ترجمة وتحرير: نون بوست
على مدار عامين من الحرب على غزة، بلغ القصف الإسرائيلي من الشدة ما جعل أصداءه تُسمع في بعض الظروف الجوية هنا في تل أبيب، على بُعد 70 كيلومترًا. أما المجاعة الجماعية فقد كانت أقل صخبًا، حتى صور الأطفال القتلى نادرًا ما تخترق الفقاعة الإعلامية الإسرائيلية. فالحرب ظاهرة في الاحتجاجات المتعلقة بالرهائن، وفي النقاشات السياسية، وفي الملصقات التي تحمل صور الجنود القتلى على الجدران ومحطات الحافلات. أما المعاناة الفلسطينية، فقد بقيت بعيدة، ومجردة، لا تحرّك ساكنًا.
بعد عامين، بدأ المجتمع الإسرائيلي يتكيّف: فقد طوّر الجيش سياسة الامتناع عن استدعاء جنود الاحتياط الذين يُحتمل أن يتهربوا من الخدمة، وبدلاً من ذلك، يتوجه إلى الجنود السابقين الذين يحتاجون إلى المال أو العمل، ويعرض عليهم الانضمام إلى وحداته القتالية. وفي بعض الأحيان، تُعقد ترتيبات خاصة تتيح لجنود الاحتياط هؤلاء الاستمرار في وظائفهم الأصلية، مما يضاعف دخلهم عمليًا، ويُستعان أيضًا بمقاولين مدنيين لهدم أحياء كاملة في القطاع بشكل منهجي، ويتقاضون أجورهم عن كل منزل يُسوّى بالأرض. لقد أصبح الجيش الإسرائيلي يتشكّل كقوة عسكرية جديدة، مهيأة لعمليات دائمة في غزة والضفة الغربية والحدود الشمالية. أما بقية السكان فيواصلون حياتهم؛ حيث أصبحت الحرب هي الوضع الطبيعي الجديد.
في مطلع أغسطس/ آب؛ أمر المجلس الأمني الإسرائيلي الجيش باحتلال مدينة غزة؛ حيث يُعتقد أن بعض قيادات حماس يختبئون. بدأ الهجوم بهدم الأبراج العالية الأسبوع الماضي، لكن مصطلح “الاحتلال” مضلل: فإسرائيل لا تنوي حكم أكثر من مليون فلسطيني يحتمون في المدينة، وقد أمر الجيش الإسرائيلي، بدعم من الولايات المتحدة، السكان بالانتقال إلى ما يُسمى “المدينة الإنسانية” في الجنوب، في الوقت الذي ستسوى فيه غزة بالأرض. إن هذه الخطوة تمثل تقدمًا آخر نحو تحقيق حلم اليمين المتطرف بإزالة الفلسطينيين من الأرض بالكامل. وحتى يتحقق ذلك، سيُحشر سكان غزة في زاوية من القطاع، ويُمنحون الحد الأدنى الاحتياجات الأساسية للبقاء على قيد الحياة، وأحيانًا لا يُمنحون حتى ذلك.
تعتزم عدة دول – من بينها فرنسا والمملكة المتحدة وأستراليا – الاعتراف هذا الأسبوع بالدولة الفلسطينية خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة. ولطالما اعتبر كثيرون أن حل الدولتين قد مات، ولا شيء يبدو أبعد عن الواقع من هذا الحل في ظل الوضع الكارثي القائم، لكن الاعتراف يمثل مؤشرًا على انخراط دولي ورسالة ضرورية للإسرائيليين الذين غرقوا في عالم خيالي مريب: فقد تم مؤخرًا تسرّيب عرض أمريكي-إسرائيلي، وقيل إنه نوقش في البيت الأبيض، يتخيّل غزة الجديدة كمدينة ترفيهية مستقبلية تحت وصاية أمريكية، تُعاد صياغتها من قبل شركات دولية لتصبح “ريفيرا الشرق الأوسط” المبهرة المليئة بالمدن الذكية والسياحة ومراكز التكنولوجيا.
لكن الخطر الحقيقي في إسرائيل اليوم يكمن في غياب أي تصور للمستقبل: فالمجتمع عالق في حاضر دائم. الحرب لا تحظى بشعبية كبيرة، لكن هناك ما يكفي من المستعدين للخدمة العسكرية، وقلة فقط يحتجون ضدها بنشاط، وقد اندمجت حركة المعارضة الليبرالية واحتجاجات الأسرى مع الصراعات الداخلية السابقة للحرب حول خطط الحكومة لإضعاف القضاء، وقد خلقت هذه العوامل مجتمعة شعورًا بأزمة لا تنتهي، واستطاع نتنياهو وائتلافه تحويلها إلى مكسب سياسي.

