خلال أسبوع واحد، شهد المغرب إعادة افتتاح ملعب “الأمير مولاي عبد الله” في العاصمة الرباط، أحد أكبر الملاعب المقرر أن يستضيف مباريات كأس العالم 2030، فيما مرّت سنتان على الزلزال المدمر الذي ضرب إقليم الحوز في 8 سبتمبر 2023، وخلف آلاف الضحايا والمشرّدين.
وإذا كان مشهد الخيام ما زال يتصدر حياة بعض القرى الجبلية، حيث تعيش الساكنة تحت البرد والمطر صيفًا وشتاءً كما تكشف شهادات السكان، فإنه، في المقابل، تنجز المملكة في ظرف قياسي مشاريع عملاقة استعدادًا لاحتضان كأس إفريقيا 2025 وكأس العالم 2030، من ملاعب فخمة وفنادق فاخرة، وبنية تحتية متطورة تحظى بتغطية إعلامية دولية كبيرة.
هذا التناقض الصارخ يختصر ما بات يُعرف، بعد خطاب العاهل المغربي الأخير، بـ”مغرب السرعتين”: مغرب سريع الخطى نحو الأضواء العالمية ومشاريع التحديث الحضرية الكبرى، ومغرب بطيء الخطى في رتق جراح مواطنيه في الهامش. وهذا الواقع يفتح نقاشًا واسعًا حول أولويات الدولة وإعادة ترتيب سلمها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
مشاريع بسرعة هائلة
بعد فوزه بتنظيم كأس العالم 2030 بالشراكة مع إسبانيا والبرتغال، وتنظيم كأس إفريقيا 2025، أطلق المغرب مشاريع كبيرة لتحديث البنية التحتية للمدن التي ستستضيف هاتين التظاهرتين الكبيرتين.
وأبرز حدث ملموس هو إعادة افتتاح ملعب “الأمير مولاي عبد الله” في العاصمة الرباط بعد هدمه بالكامل وإعادة بنائه في زمن قياسي لم يتجاوز عامين، وهو الملعب الذي وصفه رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، جياني إنفانتينو، بأنه “جوهرة حقيقية”.
هذا الملعب تبلغ سعته 68.5 ألف متفرج ويجمع بين التكنولوجيا الحديثة والاستدامة البيئية والبنية التحتية الرقمية المتقدمة. وقد بلغت تكلفته حوالي 75 مليون دولار. ويعد أول ملعب هجين في إفريقيا بحيث يجمع بين العشب الطبيعي والاصطناعي، مما يوفر للاعبين أرضية لعب عالية الجودة ومتينة.
كما أنه جزء من مجمّع أكبر يضم مراكز تدريب كرة قدم، ومواقف سيارات تحت الأرض، ومجموعة متنوعة من المرافق الرياضية الإضافية، بما في ذلك الملعب الأولمبي الذي تم افتتاحه خلال شهر مايو الماضي، بعد تشييده في فترة زمنية قياسية لم تتجاوز تسعة أشهر، ليكون بذلك أحد أسرع المشاريع الرياضية إنجازًا على الصعيد العالمي.
توازياً، شهدت سنتا 2024 و2025 انطلاق وتكثيف عمليات ترميم وتهيئة ملاعب مدن مراكش وطنجة وفاس والدار البيضاء لتتلاءم مع معايير الاتحادين الإفريقي والدولي، وذلك ضمن عملية تشمل تحديث المقاعد والساحات، وتحسين أنظمة الإضاءة، وتجهيزات السلامة والمراقبة. كما أنه من المقرر افتتاح ملعبين إضافيين في العاصمة الرباط قبل كأس إفريقيا للأمم شهر ديسمبر المقبل، وهما ملعبي “البريد” و”مولاي الحسن”.
بالإضافة إلى ذلك، أطلق المغرب مخططات ضخمة لتوسيع السكك الحديدية، وتتضمن خط قطار فائق السرعة يربط مدينة القنيطرة بمراكش بطول يقارب 430 كلم، وذلك باستثمار يُقدَّر بنحو 10.3 مليار دولار، تمت المصادقة عليه كجزء من استراتيجية تسريع الربط بين المدن، مع شراء قطارات جديدة وتوسيع محطات، وذلك بهدف تقليص زمن التنقل بين المدن وربط الملاعب والمطارات.
