لا تزال أصداء التطورات الدراماتيكية التي شهدتها نيبال تلقي بظلالها على المشهد العربي، حيث التفاعل الواضح على منصات التواصل الاجتماعي إزاء إجبار حكومة شارما أولى على تقديم استقالتها، وتنصيب القاضية سوشيلا كاركي المعروفة بمعارضتها للفساد بدلًا منه كأول سيدة تتولى رئاسة وزراء البلد الآسيوي.
اللافت في تلك الاحتجاجات أنها لم تكن تحت قيادة نخبوية معروفة، ولا يمكن تأطيرها في سياق سياسي محدد، وهو ما سرّع من وتيرة تدحرج كرة النار التي أطاحت بالحكومة في غضون أيام قليلة، إذ يمكن قراءتها ضمن موجة عالمية لصحوة جيل “زد”، هذا الجيل من الشباب الذي انتفض فجأة ضد الفساد وانعدام العدالة، ليقدم نفسه كأحد اللاعبين المؤثرين في المشهد رغم استبعاده بشكل لافت من أولويات اهتمامات الحكومات والأنظمة.
التعاطي الإعلامي الرسمي العربي مع تلك التطورات كان أضيق مما كانت عليه بمساحات شاسعة، مكتفيًا بحصرها في لحظة الانفجار النهائية، حيث الحظر الرقمي على بعض منصات التواصل الاجتماعي، متجاهلًا إرثًا هائلًا من المقدمات التي قادت في النهاية إلى هذا المشهد، وفي المقابل كان رواد المنصات الاجتماعية العربية أكثر شمولية وأبعد نظرًا في قراءتهم لتلك التجربة التي أعادت لأذهانهم انتفاضات الربيع العربي 2011، رغم اختلاف السياقات بين الشعبين العربي والنيبالي.
ماذا حدث؟
في الرابع من سبتمبر/أيلول 2025، أصدرت الحكومة النيبالية قرارًا بحجب ما يقارب 26 منصة للتواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، أبرزها فيسبوك وواتساب وإكس ويوتيوب، بزعم أنها مخالفة لقواعد التسجيل القانونية واللائحية المعمول بها، بجانب السعي لمحاربة خطاب الكراهية والاحتيال المنتشر على تلك المنصات.
القرار، بصورته المفاجئة والأحادية، حيث لا نقاش مجتمعي ولا مبررات مقنعة، فُسر من الشارع النيبالي على أنه محاولة لتقييد حرية التعبير، خاصة لدى الشباب وصغار السن، ممن يمثل لهم الفضاء الرقمي ساحتهم المفضلة ومتنفسهم الوحيد للتعبير عن آرائهم وأفكارهم دون قيود أو تضييقات، ومن جانب آخر تعد تلك المنصات مصدر الرزق الوحيد لكثير من صناع المحتوى المحليين في ظل أوضاع معيشية قاسية.
حاول الشباب إيصال رسالتهم الرافضة لهذا القرار، إلا أن الحكومة لم تقرأها بعد، ومع صبيحة الاثنين 8 سبتمبر/أيلول، وبعد أربعة أيام فقط من تلك الخطوة، كانت العاصمة كاتماندو تعج بعشرات الآلاف من أبناء جيل “زد”، لينفجر الغضب في الشوارع والميادين، منددين بالحجب ومطالبين برفعه فورًا، لتبدأ كرة النار في التدحرج.
لم تجد قوات الأمن النيبالية أي حرج في استهداف تلك التجمعات الاحتجاجية، على أمل سرعة ذوبانها، استنادًا إلى الصورة الذهنية المأخوذة عن أبناء هذا الجيل من الصغار الذين لا يقوون على المواجهة، ليسقط ما لا يقل عن 50 قتيلًا فيما أصيب المئات في غضون 48 ساعة فقط من المواجهات التي اندلعت بين الطرفين.