كشف استطلاع حديث أن معظم الناس لا يهتمون بمتابعة المزيد من الأخبار الواردة من غزة؛ حيث تبث الشبكات الكبرى برامج الطبخ وتلفزيون الواقع والرياضة. وقد حقق برنامج “الأخ الأكبر” أحد أكثر مواسمه مشاهدة، ولم يُقاطع إلا للحظة قصيرة عندما اقتحم ثلاثة محتجين مناهضين للحرب خشبة مسرح الاستوديو. قال المذيع: “كل شيء على ما يرام، استمروا في التصويت!”.
في بعض الأحيان، يبدو أن القبول بالفظائع المرتكبة باسمنا يخفي وراءه ارتباكًا وإحباطًا: مجتمع فقد بوصلته، لا يعرف كيف ينهي الحرب، ويخشى الحساب القادم، ويلجأ إلى نوبات غضب عنيفة بدلاً من المواجهة.
وفي أحيان أخرى، تهيمن سردية رجعية أكثر اتساقًا لكنها أشد خطورة: فقد حلّت لغة أسطورية لدور الضحية محل الخطاب السياسي حول الصراع. إنها رواية ترى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 امتدادًا للمحرقة، وفي حماس تجسيدًا للنازية، وتعتبر الحرب الحالية عقابًا توراتيًا.
علامات هذه المفردات الجديدة القديمة منتشرة في كل مكان، فمن المعتاد بين اليهود إضافة الأحرف الأولى من عبارة “طوبى لذكراه”، لكن في هذه الحرب، تُخلّد ذكرى كل جندي أو ضحية مدنية بعبارة “الله سينتقم لدمه”، وتظهر آيات مثل “طاردت أعدائي فأهلكتهم” (صموئيل الثاني 22:38) في مقرات القيادة العسكرية وأوامر القتال، كما وزّع الحاخام العسكري في بداية الحرب تقويمًا زمنيًا يضع حملة غزة ضمن خط زمني أسطوري يشمل انتصار داوود على جالوت واحتلال إسرائيل للضفة الغربية وغزة عام 1967.
إن هذا التحول نحو التفكير الأسطوري – فكرة أن اليهود والفلسطينيين محكومون بصراع أبدي صفري على الأرض نفسها – لا يهيمن فقط على المجتمع الإسرائيلي، بل على معظم التفكير السياسي في الخارج، وهو يحجب الواقع اليومي الذي أدى إلى المذابح الحالية: نظام سياسي يحكم فيه شعب ويُحكم الآخر، كما أنه يضيّق الخيال السياسي، ويقلّص إمكانيات الحل، ويغذي السكون والسلبية في وقت تشتد فيه الحاجة إلى التحرك.
“الغد هو الأمس” هو عنوان مناسب لكتاب جديد من تأليف اثنين من المفاوضين السابقين وخبيرين في الصراع. يلاحظ كل من حسين آغا وروبرت مالي أن الحرب الحالية ليست مجرد رجوع إلى حقبة ما قبل عملية السلام قبل عقود، وأن التدمير المنهجي لغزة ليس مجرد تكرار للنكبة، أي التهجير الجماعي للفلسطينيين لإنشاء إسرائيل. لكن هناك شيء جوهري في كلا المجتمعين يبحث في الماضي عن معنى سياسي، وهو جوهر هويتهما الذي يطفو الآن على السطح.
مالي، الذي كان عضوًا بارزًا في فريق التفاوض في عهد بيل كلينتون، هو ابن يهودي مصري مناهض للصهيونية، كان متعاطفاً مع القضية الفلسطينية ويعرف الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. كدبلوماسي شاب، حضر مالي قمة كامب ديفيد عام 2000 التي كان يُفترض أن تُفضي إلى سلام دائم بين إسرائيل والفلسطينيين، لكنها انتهت بإشعال شرارة الانتفاضة الثانية قبل 25 عامًا من هذا الشهر، وشغل لاحقًا منصب منسق الشرق الأوسط في إدارة أوباما ومبعوثًا في المحادثات النووية الإيرانية. أما آغا، المفكر ذو الأصول الإيرانية والعراقية واللبنانية، والمدرس في جامعة أكسفورد، فقد كان مستشارًا لياسر عرفات ومحمود عباس لفترة طويلة، وعمل كمبعوث لهما في قنوات التفاوض الرسمية وغير الرسمية.