كما أن هناك برنامجًا طموحًا لتوسعة مطارات المدن الكبرى، بقيمة استثمارات تُقدَّر بـ 4.2 مليار دولار خلال الفترة بين 2025 و2029، وذلك لرفع قدرتها لاستيعاب الأعداد الكبيرة للزوار خلال البطولات.
بطء الإعمار واستمرار الخيام
بعد سنتين على الزلزال المدمر الذي ضرب المغرب وخلّف آلاف الضحايا والمشرّدين، ما زال مشهد الخيام يتصدر حياة سكان بعض القرى الجبلية، الذين يعيشون المعاناة صيفًا وشتاءً.
وتكشف شهادات السكان عن معاناة متواصلة وعن بطء شديد في عملية إعادة الإعمار رغم الوعود الرسمية والاعتمادات المالية الضخمة المرصودة لهذا الغرض.
ضمن برنامج الطوارئ المخصص لإعادة البناء والتأهيل العام للمناطق المتضررة من زلزال الحوز، وضعت السلطات المغربية، مباشرة بعد الزلزال، برنامجًا يهدف إلى تخفيف الأعباء عن المتضررين البالغ عددهم أكثر من 2.8 مليون مغربي، فخصصت إعانات مباشرة بقيمة 30 ألف درهم (نحو 3 آلاف دولار أميركي) للأسر الأكثر تضررًا، إضافة إلى تعويضات متفاوتة مرتبطة بحجم الأضرار التي لحقت بالمنازل.
كما أطلقت الحكومة خطة متكاملة لإعادة إعمار القرى والمراكز الجبلية المنكوبة، بميزانية إجمالية تناهز 120 مليار درهم (11.7 مليار دولار) موزعة على خمس سنوات، تستهدف تحسين ظروف عيش أكثر من 4.2 ملايين نسمة.
حينذاك رُصدت اعتمادات أولية بقيمة 2.5 مليار درهم (نحو 250 مليون دولار) وُجهت للشروع في مشاريع استعجالية تمس قطاعات حيوية كالتعليم والصحة والبنية التحتية الأساسية، إلى جانب الثقافة والسياحة والفلاحة والأوقاف، في محاولة لربط عملية الإعمار المادي بإنعاش الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المناطق المتضررة.
وعلى الرغم من أن اللجنة الحكومية المشرفة على إعادة إعمار المناطق المنكوبة في الحوز قدمت حصيلة جديدة، يوم الثامن من سبتمبر الجاري، تكشف من خلالها حجم الأشغال المنجزة منذ انطلاقها، إذ صرّحت بأنه جرى الانتهاء من بناء أو ترميم أكثر من 51 ألف مسكن لفائدة الأسر المتضررة.
كما أكدت اللجنة أنه تم الانتهاء من إصلاح أو إعادة بناء 306 مؤسسة تعليمية، وإنجاز 78 مركزًا صحيًا. كما استفاد السكان من توزيع رؤوس ماشية وأعلاف مجانية، مع إطلاق مشاريع لتأهيل المنشآت الفلاحية وربط القرى بالماء الصالح للشرب بنسبة إنجاز وصلت إلى 52%.
هذه الأرقام، التي عرضت خلال اجتماع وزاري برئاسة رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، لا يبدو أنها تعكس الواقع حسب حقوقيين. ففي تصريحات نقلتها وكالة الأناضول، انتقد الناشط الحقوقي منتصر إتري، المنحدر من بلدة أسني بالحوز، ما وصفه بغياب التطابق بين الأرقام الرسمية والواقع الميداني، مؤكداً أن هذا التناقض يفاقم خيبة أمل المتضررين بعد مرور عامين على الكارثة. وأشار إلى أن مئات الأسر ما زالت تعيش تحت خيام بلاستيكية مهترئة في ظروف مناخية قاسية، رغم الوعود المتكررة بإعادة الإعمار.
إتري أوضح أن عدداً كبيراً من العائلات لم تتوصل إلى اليوم بأي تعويض مالي يسمح لها بإعادة بناء منازلها، في مخالفة واضحة للتوجيهات الملكية الصادرة للحكومة بهذا الخصوص، فيما اقتصر الدعم بالنسبة لآلاف الأسر الأخرى على تعويضات جزئية فقط. وأضاف أن جزءًا من المؤسسات التعليمية ما زال مغلقًا، ما يعمّق معاناة الساكنة في المناطق الجبلية.
