى الداخل السوري. تلقى الجمهور في سوريا وفلسطين هذه القطع كتعبير موسيقي بلا كلمات عن الرغبة في الحرية والثورة ضد المحتل.
حينها كانت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني، الذي كان يعمل جاهدًا لإعلان قيام إسرائيل، وهو ما حدث خلال نفس العام.
وتلقى هشام الشمعة رسالة من القنصلية السورية في حيفا، بتوقيع هشام الشبيب الموظف بها، تنقل للشمعة كيف تلقى الشعب الفلسطيني موسيقاه بترحاب وحماسة. نوردها كما نقلها صميم شريف:
“بودي أن أتقدم لك بأخلص التهاني القلبية للإبداع الذي وصلت إليه بتلحينك قطعتي “الحرية” و”الثورة”، تلك القطعتان اللتان يحق لهما أن تدرجا في سجل الخلود. وإنه لما يثلج القلب، ويبعث للفخار، أن نرى في أبناء العروبة من يتوصل إلى هذه الدرجة من السمو في الإجادة الفنية.. لقد وجدت في قطعتيك تصويرًا صادق الأثر لسوريا وفلسطين في أجلى معاني الحرية العزيزة التي نالتها أولاهما، والثورة الحمراء التي تقوم بها هذه الأخيرة.. وجدير بي أن أشير إلى مبلغ تأثير ألحانك العصرية في نفوس شعب هذه البلاد (فلسطين) مما يجعلني أتقدم طالبًا المزيد من تلك الروح الساحرة التي تتجلى في مقطوعاتك”.
ويلاحظ أن جمال القطعتين الموسيقيتين الفني وصدقهما التعبيري جعلاهما صالحتين للاحتفاء بهما كتعبير عن الثورة السورية التي انتهت بالتحرير من الاستعمار الفرنسي، وتعبير عن الثورة الفلسطينية المندلعة ضد الصهاينة والبريطانيين. وهذا ما يثبت من ناحية كيف أن المصير واحد والقضية واحدة للشعبين، ومن ناحية أخرى كيف أن الإبداع يجعل من العمل الفني صالحًا لأكثر من تأويل، لصالح أكثر من قضية.
وبعد هزيمة 1948 مباشرة، غنت ماري جبران قصيدة “دمشق”، التي كانت أول أغنية تُغَنَّى بعد النكبة، وأذاعتها الإذاعة السورية. وتقول كلماتها:
“هذي دمشق على العهد الذي كان .. لم تتخذ غير دين العرب إيمانا
طافت عليها كؤوس الدهر صافية .. حينا ومترعة بالجور أحيانا
فما طغت وهي في نعمائها بطرا .. ولا وهت تحت وطء الذل بنيانا
نبت العروبة عرقا طاب مغرسه .. وموئل الوحي إنجيلا وقرآنا
تلفتت وهي نشوى في خمائلها .. تستقبل العرب قوادا وأركانا
وتسترسل حتى تصل إلى: “هل تسمعون على القدس الشريف صدى .. يقطع الليل أوجاعًا وأشجانا”.
ويلاحظ أن القصيدة، وإن اعترفت بالوجع نتيجة الهزيمة، إلا أنها تمجد دمشق كحارسة للعقيدة، وبيتًا للعرب المهجرين من فلسطين. كما تشد من عضد المجاهدين وتحثهم على الاستمرار، وتقول: “رسل العروبة شدّ الله أزركم، ولا نبا منكم عزم ولا هانا”.
وفي نفس التوقيت عام 1948، غنى الفنان رفيق شكري “قسم العودة”، كما غنت صباح فخري “مرحب مرحب بالعربان” عبر إذاعة دمشق. وتقول كلماتها:
“مرحب مرحب بالعربان اللي تحارب في الميدان
عزم وقوة تهد جبال وع جباهم نور الإيمان
العربان لما بتقول توعد وعد يكون مفعول
بدها تحرر فلسطين ومهما الحرب عليها تطول”
تلك الأعمال الفنية الحماسية، وذاك الانشغال بالقضية الفلسطينية كان في وقت تعاني فيه سوريا من مشاكل داخلية عميقة، فقد كان الاقتصاد يعاني من ركود شديد وتدهور لقيمة الليرة السورية. لكن هذا الوضع الاقتصادي المتدهور لم يحرك الشارع السوري ضد الحكومة، بل تحرك بعد النتيجة المخيبة للآمال في حرب 1948. فاندلعت المظاهرات وأعمال العنف ضد النظام السياسي بقيادة شكري القوتلي، وكانت تلك الأغاني والموسيقى وقودًا لهذه الاضطرابات الشعبية.
بعد الهزيمة.. غناء السوريين لفلسطين لم يتوقف
بعد الحرب، ورغم إعلان الهزيمة، لم تتوقف الأغنية السورية عن دعم القضية الفلسطينية، والتحريض على استرداد الأرض العربية المغتصبة. وتبارى الفنانون في إنتاج أغنيات جديدة على مدار العقود اللاحقة.