وقد أدت خلفياتهما الفريدة – حسين الذي اعتُبر فلسطينيًا بالاختيار لا بالوراثة، ومالي الذي نشأ في بيئة مناهضة للإمبريالية – إلى أنهما أصبحا في أكثر الأحيان صوتين معارضين في الأوساط الدبلوماسية، من داخلها وخارجها في آن واحد. فبعد فشل كامب ديفيد، تحدّيا الرواية السائدة التي عبّر عنها الرئيس كلينتون وكبار فريق السلام التابع له، والتي ألقت اللوم كاملاً على عرفات والطرف الفلسطيني لرفضهم “العرض السخي من إسرائيل”.
بعد مرور عام على القمة، نشر آغا ومالي مقالًا أثار جدلاً واسعًا في مجلة “نيويورك ريفيو أوف بوكس”، أشارا فيه إلى أن الانحياز الأمريكي العميق لإسرائيل أدى إلى تحضير سيء للقمة، وآمال غير واقعية، وسوء فهم جوهري من جميع الأطراف، وحذّرا من أن إلقاء اللوم على الفلسطينيين وحدهم ليس ظلمًا فحسب، بل وصفة لكارثة.
وبعد أكثر من عقدين، عاد الاثنان بتشخيص أكثر جذرية، شكلته أيضًا تجاربهما في المحادثات اللاحقة. وفي كتابهما “الغد هو الأمس”، يجادلان بأن عملية السلام كانت محكومة بالفشل منذ البداية، ليس بسبب أخطاء تكتيكية أو سوء نية، على الرغم من وجودها بكثرة، ولكن بسبب سوء فهم جوهري للصراع نفسه.
ويكتب مالي وأغا أن المفاوضات حاولت قمع التاريخ نفسه، لأن ما يحرك الإسرائيليين والفلسطينيين ليس المصالح الملموسة فقط، بل التوق الوجودي المتجذر في التاريخ. بالنسبة لليهود، ينبع هذا التوق من قرون من التشرد والاضطهاد، التي بلغت ذروتها في الهولوكوست، ومما يسمونه “البحث الطويل والمحبط عن وطن طبيعي ومعترف به ومقبول”. بالنسبة للعديد من الإسرائيليين المتدينين، يترجم هذا إلى مطالبة مقدسة بأرض كاملة: “كول يسرائيل” (بما معناه: جميع الإسرائيليين مسؤولون عن بعضهم البعض). هذه هي الأصوات العميقة والأصيلة التي تحرك المجتمع، وليس معسكر السلام الليبرالي.
أما الفلسطينيون، فمطالبهم الجوهرية لا تقل أصالة: تصحيح تاريخ من السلب والمجازر والتهجير والتشتت والتمييز وإهانة الكرامة. إن قبول إسرائيل كدولة يهودية، من وجهة نظرهم، ليس تسوية واقعية بل إهانة لا تُحتمل، وخطوة تُضفي الشرعية على الكارثة التي تسببت في نفيهم، وتُجرّم بأثر رجعي عقوداً من نضالهم. ويسعى الإسرائيليون إلى شيء يقارب الأمن الأبدي، والذي سرعان ما يتحول إلى هيمنة أبدية؛ بينما يطمح الفلسطينيون إلى استعادة حياة ما قبل إسرائيل، وهي حياة لم تعد موجودة.
يخلص الثنائي – اللذان كرّسا جزءًا كبيرًا من حياتهما- لتحقيق حل الدولتين إلى أن هذا الحل “ليس المحطة الطبيعية لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين، إذ يتعارض مع جوهر هويتهم الوطنية وتطلعاتهم”. وقد كان محاولة الوصول إليه محكوم عليها بالفشل لأن “كلا الطرفين لا يستطيعان تقبّل نهاية حاسمة”، فـ”لا أحد منهما مستعد للتخلي عن أحلام رمزية من أجل تفاهم أرضي ملموس”.
