في غزة، حيث تُختزل المدن إلى جدران مهدمة وأزقة خاوية، تولد الحرية في أماكن غير متوقعة: ليس المقصود هنا الحرية السياسية فقط، بل القدرة على العيش، الإبداع، والاختيار داخل فضاء ضيق يفرضه الحصار، هنا الحرية ليست مجرد حق، بل فعل مقاومة خفي، تجربة وجودية يُعيد الإنسان بها رسم حدود كيانه وسط القيود.
إنها لحظة الوعي بأن الحياة لم تُمحَ بعد، وأن الإنسان يستطيع أن يبتكر مساحة خاصة به للعيش، للتعبير، وللتواصل، مهما كانت الظروف، كل فعل صغير، كل إبداع يومي، هو إعلان أن الروح لا يمكن أن تُحاصر، وأن الحرية تبدأ دائمًا من الداخل قبل أن تتسع للعالم.
الكتابة: مساحة للتنفس والوجود
إيمان أبو زايد، 22 عامًا، حملت في جسدها وذاكرتها أثقال الحرب؛ بيتها تحول إلى ركام، ويدها ما زالت تعاني من إصابة غائرة تركتها عاجزة عن كثير مما اعتادت، وعلى حافة الانهيار، لم تجد سوى الكتابة والقراءة طوق نجاة يعيد إليها شيئًا من التوازن.
تقول: “بحثت عن الكتب بين الركام، ألتقط أي رواية أو مجموعة قصصية، حتى لو بالية، كنت أغرق في صفحاتها هاربة من هدير الطائرات، وأجد عالمًا آخر يمنحني بعض السكينة، ومع كل كتاب أنجزه، تعود إليَّ قطعة من حلمي القديم بأن أكون كاتبة”.
عادت إيمان للكتابة، لكن بصوت صاغته الجروح، تقول: “كتبتُ عن الشهداء الذين أعرفهم، وترجمتُ قصصهم إلى الإنجليزية، لتكون كلماتي شاهدًا حيًا ومقاومةً للنسيان، واليوم أنشر أعمالي على منصات معروفة”، مؤكدة أن القلم صار سلاحها، والكلمات أرضها التي لا يمكن احتلالها.

خلق مساحات اجتماعية
بين بقايا المدينة وصخب الحرب المستمر، يسعى الفلسطينيون لإيجاد زوايا تعيد لهم شعور الحياة والعمل، من هذا السياق انطلق مقهى “We Work” على شاطئ خان يونس، ليكون مساحة اجتماعية وعملية معًا، يقول مؤسسه الشاب محمد قريق: “الفكرة وُلدت من رحم المعاناة، واستغرق تنفيذها شهرًا كاملاً، أردتُ أن أوفر للطلاب ورواد الأعمال الكهرباء والإنترنت اللتين فقدناهما”.
يتسع المقهى لنحو 40 شخصًا، ويسعى قريق لتوسيعه وافتتاح فروع أخرى، وقد أصبح نقطة التقاء للنازحين، يتبادلون فيه الأفكار ويستعيدون بعضًا من إيقاع حياتهم، في رسالة تقول إن الفلسطيني قادر على تحويل الركام إلى مساحة عمل وحلم.
ووفق تقارير أممية ووزارة الاتصالات الفلسطينية، فإن أكثر من 80% من خدمات الإنترنت والاتصالات تعطلت في غزة خلال الأشهر الأولى للحرب، ما جعل مثل هذه المبادرات ملاذًا نادرًا لتوفير الاتصال والحياة.
الفن: النجاة الروحية
أما ما يخص الفنانين الشباب في غزة، أصبح التصوير الفوتوغرافي وسيلة لتوثيق حياتهم اليومية والتعبير عن مشاعرهم وسط الدمار، يقول محمد عطاالله، 29 عامًا، مصور فوتوغرافي: “كل صورة ألتقطها هي مساحة صغيرة أخلقها لنفسي وللآخرين، إنها حريتي في موضعها”.
ويضيف: “من خلال عدسة الكاميرا، أحوّل الخراب إلى سرد بصري، وأمنح حياتي وحياة الآخرين صوتًا مرئيًا، كل إطار أصبح نافذة على المقاومة، وكل لقطة شهادة على قدرتنا على التعبير والبقاء رغم الصعاب”، ويؤكد:” الكاميرا بالنسبة لي ليست مجرد أداة، بل مساحة أستعيد فيها حياتي وحياة من حولي”.
وتشير تقارير وزارة الثقافة الفلسطينية إلى أن عشرات المراكز الثقافية والفنية دُمّرت خلال الحرب، ما دفع الفنانين للاعتماد على الفضاء الرقمي كمنصة بديلة لعرض أعمالهم.
حرية التعلم والاختيار
أصيل سلامة، 25 عامًا، معلمة لغة إنجليزية، تصنع في خيام النزوح مساحة للمعرفة والخيال، تقول: “الحرب أشعلت في داخلي شعورًا بالتمرد؛ روحي أرادت الانتفاض على الخيمة، لتصبح ثورتي دعمًا لي وللآخرين، خاصة الأطفال واليافعين”.
بين جدران الخيمة، تتحول الحروف والكلمات إلى دروع تحميهم من ضجيج القصف، وتعيد لهم إحساسهم بالحرية والاختيار، كل درس تقدمه هو مقاومة صامتة، كل سؤال للأطفال بمثابة نافذة على المستقبل، بالنسبة لأصيل، التعليم ليس مجرد نقل معرفة، بل رسالة حياة، وسلاح هادئ يواجه الخراب ويزرع الأمل وسط الدمار.
ووفق منظمة اليونيسف، فإن أكثر من 625 ألف طالب في غزة انقطعوا عن التعليم، فيما تحولت نحو 60% من المدارس إما إلى مراكز إيواء أو تعرضت لأضرار مباشرة.
الفضاء الرقمي: حرية افتراضية
الفضاء الرقمي أصبح بالنسبة للفلسطينيين نافذة للعمل والاستمرار رغم الحرب والحصار، من خلال منصات العمل الحر، يتمكن الشباب من تأمين دخلهم، تطوير مهاراتهم، ومواصلة مشاريعهم رغم القيود المفروضة.
يقول سامر الشريف، 29 عامًا، مصمم جرافيك يعمل عن بُعد: “الإنترنت منحني مساحة أستعيد فيها استقلاليتي، كل مشروع أنجزه عن بُعد يشعرني أنني لا أزال قادرًا على الإنتاج والتحرك رغم كل القيود، العمل الحر هنا أصبح أكثر من وظيفة؛ إنه وسيلة لمقاومة الفراغ وإعادة بناء حياتي”.
وبحسب تقرير البنك الدولي لعام 2024، فإن “العمل الحر” تحول إلى مصدر دخل رئيسي لآلاف الشباب في غزة، خصوصًا مع انهيار السوق المحلي، ما جعله وسيلة لمقاومة الفراغ وإعادة بناء الحياة.
الفلسطينيون في غزة لم ينتظروا أن يمنحوا الحرية، بل صنعوها بأنفسهم، من الكتابة، التعليم، الفن، إلى المشاريع الصغيرة، يولد شعور بالوجود والإنسانية وسط الركام، الحرية هنا ليست فكرة نظرية، بل حياة تُحيا، وإبداع يستمر رغم أصعب الظروف.