تُورد الباحثة نور بدر في كتابها “هندسة الاضطهاد: سياسات التحكم بالأجساد الصامتة” أنّ أي محاولة لفهم ما يتعرض له الفلسطينيون من عنف تستلزم العودة إلى السياق الأشمل الذي يقوم عليه المشروع الصهيوني؛ أي سياق إزالة ومحو السكان الأصليين.
توضّح بدر أنّ الاستعمار الاستيطاني الإحلالي القائم في فلسطين لم يقم على أسس تقتضي مجرد الهيمنة على السكان الأصليين أو استغلالهم، وإنما على النظر إلى وجودهم نفسه كعائق لا بدّ من التخلّص منه. ف الجسد الفلسطيني هو مركز وأساس هذا المنطق، فهو الجسد الذي يُستهدف بالقتل أو الطرد أو التضييق، والجسد الذي يُنظر إليه كتهديد لمشروع استعماري يريد الأرض بلا أصحابها.
كما تبيّن بدر أنّ أطروحات ميشيل فوكو تُشكّل أفقًا مناسبًا لفهم سياسات الإزالة التي تُمارِسها سلطات الاستعمار الاستيطاني على الأجساد الفلسطينية، ومن أبرزها سياسة “المراقبة والمعاقبة” التي تُمارسها تلك السلطات في مؤسسات عديدة بهدف تحويلها إلى فضاءات للضبط والسيطرة.
في الحالة الفلسطينية، طالما مثّلت الحواجز العسكرية والسجون والمستشفيات فضاءات واضحة للضبط والسيطرة، حيث استخدمتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي من أجل إخضاع الأجساد الفلسطينية للفحص والرقابة والعقاب، وذلك بهدف إعادة إنتاجها كأجساد مقيّدة وطيّعة، محاصرة في تفاصيل حركتها وحياتها اليومية.
سيتناول هذا المقال تطبيقات الاحتلال الإسرائيلي لسياسة المراقبة والمعاقبة في هذه الفضاءات ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، مستعرضًا أثرها على الجسد الفلسطيني.
الجسد الفلسطيني على الحواجز العسكرية.. تجربة القهر والسيطرة
مع تصاعد هبّات الشباب الفلسطيني عقب انتفاضة الأقصى، أقام الاحتلال الإسرائيلي مئات الحواجز العسكرية في الضفة الغربية وقطاع غزة، تحت مسمى “نقاط التفتيش”، لتكون بمثابة أدوات للهيمنة على الحركة والجسد الفلسطيني.
لم تكن الحواجز العسكرية مجرد أداة “تعزيز أمن” كما تروّج الرواية الإسرائيلية، بل تحوّلت إلى آليات لإخضاع الفلسطينيين وإعادة تشكيل تفاصيل حركتهم اليومية. إذ يُجبرون على العبور عبر بوابات ضيّقة محدّدة، وتُفتَّش مركباتهم وتُفحَص هوياتهم بدقّة، ليغدو الجسد الفلسطيني مكشوفًا دائمًا تحت عين المراقبة والسيطرة.
منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أعاد الاحتلال الإسرائيلي إقامة عدة نقاط عسكرية ثابتة في قطاع غزة مثل حاجز “نتساريم”، ومنذ إقامة هذه الحواجز الثابتة، صار الجسد الفلسطيني هدفًا مباشرًا لسياسات الإذلال والسيطرة. فقد بات الفلسطينيون يواجهون تفتيشًا مستمرًا لسياراتهم وممتلكاتهم، كما يتم توقيف بعضهم وضربهم أو اعتقالهم بشكل تعسفي، فكل عبور لهذه الحواجز هو تجربة عنف متكاملة، جسدية ونفسية.
أما الضفة الغربية، فقد شهدت الحواجز العسكرية فيها تصعيدًا غير مسبوق، إذ تم تكثيف انتشارها وخصخصة بعضها عبر شركات حراسة مسلّحة، بينما استُخدمت أخرى لتعزيز الضغط النفسي والجسدي على الفلسطينيين.
تضاعف حجم التنكيل والإخضاع الجسدي الذي يتعرض له الفلسطينيون في الضفة الغربية أثناء مرورهم على هذه الحواجز، وزادت وتيرة إجراءات التفتيش المذلّ والعاري، والإهانة الممنهجة للفلسطينيين والفلسطينيات عبر تعريض أجسادهم للاحتجاز الطويل، والضرب، ومصادرة ممتلكاتهم الشخصية.
يعكس هذا التكثيف سياسة الاحتلال الجديدة التي تركز على فرض بيئة قاهرة، تجعل من الحركة اليومية تحديًا مستمرًا، وتحوّل الجسد الفلسطيني إلى هدف مباشر، سواء من خلال الإغلاق المفاجئ للطرق أو الفصل بين المدن والأحياء، أو حتى التضييق المتعمد على السكان بهدف دفعهم للهجرة.
الجسد الفلسطيني في السجون.. بين الإذلال والقمع البصري
منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، صعّدت “إسرائيل” من ممارساتها القمعية داخل السجون، معتمدة على مزيج من العنف المادي والرمزي، حيث أصبح الجسد الفلسطيني وسيلة لاستعراض القوة وترسيخ السيطرة الاستعمارية.