ما نتج عن ذلك كان مسارًا مصطنعًا، استمر بفعل الانحياز والإنكار. فمن خلال تفضيل إسرائيل وتهميش المطالب الفلسطينية، وتجاهل الأطراف الأكثر راديكالية أو دينية، وتقديم الأمن على العدالة، لم تبنِ الدبلوماسية بقيادة الولايات المتحدة سلامًا، بل صنعت قنبلة موقوتة، وقد انفجرت في 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
يقدّم مالي وأغا سردًا واضحًا وحازمًا، يرفض الأعراف ذاتها التي كرّست الخلل القائم في جوهر العملية. ويبدو النص وكأنه صادر عن أشخاص قطعوا كل صلاتهم السابقة، بما ينسجم تمامًا مع جسامة اللحظة الراهنة.
ويصف الكاتبان هجوم حماس الدموي بأنه لم يكن انحرافًا عن السياق، بل “فلسطينيًا صرفًا”؛ حيث كان ناتجًا عن انفجار لتراكم المظالم الناتجة عن عقود من التهجير والإذلال، وهي قضايا لم تعالجها عملية السلام أبدًا. أما رد إسرائيل الوحشي، فقد كان كاشفًا بدوره: ليس نتاجًا لتطرّف نتنياهو فحسب، بل امتدادًا لنمط طويل الأمد، تُواجَه فيه المقاومة الفلسطينية بقوة ساحقة تهدف إلى استعادة الردع والسيطرة والهيمنة على الأرض.
يلجأ الطرفان الآن إلى الأدوار المألوفة: الإسرائيليون إلى عنف انتصاري، والفلسطينيون إلى المقاومة والتشبث بالبقاء.
ما إن بدأت غمامة الحزن التي خلّفتها أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول تتبدد، حتى تسلّل إلى الخطاب العام الإسرائيلي شيء خبيث ومنحرف: نوع من التلذذ بإذلال الفلسطينيين ومناصريهم، وهو ما كان في السابق محصورًا في هامش المشهد السياسي فقط.
لقد اعتاد وزير الأمن الداخلي، إيتمار بن غفير، على نشر صور لأسرى منحنين، معصوبي الأعين ومكبّلي الأيدي، كما أيّد تقليص حصصهم الغذائية ومنع زيارات الصليب الأحمر والعائلات. ووفقًا للسجلات الإسرائيلية الرسمية، فإن ربع المعتقلين فقط من غزة هم من المقاتلين، إلا أن الإعلام يصوّرهم جميعًا على أنهم إرهابيون. أما حانوخ داوم، الكاتب والمعلق الشهير، فقد أثار تفاعلًا واسعًا على وسائل التواصل الاجتماعي من خلال صورة مولّدة بالذكاء الاصطناعي تسخر من الجوع الفلسطيني وتعتبره خدعة. وتُعد الناشطة البيئية غريتا ثونبرغ، التي تقود أساطيل بحرية إلى غزة، هدفًا مفضّلًا للسخرية أيضًا؛ فبعد طردها إثر محاولتها الأولى للوصول إلى القطاع، تعمّدت السلطات وضعها في أسوأ مقعد على الطائرة، وتعرّضت لوابل من الإهانات من الركاب، فيما أعلن الطيار دعمه للجيش الإسرائيلي عبر مكبرات الصوت.
وأصبح يُنظر اليوم إلى كل انتقاد لإسرائيل، وكل تعاطف مع الفلسطينيين، وكل ضغط لإنهاء الحرب، على أنه شكل من أشكال معاداة السامية، بل وحتى تأييد لحماس. ووفقًا لاستطلاعات حديثة، فإن أكثر من 60 بالمائة من الإسرائيليين يعتقدون أن “لا أحد بريء في غزة”. ومع شعور إسرائيل بالإفلات من العقاب، تفسّر هذه القناعة الشعبية كيف تحوّلت هذه الحرب إلى إبادة جماعية.
ويعتقد معظم الإسرائيليين أن جوهر الهوية الفلسطينية يتمثل في السعي إلى التدمير المادي لدولتهم، كما تجلّى في هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول. وقد كتبت عينات ويلف، العضو السابقة في الكنيست عن حزبي الاستقلال والعمل، في كتاب جديد شاركت في تأليفه حول حق العودة: “لقد كان كل فلسطيني، وعلى مدى ما يقارب من ثمانية عقود، يتمنى ويؤمن ويعمل من أجل الوصول إلى هذه اللحظة تحديدًا. وكانت حماس هي من حققت حلمهم”. واستخلصت في نهاية المطاف أنه لا وجود لحل في الأفق، وأن على إسرائيل أن تكون مستعدة لمحاربة الفلسطينيين “لأجيال قادمة”.
