في مواجهة بيئة إقليمية شديدة الاضطراب، تتجه تركيا بخطى حثيثة نحو تحقيق استقلالية استراتيجية في مجال الدفاع الجوي، عبر مشروع وطني طموح يحمل اسم “القبة الفولاذية” (Steel Dome). في ما يمكن وصفه بأكثر من استجابة تقنية لمتطلبات الدفاع الحديث، بل تعبير عن إرادة جيوسياسية تسعى إلى إعادة تعريف موقع تركيا في معادلات الردع الإقليمي والتوازنات العسكرية الناشئة.
في ظل التصاعد المستمر للتوتر بين “إسرائيل” وإيران، وتفاقم التهديدات على حدود تركيا الجنوبية والشرقية، واحتدام التنافس مع اليونان في فضاءات بحرية وجوية متنازع عليها، تبرز الحاجة إلى منظومة دفاع جوي متعددة الطبقات، قادرة على التصدي للهجمات الصاروخية والطائرات المسيّرة بشكل متكامل وفعّال.
يُفكك هذا التقرير ملامح المشروع ومكوّناته التقنية، مستعرضًا دور الشركات الوطنية الرائدة مثل “أسيلسان” و”روكيتسان” في بنائه، ومقارنًا إياه من حيث المفهوم والقدرات مع منظومة “القبة الحديدية” الإسرائيلية، دون أن يغفل الخلفيات الجيوسياسية التي تفسّر توقيت هذا التحوّل كما يحاول الإجابة على سؤال: هل تملك تركيا بالفعل المقومات اللازمة لسد الفجوة التقنية بينها وبين المنظومات الغربية المتقدمة؟
درع متعدد الطبقات
بدأ تطوير مشروع “القبة الفولاذية” التركي رسميًا عام 2018، في إطار برنامج شامل أطلقته رئاسة الصناعات الدفاعية التركية (إس إس بي) لتأسيس منظومة دفاع جوي وطنية متعددة الطبقات، إذ يأتي المشروع تتويجًا لتحوّل تدريجي في العقيدة العسكرية التركية خلال العقد الأخير، حيث باتت أنقرة تراهن على القدرات المحلية لتأمين احتياجاتها الدفاعية، بعد سلسلة من الأزمات مع حلفائها الغربيين، لا سيما في ملفي الطائرات المسيّرة ومنظومات الدفاع الجوي.
وفي 6 أغسطس/آب 2024، قررت اللجنة التنفيذية للصناعات الدفاعية، في اجتماع ترأسه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الانتقال إلى مرحلة تطوير شاملة لمشروع “القبة الفولاذية”، بهدف تعزيز أمن المجال الجوي التركي. إلا أن القبة لا تبدو بحال نسخة من القبة الحديدية الإسرائيلية بالمعنى التقني الضيق، بل هي منظومة أكثر اتساعًا من حيث المهام، وأكثر تنوعًا في المستويات التشغيلية.

تسعى تركيا من خلال المشروع إلى بناء منظومة دفاع جوي متكاملة، متعددة الطبقات، قادرة على التصدي لمجموعة واسعة من التهديدات، تتراوح بين الصواريخ الباليستية قصيرة ومتوسطة المدى، والطائرات المسيّرة، وصولاً إلى القذائف المدفعية والهاون.
وبينما تركز القبة الحديدية بشكل رئيسي على اعتراض القذائف قصيرة المدى والصواريخ التكتيكية، تطمح تركيا إلى تطوير درع يشمل طبقات عليا ومتوسطة ودنيا، بحيث يشكّل درعًا صاروخيًا محليًا موازٍ في قدراته لما تمتلكه دول كـ”إسرائيل” واليونان والولايات المتحدة.
من الناحية التقنية، من المتوقع أن تتكوّن المنظومة من شبكة رادارات متطورة، قادرة على الكشف المبكر والتتبع الدقيق للأهداف المعادية، إلى جانب أنظمة قيادة وتحكم تعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي، تتيح اتخاذ قرارات الاشتباك في أجزاء من الثانية.