وفجأة انتقلت احتجاجات الشباب من خانة الوقفات السلمية ورفع بعض الشعارات، إلى أعمال العنف، حيث الغضب المتمدد جراء استهداف عدد من شركائهم في الميدان، لتواصل كرة النار تدحرجها لتطالب منازل وزراء وممتلكات مسؤولين وساسة، وبعض الصحف الموالية.
#Nepal: We are shocked by the killings and injury of protesters today and urge a prompt and transparent investigation.
We have received several deeply worrying allegations of unnecessary or disproportionate use of force by security forces during protests organized by youth… pic.twitter.com/KstvW4La92
— UN Human Rights (@UNHumanRights) September 8, 2025
حتى رموز المعارضة النيبالية لم تسلم من الاستهداف، حيث تم الاعتداء على زعيم حزب المؤتمر النيبالي ورئيس الوزراء الأسبق شِر بَهادور ديوبا وزوجته، في رسالة مباشرة وواضحة تقول إن السخط لم يعد على الحكومة والطبقة الحاكمة فقط، بل على النخبة السياسية بكل أطيافها.
وتحت وطأة هذا الضغط، والنمو المتصاعد للغضب الشعبي، واعتماد العنف والتصعيد كلغة حوار في مواجهة اعتداءات الأمن، اضطر رئيس الحكومة وعدد من وزرائه، الداخلية والزراعة والصحة والمياه، لتقديم استقالتهم في التاسع من الشهر الجاري، ليتولى الجيش مسؤولية إدارة المشهد مؤقتًا.
لم يستغرق النيباليون وقتًا طويلًا من أجل ترتيب الأوراق، واحتواء حالة الارتباك والفوضى التي خيمت على الأجواء في أعقاب استقالة الحكومة، ففي الثالث عشر من هذا الشهر، كُلّفت القاضية السابقة سوشيلا كاركي، المعروفة بتوجهاتها المحاربة للفساد، بتشكيل حكومة انتقالية لتصبح أول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في نيبال، وكانت أولى قراراتها حل البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة في مارس/آذار 2026.
جدير بالذكر أنه منذ إلغاء الملكية المطلقة عام 2008، تعاقبت على الحكم أربع عشرة حكومة، لم تتمكن أي منها من استكمال ولايتها الدستورية الممتدة لخمس سنوات، ومن هنا يؤكد محللون أن ما تشهده شوارع نيبال من توتر واضطراب ليس أمرًا عابرًا، بل انعكاس لأزمة ثقة عميقة الجذور في النظام السياسي، تفاقمت عبر سنوات من الحكومات الهشة وحالة عدم الاستقرار المستمرة.
الحظر ليس السبب الوحيد
ليس من المنطقي اختصار خروج عشرات الآلاف من الشباب واندلاع كل تلك المواجهات التي أسقطت المئات ما بين قتيل وجريح، وأطاحت بواحدة من أكثر الحكومات السلطوية في تاريخ البلاد، في الدفاع عن فيسبوك أو إكس أو إنستغرام فحسب، فما حدث هو تراكم طويل لإرث ممتد لسنوات عدة من عوامل الإحباط واليأس.
ويُشكل الاقتصاد رأس هرم هذا الغضب، حيث يعاني هشاشة أودت بالملايين من أبناء الشعب النيبالي (20% تقريبًا) لمستنقعات الفقر والعوز، حيث تتجاوز معدلات البطالة الرسمية 22% بين الشباب (ما بين 15 – 25 عامًا)، فيما وصل التضخم إلى 4.9%، وإن كانت النسب الحقيقية الواقعية أكبر من ذلك بكثير.
ومما يرسخ الوضعية المتدنية للاقتصاد النيبالي اعتماده في الأساس على تحويلات العاملين بالخارج، تلك التحويلات التي أصبحت العمود الفقري الأول إذ تشكل نحو 26.5% من الناتج المحلي، وهي سلاح ذو حدين، إذ إن أكثر من 25% من ناتج البلاد مرهون بعامل خارجي من الممكن أن يتوقف في أي وقت، مما سيكون له ارتدادات كارثية.
