(هذه المادة الثانية التي تتتبع حكاية عين سامية؛ الأرض التي قاومت الأطماع الاستيطانية بوسائل شتى، قبل أن تتسارع وتيرة الاستيلاء عليها بعد أكتوبر 2023).
جريمة جديدة تُضاف إلى سلسلة الانتهاكات بحق عين سامية، والضحية هذه المرة “نبع المياه”، فيما الجناة هم “المستوطنون”. شريان الحياة لـ100 ألف فلسطيني يتحول اليوم إلى هدف لعربدة المستوطنين، إذ تُحرم 33 قرية من المياه، ويُترك سكانها عطشى من أجل ملء بركة مهجورة وتحويلها إلى مسبح ترفيهي للمستوطنين وأطفالهم، وهذه البداية فقط.
في حديثه لـ”نون بوست”، أكد فارس المالكي، مدير الإعلام والعلاقات العامة في مصلحة مياه محافظة القدس، أن ما يحدث في منطقة عين سامية شرق قرية كفر مالك من اعتداءات للمستوطنين هو سياسة ممنهجة وجريمة مركبة بحق الأرض والمياه، ويضيف: “مؤخرًا كان هناك استهداف للخطوط الرئيسية للمياه، منها المضخة الرئيسية في البئر رقم “6” في هذه المنطقة. هذه الاعتداءات التي تكررت على مدى الشهرين ونصف الماضيين، أدت إلى توقف ضخ المياه من هذه الآبار وحرمان الآلاف من الفلسطينيين من حقهم في المياه”.
تداعيات وأبعاد الأزمة
أفاد المالكي أن آبار عين سامية هي 5 آبار رئيسية تمثل المصدر الرئيسي والوحيد لـ19 تجمعًا سكانيًا فلسطينيًا، من أبرزها قرى دير دبوان، والطيبة، ورمون، ودير جرير، والمزرعة الشرقية، وسلواد، وعين يبرود، ويبرود، وكفر مالك، وخربة أبو فلاح، والمغير، وترمسعيا، وسنجل، وعبوين، وجلجليا، وعارورة، وتزود المياه بشكل جزئي لـ14 تجمعًا سكانيًا آخر، منها بيرزيت، والجلزون، وعطارة، وأبوقش، وبالتالي نحن نتحدث عن 100 ألف مواطن فلسطيني يستفيدون من المياه التي يتم ضخها من آبار عين سامية إما بشكل تام أو بشكل جزئي.
هذا وقد بدأ المستوطنون باستهداف البنية التحتية للمحطة من خلال تحطيم كاميرات المراقبة، والاعتداء على الخطوط الرئيسية للمياه، وسرقة البوابات الحديدية الموجودة في المحطة الرئيسية، ولافتات خاصة بالمحطة، بالإضافة إلى قطع خطوط الاتصالات والإنترنت بشكل كامل، مما أدى إلى فقدان طواقم مصلحة مياه محافظة القدس القدرة على التحكم والسيطرة على الآبار. وهذا يعني توقف عمليات الضخ للمياه مؤقتًا.
وأوضح المالكي لـ”نون بوست”: “عندما يكون هنالك أي اعتداء على هذه الآبار، تضطر مصلحة مياه محافظة القدس إلى وقف الضخ، وذلك خشية أن يكون قد حصل تلوث للمياه أثناء عملية الاعتداء، وتقوم الطواقم بفحص المياه والتأكد من جودتها. بعد ذلك، تتم عملية الضخ مرة أخرى”. التوقف الذي يحدث لعملية الضخ يؤثر على وصول المياه للمواطنين ويؤثر على برنامج التوزيع الذي تعتمده المصلحة في إيصال المياه إلى القرى والبلدات الفلسطينية.
وأضاف أنه منذ السابع من أكتوبر لعام 2023، واجهت طواقم مصلحة المياه تحديات بالوصول لمنطقة عين سامية بسبب الإجراءات التي اتخذتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ ذلك الوقت، والتي تشمل إغلاق الطرق الرئيسية وتحويل منطقة عين سامية لمنطقة عسكرية مغلقة. واليوم، يصعب على طواقم المصلحة أن تتأخر في ساعات الليل خوفاً أن يتعرضوا لاعتداءٍ مسلحٍ من قبل قطعان المستوطنين.