كما تضم المنظومة منظومات اعتراض تعتمد صواريخ مختلفة الطرازات والمديات، بعضها قيد التطوير حاليًا لدى شركة “روكيتسان”، التي تتولى الجانب الصاروخي من المشروع، بالتنسيق مع “أسيلسان” المسؤولة عن الأنظمة الإلكترونية والقيادة والتحكم والرادارات.
ومن المرجّح أن تظهر نماذج اختبارية أولية خلال العامين المقبلين، مع توقعات ببدء دمجها في شبكة الدفاع الجوي بحلول 2027. فيما يعتبر الجدول الزمني طموح جدًا على الوفاء بمعايير الأداء والموثوقية التي تقتضيها منظومة بهذا الحجم والتعقيد.
أسيلسان وروكيتسان
يقف وراء مشروع “القبة الفولاذية” قطبان رئيسيان من أقطاب الصناعات الدفاعية التركية، وهما شركتا أسيلسان (ASELSAN) وروكيتسان (ROKETSAN)، اللتان تشكلان العصب التكنولوجي لمنظومات الدفاع الوطني في تركيا. ومن خلال هذا المشروع، تتعمق شراكتهما ضمن إطار أشمل لبناء قدرات سيادية في مجال الدفاع الجوي، لا تعتمد على الخارج إلا بالحدود الدنيا.
تلعب أسيلسان، وهي الشركة الأكبر في قطاع الإلكترونيات العسكرية، دورًا محوريًا في تصميم وتطوير رادارات الكشف المبكر، وأنظمة القيادة والسيطرة، والحلول الإلكترونية الخاصة بالتتبع والتشويش والتشويش المضاد. بخبرتها الممتدة في مجال أنظمة الاتصالات العسكرية والرصد الراداري، تعمل أسيلسان على تزويد القبة الفولاذية بمنظومة عصبية رقمية تتيح إدارة الاشتباك بشكل آني، وتتكامل مع شبكة الدفاع الجوي الوطنية الأوسع، بما في ذلك بطاريات حصار وأطلس ومشروع SIPER بعيد المدى.
أما روكيتسان، التي تُعد ذراع تركيا في تكنولوجيا الصواريخ والذخائر الذكية، فتتولى تطوير صواريخ الاعتراض قصيرة ومتوسطة المدى، القادرة على إسقاط الطائرات المسيّرة، والصواريخ التكتيكية، وحتى الأهداف ذات السرعة العالية.
وتُبنى هذه القدرات على قاعدة من المشاريع السابقة التي أنجزتها الشركة، من ضمنها صواريخ “حصار-A” و”حصار-O” و”حصار-U”، إضافة إلى تطويرها المتواصل لصواريخ باليستية تكتيكية مثل “تايغو” و”خان”، والتي تُستخدم كأساس هندسي لتطوير صواريخ اعتراضية ضمن مشروع القبة.
ما يميز هذه الشراكة هو قدرتها على تقليص الاعتماد على المكونات الأجنبية الحساسة، بما في ذلك رقائق التوجيه وأنظمة الملاحة، وهو أمر أثبتت أهميته بعد أن واجهت تركيا حظرًا جزئيًا على بعض التقنيات الغربية. ومن هنا نفهم، أن المشروع لا يُبنى فقط كمنظومة دفاعية، بل كبيئة إنتاجية متكاملة تضمن أمن الإمدادات العسكرية في أوقات النزاع، وتفتح الباب أمام تصدير هذه التكنولوجيا إلى حلفاء تركيا في آسيا الوسطى وأفريقيا والشرق الأوسط.
يؤكد المدير العام لشركة “أسيلسان”، أحمد أكيول، أن المنظومة تُصمم للتعامل مع طيف غير مسبوق من التهديدات، إذ يقول: “بُني نظامنا لمواجهة جغرافيا أكثر تعقيدًا، وتهديدات أكثر تنوعًا بكثير. فالقبة الفولاذية التركية ستكون منظومة قادرة على رصد وتقييم التهديدات القادمة ليس فقط من الجو، بل أيضًا من البر والبحر والجو والفضاء السيبراني، في آنٍ واحد. ولا توجد أنظمة كثيرة في العالم يمكنها إدارة هذا الكم من التهديدات بالتوازي”.