كما أكد أن تجاهل السلطات لمطالب المتضررين، رغم الاحتجاجات المتكررة والمراسلات الرسمية التي رفعتها الأسر وهيئات المجتمع المدني، يفاقم حالة الاحتقان الاجتماعي ويدفع الضحايا إلى التشبث بحقوقهم في التعويض والدعم، محذراً من أن استمرار هذا الوضع قد يؤدي إلى تصاعد أشكال الغضب الشعبي.
وقد نظّم المتضررون يوم الثامن من شتنبر الماضي وقفة احتجاجية أمام مبنى البرلمان للمطالبة بـ”إنصاف المتضررين المقصيّين من دعم إعادة الإعمار”.
وفي هذا السياق، قال محمد الديش، رئيس الائتلاف الوطني من أجل الجبل، إن عودة المتضررين إلى الشارع للاحتجاج بعد مرور عامين على الزلزال تبدو نتيجة طبيعية أمام استمرار تدهور أوضاعهم المعيشية، وفشل السلطات المركزية والمحلية في توفير حلول جذرية. وأوضح أن الملف ما يزال يواجه عراقيل متعددة، من أبرزها إشكالات الدعم المالي وصعوبة إحصاء جميع المتضررين بشكل عادل.
وأشار الديش إلى أن الشهادات التي تصل إلى منظمته، سواء عبر التظلمات أو مقاطع الفيديو التي ينشرها المتضررون، تعكس استمرار معاناة الكثيرين الذين لا مأوى لهم، أو الذين يقطنون منازل آيلة للسقوط، فيما تعيش أعداد كبيرة من الأسر داخل خيام بلاستيكية منذ الفاجعة.
كما لفت إلى أن شريحة أخرى لم تستفد من أي دعم حكومي، لا جزئيًا ولا كليًا، بسبب تعقيدات إدارية تتصل في أحيان كثيرة بعدم توفر بطاقة التعريف الوطنية أو نزاعات الملكية المتعلقة بالمساكن المنهارة.
سؤال الأولويات
ما بين الوعود الرسمية التي تحدثت عن تسريع وتيرة الإعمار واقتراب إنهائها، وواقع البطء الذي يعيشه السكان وتظهره مقاطع الفيديو، تبرز فجوةٌ تعكس إشكالياتٍ أعمق في ترتيب الأولويات، ففي الوقت الذي تُنجز فيه المملكة مشاريع ضخمة في مجالات الملاعب والبنية التحتية استعدادًا لاحتضان كأس إفريقيا 2025 وكأس العالم 2030 بوتيرة سريعة وتحظى بمتابعة دقيقة، يبدو، حسب المتضررين، أن عملية إعادة بناء المنازل تسير ببطء، رغم أنها تمسّ حياة مواطنين فقدوا مأواهم وسبل عيشهم.
في ندوة صحافيةٍ نظمها “الائتلاف المدني من أجل الجبل” و”التنسيقية الوطنية لضحايا زلزال الحوز”، يوم الثامن من سبتمبر، قال منتصر إتري، عضو التنسيقية: “نحن نحسّ بالفخر ببنيات تحتية عالية وملاعب عالمية أنجزت في ظرف قياسي”، مضيفا: “لكن القلب يدمع عند رؤية ساكنة بعض الدواوير وعشرات الأسر التي مازالت في الخيام عُرضة للتشريد وقساوة الفصول”.
بين ملاعب فخمة وساكنة تئن تحت الخيام، يتجسد “مغرب السرعتين” في أوضح صوره. نجاح المملكة في تنظيم تظاهرات رياضية عالمية مكسب لا شك فيه، لكنه يظل ناقصًا ما لم يترافق مع إعادة إعمار عادلة وسريعة للمناطق المنكوبة لحفظ كرامة ساكنتها.
إن ثقل الإجراءات الإدارية، وصعوبة التضاريس الجبلية، وشروط صرف الدعم على دفعات، كلها عوامل تفسر البطء، لكنها لا تعفي الدولة من مسؤولية الاستجابة السريعة لمحنة مواطنيها، فالملاعب تمنح المغرب إشعاعًا عالميًا، لكن البيوت تعيد الكرامة والاطمئنان لأناس فقدوا كل شيء في لحظة واحدة.