هذا الأمر دفع غالبية الشباب للتفكير في الهجرة لبلدان الخليج والدول الآسيوية للعمل بها، من أجل الارتقاء بمعيشتهم من جانب، ودعم أهاليهم في الداخل عبر التحويلات الخارجية من جانب آخر، مما أفقدهم الثقة بشكل أو بآخر في نظام بلدهم وإدارة السلطة لمقادير البلاد، وزاد من حدة الاحتقان والغضب المكتوم في الصدور.
ومما زاد من تفاقم هذا الاحتقان التفاوت الصارخ في المستويات بين الشعب النيبالي، فبينما يرزح ربع السكان تحت خطر الفقر، يهيمن 10% فقط من الأسر على الغالبية العظمى من الثروات، مما رسخ مفهوم غياب العدالة عمليًا وزاد من الإحباط الشعبي الذي مثّل الوقود الأكثر إشعالًا لتلك الاحتجاجات.
الفساد هو الآخر كان عاملًا مهمًا في إشعال فتيل الانتفاضة لدى الشباب، إذ تحتل نيبال المركز 107 عالميًا في مؤشرات الفساد من ناحية النزاهة والشفافية، فبجانب تلك الهوة الكبيرة في المستويات وما رافقها من معدلات بطالة وتضخم مرتفعة، ومن قبلها أرقام الفقر المتصاعدة، كانت هناك ثلة من النيباليين غارقة في الفساد، تقتات على حساب متوسطي ومحدودي الدخل، تُزيد أرصدتها البنكية والثرواتية من موارد الدولة فيما يغرق الغالبية في أتون العوز والفاقة.
🇳🇵 #Nepal’s first female prime minister, Sushila #Karki, took office on Sunday and vowed to only stay in the role for the next six months.
“We have to work according to the thinking of the #GenZ generation,” Karki said. pic.twitter.com/tHnTUJsQvS
— FRANCE 24 English (@France24_en) September 15, 2025
وفي هذا السياق رفع المتظاهرون خلال احتجاجاتهم لافتات تندد بما أسموه “أطفال المحسوبية” (nepo kids)، ويقصد بهم أبناء المسؤولين والنخبة الذين يعيشون حياة الترف بكل أشكالها في بلد يعيش أغلب سكانه على دخل لا يتجاوز 1447 دولارًا سنويًا وينتظر بداية كل شهر التحويلات القادمة من أبنائه العاملين بالخارج.
ويمثل وزير المالية بيشنو براساد باودل ذلك النموذج البيروقراطي الجامد، رمزية هذا الفساد عمليًا، حيث تعرض لملاحقات مهينة من المتظاهرين في شوارع العاصمة كاتماندو، وهو ما نقلته مقاطع فيديو مصورة على منصات التواصل الاجتماعي، إذ ظهر وهو مرتديًا خوذته ويتم ركله بالأقدام وسط النهر ثم يُسقط أرضًا قبل أن يواصل الجري وسط هتافات غاضبة.
لم يكن اختيار باودل تحديدًا لملاحقته بهذا الشكل المهين اختيارًا عشوائيًا، فرمزية منصبه باعتباره وزيرًا للمالية ونائبًا لرئيس الوزراء، وهو ما أهله ليكون الواجهة الأكثر تعبيرًا عن النخبة السياسية النيبالية، كانت الدافع الأبرز لإيصال الرسالة الأكثر عمقًا، حيث إسدال الستار تمامًا على هذه الصورة النمطية للوجه النخبوي المتغطرس للنظام.
وقود الاحتجاجات
عكس الثورات التقليدية التي تقودها النخب السياسية والتكنوقراط، جاءت ثورة نيبال بأيدي وأقدام جيل صغير، تتأرجح أعماره بين 13 – 18 عامًا، هذا الجيل الأكثر مرونة وتكيفًا مع التغيرات من الأجيال السابقة، والذي يملك وعيًا سياسيًا واجتماعيًا أكبر، خصوصًا بعد التحول الديمقراطي في البلاد والانتقال من الملكية للجمهورية.