ومن اللافت أن هذه الكلمات تتردد صداها في ملاحظات مالي وأغا، وفي رؤيتهما للصراع بوصفه تصادمًا بين سرديات متباينة. فقد كتبا مؤخرًا في مجلة “نيويوركر“: “ليس جوهره متعلقًا بالأرض. الأمر لا يتعلق بالطرق أو الكثبان أو التلال، بل بالناس وبحياتهم وبمشاعرهم وبغضبهم وبحزنهم وبروابطهم وبتاريخهم”.
غير أن الواقع لا يتمثل في طرفين يتجادلان حول أساطير، بل في سلطة سيادية واحدة تحكم ملايين الأشخاص المحرومين من الحقوق. فالمسألة ليست مجرد صراع، بل مشكلة متأصلة في طبيعة النظام نفسه. أما الديناميكية المحلية الأهم، فهي حالة الأمر الواقع التي تكرّس وضع الدولة الواحدة، يُستثنى فيها نصف السكان — أي الفلسطينيين — من النظام السياسي بالكامل.
تُحكم إسرائيل قبضتها على كل الحدود، وكل نقطة تفتيش، وكل مورد طبيعي، وعلى مختلف جوانب الاقتصاد. فهي التي تقرر أين يمكن للفلسطينيين أن يعملوا أو يسافروا أو يبنوا، وتحرمهم من الحماية القانونية، وتسمح بالاعتداء على ممتلكاتهم أو الاستيلاء عليها، وتتركهم عرضة للعنف دون رادع.
العنصرية والكراهية العرقية، وحتى الترويج للأساطير القديمة، ليست سمات جوهرية لدى اليهود أو الفلسطينيين، بل هي نتاج لنظام قائم على الفصل والهيمنة. هذا ما لاحظه تانهيسي كوتس خلال زيارته للضفة الغربية عشية 7 أكتوبر/ تشرين الأول؛ حيث كتب في كتابه الأخير “الرسالة”: “ما رأته عيناي الآن… كان عالمًا لا يزال فيه الفصل وعدم المساواة قائمَين؛ حيث يُحكم البعض بصناديق الاقتراع، ويُحكم الآخرون بالرصاص”.
وأضاف كوتس: “كنت أبحث عن عالم يتجاوز النهب، لكن النموذج الذي وجدته لم يكن سوى نهب آخر”، ومع ذلك، كتب في موضع آخر: “حتى الناهبين هم بشر، وطموحاتهم العنيفة تصطدم بالذنب الذي ينهشهم حين يلتقون أعين ضحاياهم. ولهذا لا بد من رواية القصة”، وفي إسرائيل، رأى كوتس ما وصفه بـ”انتصارية هشة” لدى المستعمِر.
إن افتقار الفلسطينيين للحقوق، ووجودهم في منطقة سياسية مبهمة، هو ما يجعلهم قابلين للتضحية ضمن نظام يربط الحماية إلى حد كبير بالحقوق السياسية. وهذا ما يتيح للولايات المتحدة وإسرائيل التلاعب بأفكار الترحيل الجماعي والمشاريع العقارية. فالصراع هنا ليس مجرد نزاع، بل هو صراع على التلال والأرض؛ إذ تم دفع الفلسطينيين خارج النظام الذي ينظّم حياة الشعوب والدول، وبالتالي يمكن دفعهم مجددًا خارج أرضهم. وكانت غزة المحاصرة – وهي أرض لا ينسبها أحد لنفسه، تحكمها منذ عقود جماعة مسلحة غير معترف بها- تجسيدًا ماديًا للحالة الفلسطينية.
ويكمن الخطر الآن في الاستسلام للنزعة القدرية: الفكرة القائلة بأن الأحقاد القديمة أو الارتباطات الدينية تجعل المسار الحالي حتميًا لا مفر منه.
وسواء تبنّاها مراقبون خارجيون مثل مالي وأغا أو إسرائيليون من اليمين المتطرف، فإن هذه النظرة تُسيء فهم كيفية تفاعل الدين والهوية مع السياسة. فهذه العقائد، رغم ادّعائها الثبات، تتغيّر تبعًا لمتطلبات اللحظة. فقد كان اليهود الأرثوذكس في السابق يعتبرون الصهيونية تدنيسًا للمقدّسات، ثم أصبحوا من أشد أنصار اليمين الإسرائيلي مع تزايد اعتمادهم على الدولة. كما حظر الحاخامات الإسرائيليون الصلاة في جبل الهيكل، لكنهم بدأوا بتأييد ذلك حين أصبح مصير الموقع جزءًا من مفاوضات السلام. وكان شعار حزب الليكود الأصلي يتضمّن مملكة الأردن ضمن الدولة اليهودية، أما اليوم، فإن حتى أكثر اليهود تطرفًا يتخيّلون “أرض إسرائيل” بأكملها دونها. فالمصالح والظروف، لا المعتقدات القديمة، هي التي تصوغ الخيال السياسي.