صباح فخري، على سبيل المثال، غنى عددًا من الأغنيات بعد “مرحب مرحب بالعربان” لأجل فلسطين، منها “يا حماة الحمى”، “سأحمل روحي على راحتي”، وغيرها.
كما غنى رفيق شكري “قسم العودة”، و”نشيد الجهاد”، و”يا دارنا”، و”مع السلامة”، التي غنتها أيضًا ماري جبران من تلحينه، ثم “نشيد الانتصار”، وغنت ماري جبران أيضًا أغنية “إلى فلسطين”. كما غنت المطربة كروان “أنتِ لنا”.
ومن دمشق، انطلق “نشيد الثأر” يوم 15 فبراير/ شباط 1961، في حفل أضواء المدينة، وأعيد غناء النشيد أكثر من مرة داخل دمشق. النشيد الذي ألفه أحمد شفيق كامل، ولحنه ووزعه علي إسماعيل، وأدته مجموعة فنانين من مصر وسوريا ولبنان، اشترك فيه من سوريا رفيق شكري وفايزة أحمد. ودعا النشيد العرب في كل مكان إلى الأخذ بالثأر من المستعمرين والمحتلين، وفي مقدمتهم إسرائيل، التي تغتصب أرض فلسطين.
ومما يقوله النشيد: “يا أخي العربي ياللي اغتصبوا منك أرضك في فلسطين، ياللي العالم نام عن حقك واحنا وحقك مش نايمين”، ويقول أيضًا: “يا أخي العربي ياللي الدم في تل أبيب بينادي عليك، ياللي رقاب صهيون تستاهل ضربة سيف وتكون بإيديك”.
أما الموسيقار فريد الأطرش، السوري المولد، الذي عاش في مصر أغلب حياته، فغنى “المارد العربي”، والتي وإن كانت مكتوبة باللهجة المصرية وكاتبها حسين السيد مصري، إلا أننا لا نغفل عن كون فريد سوريًا بالأساس.
الأغنية تتحدث عن النهضة العربية ككل، معتبرة أن كل الأوطان العربية هي وطن واحد، حيث تقول “المارد العربي في العالم العربي، وطنه في كل مكان، في غزة عمان”، إلا أنها اختتمت بالحديث عن فلسطين، باعتبار أن تحريرها الهدف الأعظم للعرب جميعًا، حيث تقول: “يا فلسطين يا شعب مجاهد جيشك حاضر بالملايين، ما بقاش جرح في جسم المارد غيرك انتي بيدمي سنين، زي ما حررنا الجزاير مش هنسيبك يا فلسطين”.
حتى فهد بلان، الذي اشتهر في الستينات بأغانيه الشعبية المرحة، غنى لفلسطين أغنية “قدس العرب”، التي تدعو لمحاربة “إسرائيل”. ومن كلماتها: “من خلف قضبان اللهب فار الغضب، وزرع بإيده جمرتين في كل قلب، انهض يا شعب انهض يا شعب، اشعلها حرب اشعلها حرب ع اللي اغتصب قدس العرب”.
لماذا يبدو الألم السوري عميقًا؟
بالتأكيد غنى العالم العربي كله لفلسطين، ولكن الالتصاق الجغرافي، والوحدة العضوية الثقافية والمعاناة من الاحتلال والتهجير، جعل الألم السوري يبدو أعمق؛ ولعل ذلك يظهر في الأغنية الشعبية الجولانية “بكره منعاود لا تبكي يا عين”.
الأغنية تتحدث عن الحنين للعودة إلى الجولان (مشتاق أمشي اتدعثر بين الكدر، مشتاق أقعد ارتكي حد الحجر.. مشتاق للدحنون والزيتون).
ونلاحظ أن عناصر الكلمات متطابقة مع البيئتين الفلسطينية والسورية الجولانية؛ فالجبال والحجارة كما في الجولان هي أيضًا في الكرمل والجليل والقدس والنقب، و”الدحنون” هو اسم الزهرة المعروفة، لها نفس الاسم في فلسطين، أما “الزيتون” فموطنه الشهير فلسطين كما هو معروف وشائع.
وكما يحن الجولاني للعودة إلى موطنه، يحن الفلسطيني المهجر من أراضي 1948، ثم 1967 إلى وطنه أيضًا؛ فالمأساة واحدة والعدو واحد والبيئة واحدة والثقافة واحدة، بل إن اللهجة قد تكون واحدة، ولهذا بدت هذه الأغنية السورية وكأنها فلسطينية.
وهو الأمر الذي أكد عليه الفنان صباح فخري، في حديث تلفزيوني، حيث قال: “نحن قبل الاحتلال والتقسيم بلاد واحدة، بلاد الشام (سوريا، لبنان، فلسطين) شعب واحد، تراث واحد، مستمع واحد.. تربينا بشكل أقرب مع الفلسطينيين، والفلسطيني مثله مثل السوري”.