يشكل جيل زد (المولودين تقريبًا بين 1997 و2012) قرابة ثلث المجتمع النيبالي، معظمهم الآن إمّا طلاب في المدارس والجامعات أو في بدايات سوق العمل، ويمتلكون علاقة قوية بالتكنولوجيا، حيث يمثل الإنترنت والهواتف الذكية عنصرًا أساسيًا في حياتهم اليومية، ويعتمدون بكثرة على فيسبوك، إنستغرام، تيك توك ويوتيوب للتواصل والتعلم والترفيه، ومؤخرًا بات مصدر ربح أساسي لقطاع كبير منهم.
هذا الجيل الصغير بات أكثر وعيًا بأهمية التعليم مقارنة بالأجيال السابقة، فكثير منهم يسعون للدراسة في الخارج (الهند، أستراليا، الولايات المتحدة) بحثًا عن فرص أفضل، كما هناك إقبال لافت على التعليم الرقمي (كورسات أونلاين) الذي أصبح وسيلة بديلة أو مكمّلة للتعليم التقليدي.
تميل تلك الفئة للتمرد على الواقع أكثر من غيرهم من الفئات العمرية الأخرى، ولديهم طاقات كامنة مكبوتة، بعضها يتم تفجيره في سوق العمل المحدود، والآخر مكبوت في انتظار الفرصة المواتية، وعلى مدار سنوات عانى هذا الجيل من خيبات أمل متلاحقة، حيث تربى على أرض رخوة سياسيًا، وهشة اقتصاديًا، وتعاني من فساد غير مسبوق، كل هذا شّكل شخصيات وعقليات مختلفة تمامًا عما سبقها.
When people are tired, and they come out in their millions, there’s no army or force of repression that can stop them.#NepalGenZProtest pic.twitter.com/mFi332rXNg
— Inibehe Effiong (@InibeheEffiong) September 10, 2025
من هنا جاءت تلك الاحتجاجات بشكل عفوي، مدفوعة بمعاناة سنوات وأزيز جدران متلاصقة من الإحباطات الاقتصادية التي تفوح منها روائح الفساد الكريهة، وتحويل السياسة في بلد خارج للتو من فخاخ الملكية إلى لعبة كراسي موسيقية بين قيادات مترهلة، كل ما يهمها تكبير كروشها من عرق وموارد وثروات الدولة على حساب الملايين من الأجيال المختلفة.
وتحتل الفئة العمرية ما بين 16 – 40 عامًا الشريحة الأكبر في نيبال بنسبة 40% من إجمالي عدد السكان، تليها الفئة ما بين 16 – 25 عامًا بنحو 20.08%، مما يجعل الشباب القاعدة الأساسية لأي حراك داخلي في نيبال، ومن هنا كان الرهان الذي أثبت نجاحه بعد سنوات غاب هذا الجيل عن دوائر اهتمام الحكومات المتعاقبة في الدولة الآسيوية، آخرها حكومة شارما أولي، أحد رموز النخبة السياسية في نيبال، والذي تولى الحكم أربع مرات سابقًا.
المثير للدهشة هنا، والذي يرسخ شكلًا ومضمونًا تغير قواعد اللعبة، أن اختيار القاضية سوشيلا كاركي وتنصيبها لرئاسة الحكومة لم يأت من خلال رئيس الجمهورية أو البرلمان أو حتى عن طريق ترشيحات الأحزاب والنخبة، إنما جاء عبر تصويت شعبي جرى على منصة “ديسكورد” للتواصل الاجتماعي، أحد المنصات المستخدمة في الألعاب الإلكترونية أو الفيديو جيمز.