يؤكد الباحثان أشرف أبو عرام واعتراف الريماوي في ورقتهما “الجسد الفلسطيني كواجهة استعراضية للاستعمار الاستيطاني: العنف الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر” أنّ تزايد وتيرة العنف الإسرائيلي ضد الجسد الفلسطيني في السجون هو أداة رمزية لإعادة إنتاج الهيمنة، ليس فقط على الأسرى، بل على المجتمع الفلسطيني بأسره.
يورد الباحثان أنّ الاحتلال الإسرائيلي صعّد منذ ذلك التاريخ ممارسات سيطرته داخل السجون وحوّلها من مجرد عقاب فردي إلى منظومة متكاملة من الإذلال البصري والقمع الرمزي، حيث تُستخدم وسائل الحرمان من الطعام والدواء أو مستلزمات النظافة الشخصية باعتبارها وسيلة عقابية وأداة قمع استعراضية تستهدف خلق أنواع معينة من الألم وإلحاقها بجسد الأسير، وتحويلها إلى رسالة عامة للجمهور حول قدرة السلطة الاستعمارية على فرض وتثبيت هيمنتها على هذا الجسد.
تُمارَس هذه السياسات القمعية بهدف تجريد الأسير من أي حماية، حيث يُعاد تشكيل جسده ليصبح “جسدًا فائضًا”، يمكن إخضاعه للتنكيل والإذلال دون مساءلة، وهنا يظهر تأثير سياسة “الحياة العارية” كما وصفها الباحثان، وهي التي يفقد المعتقل معها أي إطار حماية قانونية أو أخلاقية، ويصبح جسده موضوعًا للقهر المستمرّ.
حتى بعد الإفراج عن الأسرى، يستمر استخدام الجسد الفلسطيني كأداة رمزية، إذ يُعرض منهكًا ومهشّم المعنويات ليبقى نموذجًا للعقاب الاستعماري المستمر، وكأداة لردع الجماعة. فالسجن لا يبقى مجرد مكان للعزل، بل يتحوّل إلى مصنع لإعادة إنتاج الخضوع الرمزي والجسدي، حيث يصبح الألم والأذى وسيلة لإعادة تشكيل الهوية وإخضاع المجتمع.
الجسد الفلسطيني في المستشفيات.. رهينة بين القصف والحصار
بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تحوّلت المستشفيات في غزة إلى أماكن يتوقف فيها القانون وتُجرد فيها حياة الناس من أي حماية. وبحسب ريما زقوت في ورقتها “المستشفى – تجسيد للجسد الغزي”، أصبح الاحتلال الإسرائيلي يستخدم المستشفيات كمساحة للسيطرة على الجسد الفلسطيني، حيث يُعاني المرضى والعاملون فيها من تعذيب جسدي ونفسي، وتتحول حياتهم إلى حياة بلا حقوق أو حماية.
تشير زقوت أيضًا إلى أنّ الانتهاكات لم تقتصر على الحرمان من الحقوق، بل شملت أفعالًا مثل اختطاف الطاقم الطبي، والاستهداف بالقصف، وسرقة الجثث، واستهداف المرافق الحيوية، وقطع الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء، وحرمان المصابين من الرعاية الطبية، فقد تحوّل المستشفى إلى جزء من سياسة الاحتلال للسيطرة على الحياة والموت والتحكّم فيهما، عبر استهداف الجسد الفلسطيني في أكثر مكان يُفترض أن يكون آمنًا.
View this post on Instagram
أما في الضفة الغربية، فقد تعرّضت المستشفيات الفلسطينية ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إلى حصارات واقتحامات متكررة من قبل سلطات الاحتلال، وكانت هناك ممارسات عديدة حوّلت الجسد الفلسطيني إلى هدف مباشر للسيطرة والإعاقة، وقد شملت: منع المرضى من الوصول إلى العلاج، وإعاقة الطاقم الطبي عن أداء مهامه، وفحص سيارات الإسعاف وتدقيق هويات الجرحى، واعتقال المصابين، بما يضع الجسد المصاب تحت خطر مباشر للموت، كما شملت تعريض أجساد المرضى للغازات والقنابل بشكل مباشر أثناء وجودهم في ساحات المستشفيات.
من خلال هذه السياسات، يُصبح الجسد الفلسطيني رهينة في فضاءات المستشفيات، حيث تتلاشى أي خطوط حماية، ويصبح المستشفى مساحة تتعرض فيها حياة الإنسان للتقييد والإضعاف.
ختامًا، يتضح أنّ سياسة الاحتلال الإسرائيلي ما بعد السابع من أكتوبر لم تعد مقتصرة على القتل المباشر أو العقاب العسكري، بل صارت منظومة متكاملة تستهدف الجسد الفلسطيني في مختلف فضاءات تواجده؛ على الحواجز، في السجون، وحتى داخل المستشفيات، حيث إنّ هذا الجسد، الذي يُفترض أن يكون محميًا بقوانين إنسانية ودولية، أُعيد تشكيله كموضوع دائم للمراقبة والقمع والإذلال، ليصبح أداة لتثبيت الهيمنة الاستعمارية ورسالة ردع للجماعة الوطنية الفلسطينية.
مراجع:
نور بدر، هندسة الاضطهاد: سياسات التحكم بالأجساد الصامتة.
أشرف أبو عرام واعتراف الريماوي، الجسد الفلسطيني كواجهة استعراضية للاستعمار الاستيطاﻧﻲ: العنف الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر.
ريما زقوت، “المستشفى – تجسيد للجسد الغزي”.