عين سامية إرث حضاري
حول أهمية عين سامية، فهي إرث تاريخي وحضاري يعود إلى 7000 عام. تم حفر البئر بالتزامن مع بدء تأسيس مصلحة مياه محافظة القدس عام 1966، بموجب القانون الأردني، أي قبل سيطرة “إسرائيل” على الضفة واحتلالها عام 1967. وتعد عين سامية من أهم مصادر المياه الجوفية في منطقة شمال شرق رام الله، حيث تتراوح أعماق آبارها بين 100 و500 متر، ويُستخرج منها 12 ألف متر مكعب من المياه، وهي تمثل ما نسبته 17% من الكميات اليومية الموردة من مصلحة مياه محافظة القدس.
من الجدير ذكره أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تسيطر اليوم، وفق تقرير المرصد الفلسطيني، على حوالي 85٪ من موارد المياه الجوفية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. في الوقت ذاته، تحرم الفلسطينيين من استغلالهم لمصادر المياه. وقد تفاقم هذا الوضع بسبب بناء المستوطنات الإسرائيلية وإقامة المشاريع الزراعية التابعة للمستوطنات الإسرائيلية (التي تستهلك المياه بشكل كبير). هذا بالإضافة إلى البؤر الرعوية الاستيطانية التي أصبحت تشكل خطراً على الفلسطينيين ومواردهم الطبيعية.
كما يشير التقرير إلى “تمتع المستوطنين القاطنين في المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة بحصص من المياه تعادل ضعفي أو ثلاثة أضعاف متوسط استهلاك المياه لدى غيرهم من مواطني دولة الاحتلال الإسرائيلي على أقل تقدير، والتي تتراوح بين 400 و700 (لتر/يومياً/ للفرد الواحد) (بحسب تصنيف المستوطنة وموقعها الجغرافي)”.
هذا ما أكده صلاح خواجا، عضو هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، في مقابلة سابقة لـ”نون بوست”، حيث أشار إلى أن ما يحدث حاليًا هو جزء من المخطط الإسرائيلي وأطماعه في المنطقة، وأضاف أن المستوطنين سيطروا في السنوات الثلاثة الأخيرة على نحو 30 نبعًا من الينابيع الرئيسية الموجودة في الضفة الغربية، وآخرها عين العوجا، والآن يحاولون السيطرة على عين سامية.
بناءً على تقرير صادر عن منظمة بتسيلم الإسرائيلية في عام 2023، فإن نظام القانون الإسرائيلي أحدث فجوة كبيرة في الوصول إلى المياه داخل الضفة الغربية بين الفلسطينيين والمستوطنين، ففي حين يحصل جميع سكان إسرائيل وسكان المستوطنات في الضفة على المياه الجارية بشكل يومي، فإن 36% فقط من الفلسطينيين يحصلون على المياه الجارية يوميًا.
هذا ما أكده أيضًا فارس المالكي في حديثه، حيث أشار إلى أن النسبة الأكبر من المياه في الضفة الغربية تستولي عليها المستوطنات، فحصة المستوطن من المياه حسب قوله (6-8 أضعاف) من حصة المياه للمواطن الفلسطيني.
حصار المياه في رام الله وقراها
كما وصف المالكي هذا الصيف بكونه صعبًا بالنسبة للقرى والبلدات الفلسطينية في محافظة رام الله والبيرة بسبب هذه الاعتداءات. هناك نقص وصعوبة في وصول المياه من آبار عين سامية، المشكلة لا تقف عند هذا الحد، بل يمتد الأمر لأي كسر أو خلل في أي خط من الخطوط المتواجدة في المناطق المصنفة “ج” حسب اتفاقية أوسلو في محافظة رام الله والبيرة.
ونتيجة لذلك، يصعب على طواقم مصلحة المياه القيام بأي صيانة حتى يحصلوا على التصاريح اللازمة من قبل سلطات الاحتلال، وقد يستغرق الحصول على التصاريح ساعات، بل وأيام، وحتى قد لا تحصل المصلحة على أذونات لإصلاح هذا الكسر مطلقًا.
وفي بيان لمصلحة المياه، ذُكر أن تكرار الاعتداءات ينعكس سلبًا على برنامج توزيع المياه، خاصة في المناطق الشرقية والشمالية مثل قرية سنجل وما يجاورها، كما أثّر بشكل مباشر على منطقة بيرزيت والقرى المجاورة، ما ضاعف من معاناة الأهالي في الحصول على حصصهم المائية.