النيبال والعرب.. هل من إرهاصات؟
أعادت الاحتجاجات في نيبال الذاكرة إلى أحداث الربيع العربي عام 2011، حيث ربط نشطاء بين الدوافع المحركة هنا وهناك، تلك الدوافع التي لا تزال حاضرة حتى اليوم، فيما ذهب آخرون إلى إجراء مقارنات بشأن أوجه الشبه بين ما حدث في الدولة الآسيوية وما تعايشه الكثير من الشعوب العربية في الوقت الراهن، في رسالة واضحة بأن وضعهم هناك لم يكن مختلفًا عن الوضع في عالمنا العربي.
اقتصاديًا، تصل نسبة البطالة بين الشباب العربي إلى 25.7% من إجمالي عدد السكان، علمًا بأن المعدل العالمي للبطالة بصفة عامة لا يتجاوز 15%، ما يعني أن المعدل العربي للشباب العاطل عن العمل أعلى بـ 10 نقاط عن المعدل الدولي، فيما تقفز تلك النسبة أضعاف هذا الرقم في بعض البلدان، حيث تبلغ في ليبيا 49.5%، وفي تونس 35.5%، والجزائر 29.6%، ومصر 26.5%.
وتُعد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أكثر بلدان العالم في نسب الفقر، إذ تعتبر الاستثناء الوحيد عالميًا في ارتفاع معدلات الفقر بها منذ عام 2010، فبحسب خط فقر يومي مقداره 3 دولارات (على أساس تعادل القوة الشرائية لعام 2021)، تضاعفت نسبة الفقر المدقع تقريبًا من 4٪ عام 2010 إلى 8.6٪ في 2021، مع توقعات بارتفاعها إلى نحو 9.4٪ بنهاية عام 2025.
وتبلغ معدلات الفقر مستويات متأرجحة من دولة لأخرى، وإن كان المعلن رسميًا أقل بكثير مما هو عليه في الواقع، حيث تبلغ النسبة في مصر 29.7% بعدما كانت 32.5%، وفي تونس 16.6%، فيما تتجاوز في السودان حاجز الـ 70% من إجمالي عدد السكان.
وعلى مستوى الفساد، كشف تقرير منظمة الشفافية الدولية الصادر لعام 2024 أن الفساد في منطقة الشرق الأوسط يعد من أعلى المعدلات عالميًا، حيث بلغ متوسط درجات دول المنطقة 39 نقطة من أصل 100 نقطة في مؤشر تقييم أداء مكافحة الفساد في القطاع العام، حيث تحتل مصر المرتبة 130 عالميًا، أي أقل بـ 23 مرتبة من نيبال التي تحتل المركز 107 عالميًا.
جيل زد.. إذا كانت الفئة العمرية ما بين 16 – 25 عامًا تشكل في نيبال 20.08% من إجمالي عدد السكان، فإنها في الوطن العربي تشكل نحو 28% من إجمالي سكان العرب البالغ عددهم 468 مليون نسمة، ما يعني تفوقًا عربيًا واضحًا في حجم جيل زد مقارنة بسكان العرب، الأمر الذي يجعل من هذه الفئة وقودًا ومحركًا لكثير من الأمور.
أما في مصر، بصفتها خزان الوقود البشري العربي، فطبقًا لبيانات السكان في يناير/كانون الثاني 2024، بلغ عدد الشباب في الفئة العمرية 18-29 سنة 21.1 مليون نسمة بنسبة 19.9٪ من إجمالي السكان، منهم 51.9٪ ذكورًا، و48.1٪ إناثًا، وبلغ عدد الشباب في الفئة العمرية 15-24 سنة 18.5 مليون نسمة، بنسبة 17.5٪ من إجمالي السكان.
ورغم أن هذا الجيل في نيبال لم يعاصر الأحداث الجسام التي عصفت بالبلد، بل على العكس كان شاهدًا على التحول الديمقراطي من الملكية المطلقة إلى الجمهورية، لكن الهزات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الأخيرة شكلت وعيه وإدراكه بصورة دفعته للانفجار بهذه الصورة، عكس عقارب الساعة الزمنية.