الأهم من ذلك أن فكرة تصادم الهويات كثيرًا ما تتحوّل إلى مبرّر إضافي للقتل، كما يحدث اليوم في إسرائيل. لكن ما ينبغي إدراكه هو أن عدم الاستقرار العنيف ليس نتيجة عرضية، بل جزء متأصل في أي نظام يمنح طرفًا السلطة والحقوق، ويجرّد الطرف الآخر منها بالكامل.
ومنذ انطلاق عملية أوسلو في تسعينيات القرن الماضي، تبنّى جزء كبير من العالم الرواية الإسرائيلية التي تفترض أن الاعتراف بحقوق الفلسطينيين لا يأتي إلا بعد اكتمال عملية السلام. بمعنى آخر، جرى التعامل مع الحقوق على أنها مكافأة تُمنح في نهاية المطاف، لا أساسًا يُسترشد به في المفاوضات. وهذا هو جوهر الإخفاقات السابقة، لكن إذا أصبحت الحقوق نقطة الانطلاق، فبإمكان الشعبين حينها أن يختارا مستقبلهما السياسي: دولة واحدة أو دولتين أو صيغة وسطى مثل الاتحاد الفيدرالي. ولا حاجة لأن يكون الخيار نهائيًا؛ فالدول يمكن أن تنقسم أو تتوحد، والاتفاقات قابلة للتطور. إن فكرة الوصول إلى نقطة نهاية حاسمة ليست سوى وهم.
وفي الآونة الأخيرة، بدأت مؤشرات تظهر على أن الغرب بدأ يدرك حجم الفظائع المرتكبة في غزة، ويرجع ذلك أساسًا إلى النشاط المتواصل للمجتمع المدني. وليس من المستغرب أن الولايات المتحدة تبدي معارضة غير مسبوقة للدول التي قررت الاعتراف بفلسطين، بما في ذلك منع إصدار تأشيرات لمسؤولين فلسطينيين يسعون للسفر إلى الأمم المتحدة. فبالنسبة لواشنطن أيضًا، لا يُسمح للفلسطينيين بالوجود إلا وفقًا للشروط الإسرائيلية. ومع ذلك، لم تتراجع الدول التي تقود جهود الاعتراف، بل إن تحدّي الهيمنة الأمريكية على الدبلوماسية يُعد من الآثار الإيجابية المصاحبة لهذا الاعتراف.
وعلى الرغم من محدودية الاعتراف بفلسطين، بوصفها دولة بلا أرض أو سيادة، فإنه يُعد خطوة في الاتجاه الصحيح، لأنه يعيد تثبيت وجود الفلسطينيين وحقوقهم، أفرادًا وجماعة. كما أنه يقدّم الهدف النهائي، الذي كان ينبغي أن يكون شرطًا مسبقًا لأي مفاوضات، إلى صدارة المشهد. والأهم من ذلك، أنه يعزّز الموقف الفلسطيني في المؤسسات الدولية، ويضفي مزيدًا من الشرعية على المطالب بفرض عقوبات قد تُسهم في إنهاء الحرب.
وتعد الإجراءات المتخذة ضد وزراء إسرائيليين يروّجون للتطهير العرقي والإبادة الجماعية، كما بدأت بعض الدول في النظر إليها، تطورًا إيجابيًا آخر. وينبغي أن تتبعها خطوات إضافية وبوتيرة أسرع، إذ أن تدمير غزة يحدث في هذه اللحظة. نحن بحاجة إلى انخراط سياسي أوسع، ومزيد من الجرأة في اتخاذ المواقف، واستعداد لكسر المحرّمات القديمة التي لطالما أعاقت العدالة والمساءلة.
وقد تبدو أساطير التاريخ أبدية، لكنها، شأنها شأن العنف الذي تغذّيه، ليست سوى خيارات، ويمكن إعادة صياغتها.
المصدر: الغارديان