تتألف المنظومة بشكل أساسي من:
أنظمة الدفاع الجوي “حصار”: صُممت لتغطية المسافات القصيرة والمتوسطة، وتعتمد على صواريخ تركية الصنع مزودة بأنظمة توجيه دقيقة قادرة على اعتراض الطائرات والمسيرات والصواريخ.
نظام المدفعية المضادة للطائرات “كوركوت”: يوفر حماية ضد الطائرات المسيرة والأهداف منخفضة الارتفاع، عبر مدافع عالية السرعة مزودة بذخائر ذكية.
منظومة الدفاع بعيد المدى “سيبر”: موجهة للتعامل مع التهديدات بعيدة المدى، بما في ذلك الصواريخ الباليستية التكتيكية والطائرات المقاتلة.
أنظمة الحرب الإلكترونية “إخطار”: مصممة للكشف والتشويش على إشارات التحكم والتوجيه الخاصة بالطائرات المسيرة والصواريخ الموجهة، مما يعطل قدرتها على إصابة الأهداف.
الخطر الإقليمي
تسير تركيا في مشروع “القبة الفولاذية” وسط تحولات إقليمية متسارعة، حيث لم تعد التهديدات المحتملة مقتصرة على جبهات محدودة أو أطراف تقليدية، بل أصبحت متعددة المصادر، وتتحرك على أكثر من مستوى من التهديدات الصاروخية المباشرة إلى الحروب السيبرانية، مرورًا بالتصعيدات غير المتوقعة في المناطق الحدودية المتوترة.
في صدارة هذه الحوافز، تبرز المواجهة المفتوحة بين “إسرائيل” وإيران، والتي ازدادت تعقيدًا في حرب المناوشات التي خاضها الطرفين في ما سمي بـ “حرب الـ 12 يومًا”. إذ وجدت تركيا نفسها أمام احتمالية امتداد المواجهة إلى أجواء منطقتها بين ليلة وضحاها، ما يجعل الحاجة إلى درع جوي فعّال مسألة أمن قومي بالدرجة الأولى.
❞مقاتلتنا الوطنية “قآن” ستدخل مرحلة الإنتاج المتسلسل وسندمج أنظمتنا الدفاعية بشبكة واحدة عبر القبة الفولاذية❝
جاء ذلك في كلمة للرئيس أردوغان خلال اجتماع تعريفي باستراتيجية الصناعة والتكنولوجيا في المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرةhttps://t.co/Bkru09DAM3 pic.twitter.com/J6ikIv9uzC
— Anadolu العربية (@aa_arabic) March 26, 2025
إلى جانب ذلك، تظل “إسرائيل” لاعبًا مقلقًا في الحسابات الأمنية التركية، ليس فقط بسبب عدائها المتصاعد، بل بسبب تفوقها التقني في مجالات الدفاع والهجوم الإلكتروني والفضاء العسكري. حيث يمثّل مشروع “القبة الحديدية” الإسرائيلية معيارًا غير معلن تتطلع تركيا إلى مجاراته لخلق قدرة ردع حقيقية تضع أنقرة في موقع الندّ لا التابع.
أما في الجهة الغربية، فيبقى التوتر مع اليونان عاملًا دائمًا في تشكيل العقيدة العسكرية التركية، لا سيما في ظل النزاع المزمن حول جزر بحر إيجه، والمجال الجوي المتداخل، وعمليات التسليح الغربية المكثفة التي تستفيد منها أثينا. وقد وصف الإعلام اليوناني قدرات القبة الفولاذية التركية، بأنها متطورة لدرجة أنه لن يطير طائر يوناني في سماء تركيا دون رصده.