الوضع عربيًا ربما يكون أكثر عمقًا، فالجيل الذي شارك في موجة الربيع العربي كان أسيرًا مناخًا سياسيًا واقتصاديًا خانقًا، غير أنه كان يمتلك الحدود الدنيا من التكنولوجيا التي ساعدته في التعرف على الكثير من محفزات الثورة والانتفاضة في وجه الأنظمة الديكتاتورية، وقد تعرض هذا الجيل إلى خيبات متتالية لاحقًا بفضل الثورات المضادة.
اليوم الوضع مختلف تمامًا، فجيل زد الحالي عربيًا لم تعصف به بعد تلك الخيبات التي عصفت بالذي سبقه، إذ أن معظمهم وُلد إبان الثورة وترعرع في كنف هذا المناخ المستمر حتى اليوم، لكنه الجيل المعبأ بالطاقة السياسية المستقاة من إدراكه ووعيه المتزايد بسبب تعرضه لوسائل الاتصالات المختلفة، وقدرته على التصدي لأي محاولات حجب أو تضييق الخناق.
هذا الجيل، الذي شهد النخب السياسية وهي تنبطح أمام مقاربات متخاذلة، وعايش حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني على مرأى ومسمع من الحكومات والأنظمة المنبطحة، وكان شاهدًا عيانًا على استئساد النظم على الشعوب فيما تقف جثة هامدة أمام الولايات المتحدة والكيان المحتل، كما كان ضحية لتلك الثنائية الفاضحة، الفساد والفشل، فرأى بأم عينيه كروش تتعاظم وثروات تتضاعف لثلة من النخب فيما يقبع معظم الشعب في مستنقع الفقر، هذا بخلاف الوضعية الحقوقية المزرية التي دفعت كثير من أبناء هذا الجيل للكفر بتلك الحكومات والسعي للهجرة حتى لو كان عبر مغامرة قد تكون الحياة كلفتها الرخيصة.
كل تلك الأجواء تدق ناقوس الخطر، وتبعث برسائل تحذيرية للجميع بضرورة إعادة النظر في آليات التعامل مع هذا الجيل الذي لم يكن تافهًا كما صوره الإعلام، خاصة بعد فشل كل مخططات التسطيح والتجهيل الممنهجة، ليصبح قنبلة قابلة للانفجار في أي وقت إذا لم يتم احتوائه عبر سياسات مغايرة واستراتيجيات تمتص غضبه واحتقانه المتصاعد.
في الأخير..
تُظهر تجربة نيبال الأخيرة كيف يمكن لشباب جيل “زد” أن يتحول من جمهور متفرج إلى قوة فاعلة تغيّر موازين السلطة، مستندين في ذلك إلى وعيهم السياسي والاجتماعي وقدرتهم على استخدام التكنولوجيا كأداة للتعبير والمشاركة، فالحراك الذي اندلع في كاتماندو لم يكن مجرد احتجاج على حجب منصات التواصل، بل تجسيدًا لتراكم سنوات من الفقر والبطالة والفساد، ونتيجة إحساس عميق بالظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
أما على صعيد العالم العربي، فإن ما حدث في نيبال يمثل جرس إنذار حول قوة هذا الجيل الذي يشكل نسبة كبيرة من السكان، ويتفاعل مع قضايا الفساد والبطالة والفقر عبر أدوات رقمية متقدمة. فالجيل العربي الحالي، الذي لم يتعرض بعد لكثير من التجارب الثورية المباشرة، يمتلك وعيًا أكبر وإمكانات للتأثير في المستقبل، ما يستدعي من الحكومات وضع استراتيجيات شاملة للتعامل معه وإشراكه في صنع القرار بدلًا من الاستخفاف به أو إقصائه عن المشهد، حتى لا تتحول طاقاته الكامنة إلى قنبلة قابلة للانفجار.