ما يشير إلى أن المنظومة يُنظر إليها إقليميًا كتحوّل نوعي في ميزان الرصد والردع، يُمكن أن يُقيد حرية الحركة الجوية لليونان، ويعيد رسم قواعد الاشتباك غير المعلنة في الأجواء المتنازع عليها.
سد الفجوة
في ضوء هذا المشهد الإقليمي المضطرب، لا يقتصر مشروع “القبة الفولاذية” على كونه استجابة لحظية للتهديدات، بل يُطرح كخيار استراتيجي طويل الأمد، يهدف إلى سد الفجوة التكنولوجية والدفاعية التي تفصل تركيا عن القوى الكبرى، وفي مقدمتها “إسرائيل” التي تُعد مرجعًا عالميًا في مجال أنظمة الدفاع الجوي المتكاملة.
غير أن محاولة اللحاق بهذا المستوى المتقدم تطرح أسئلة معقدة، تتجاوز القدرات التقنية المباشرة، إلى عوامل مرتبطة بالتراكم الصناعي، والخبرة العملياتية، وشبكات الدعم الاستخباراتي، والكلفة المالية الهائلة، والبيئة السياسية التي تسمح أو تمنع نقل التكنولوجيا أو استخدامها في ظروف الحرب الحقيقية.
على صعيد القدرات التقنية، ما زالت “إسرائيل” تتفوّق بفضل منظومات متعددة أثبتت كفاءتها في المعارك، مثل “القبة الحديدية”، و”مقلاع داوود”، و”أرو”، وجميعها خضعت لاختبارات ميدانية منذ عام 2011، وبشكل مكثف منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى.
لكن ما يعزز هذا التفوق ليس الجانب التقني فقط، بل الدعم المالي واللوجستي المستمر الذي تتلقاه “إسرائيل” من قوى عظمى، على رأسها الولايات المتحدة، سواء عبر تمويل مباشر أو من خلال الشراكات الصناعية ونقل المعرفة. وهذا ما يجعل من منظوماتها الدفاعية جزءًا من بنية تحالف دولي، لا مجرد منتج وطني، ويزيد من صعوبة اللحاق بها بالاعتماد على قدرات محلية ناشئة فقط.
في المقابل، فإن المشروع التركي يُبنى على بنية وطنية متنامية في مجالي الإلكترونيات الدفاعية والصواريخ، بفضل شركات مثل أسيلسان وروكيتسان، ويتميّز بنموذج تطوير محلي يهدف إلى تقليص التبعية وتطوير منظومة “قابلة للتحديث الذاتي”. إلا أن ما ينقصه حتى اللحظة هو الخبرة التشغيلية تحت الضغط، واختبار الكفاءة في بيئة قتال حقيقية، وهو عنصر جوهري في تطوير الثقة والفاعلية لأي منظومة دفاعية متقدمة.
كما يواجه المشروع تحديًا مرتبطًا بالوصول إلى تقنيات حساسة محظورة أو مقيدة من قبل الدول الغربية، مثل الرادارات فائقة الدقة، والمعالجات العسكرية، وبعض مكوّنات الذكاء الاصطناعي والتوجيه البصري، ورغم الجهود التركية لتطوير بدائل محلية، إلا أن الوصول إلى مستوى تطابق قدرات الناتو أو “إسرائيل” أو أمريكا يتطلب وقتًا واستثمارات طويلة الأجل.
ومع ذلك، فإن التقدّم المتسارع للصناعات الدفاعية التركية، والانضباط المؤسسي في تنفيذ المشاريع الكبرى، والتجربة الناجحة في تطوير الطائرات المسيّرة والأنظمة الذكية، تُظهر أن سد الفجوة ليس مستحيلًا، بل مرهون بالاستمرارية، والإرادة السياسية، وتوفر الموارد، وفتح آفاق اختبار حقيقي للمنظومة في ميدان عملي.
بعبارة أخرى، “القبة الفولاذية” لا تسد الفجوة الآن، لكنها قد تكون الخطوة الأولى الفعلية نحو تضييقها خلال عقد زمني قادم، إذا ما توفرت لها الشروط الكاملة للنمو والتطوير الميداني.