شهادات من قلب المعاناة
محمود عصفور من قرية سنجل شمال رام الله، روى لـ”نون بوست” معاناة الأهالي جراء انقطاع المياه المستمر منذ 18 يومًا، بفعل الحملة المسعورة التي شنّها المستوطنون على آبار عين سامية خلال الأشهر الأخيرة.
يقول محمود: “اضطررنا إلى تقنين استهلاك المياه حتى في أبسط الأمور مثل الاستحمام. قبل الأزمة كنا نستمتع بالاستحمام لربع ساعة أو نصف ساعة، أما الآن فلا يتجاوز بضع دقائق. لولا البئر الذي نملك، والذي كان يغطي احتياجات ستة منازل مؤخرًا، لكانت الأزمة أشد قسوة، لكنه جف تمامًا واضطررنا لشراء تنكات مياه لا تكفي سوى لأيام قليلة، وبسعر يتجاوز 120 شيكلًا للتنك الواحد”.
ويضيف بحسرة: “كنا نسقي مزروعاتنا في الحديقة، أما اليوم فقد أصبحت هذه رفاهية محرومة. لم يعد استخدامنا للمياه يتجاوز حدود الشرب والوضوء”.
ووجه بدوره رسالة للجهات الدولية والحكومية للضغط على الاحتلال الغاشم ومستوطنيه لوقف هذه الاعتداءات المستمرة تجاه آبار عين سامية، ودعا لضرورة دعم مناطق شرق رام الله وحمايتها، وإمدادها بكل أساليب الصمود والاستقرار، خاصة أنها مهددة بالاستيطان وتعاني يوميًا من هجمات المستوطنين.
تحدث الدكتور سامح أبو عوّاد، المحاضر في جامعة بيرزيت والذي يقطن البلدة نفسها، لـ”نون بوست” عن معاناته من انقطاع المياه منذ 45 يومًا. مع العلم أن بلدة بيرزيت تعتمد جزئيًا على مياه محطة عين سامية، التي تزود المنطقة بـ 25% من احتياجات البلدة من المياه، وبسبب الاعتداءات الهمجية المستمرة لقطعان المستوطنين، أصبحت بيرزيت كغيرها تعاني من انقطاع المياه.
وأشار أبو عوّاد إلى أن هذا الصيف كان صعبًا جدًا عليهم كعائلة، فقد أصبح اعتمادهم الكلي على تنكات المياه للاستخدام اليومي، وعلى شراء المياه خصيصًا من أجل الشرب، لأن هذه التنكات لا تعتبر صالحة للشرب. وأضاف قائلاً: “كل هذه المعاناة تكلفنا اقتصاديًا ونفسيًا وصحيًا، وللأسف ما زالت المشكلة قائمة ومتفاقمة، والأزمة مستمرة. ولا أعتقد أن القضية تتعلق بنقص المياه بقدر ما هي قضية سياسية، ضمن حملة ممنهجة للتهجير الناعم للناس من خلال التضييق عليهم في أساسيات الحياة”.
وتساءل أبو عوّاد: “كيف يمكن أن يكون معدل استهلاك المياه للفرد في العالم حوالي 100 لتر يوميًا، بينما يعيش الفلسطينيون في ظل ظلمٍ وقهرٍ مستمرين؟ فقد لا يتجاوز استهلاك الفلسطيني للمياه نصف هذا المعدل، وذلك بسبب الانتهاكات الإسرائيلية الاستيطانية في المنطقة”.
واشتكى من سوء التوزيع، قائلاً: “ليس من المعقول أن استلم فقط 3 أكواب من المياه من مصلحة المياه خلال شهرين، بينما لا تنقطع المياه عن مناطق أخرى أو تنقطع لأيام معدودة فقط”.
بلدية سنجل في المواجهة
من جانبه، بين بهاء فقهاء، نائب رئيس بلدية سنجل، في مقابلة لـ”نون بوست”، أن المعاناة من نقص المياه بدأت منذ بدء حرب أكتوبر 2023، فقد قامت جرافات الاحتلال العسكرية بجرف خط المياه الناقل الذي يغذي بلدة سنجل وما حولها من القرى. وهذا الخط يقع بالقرب من شارع نابلس القديم ومستوطنة معاليه ليفونه. بعدها بعام، قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بكسر الخط الناقل من عين سامية الممتد من قرية المزرعة الشرقية إلى بلدية سنجل.
وأضاف قائلاً: “المياه ليست مجرد مورد طبيعي، بل هي قضية حياة أو موت بالنسبة لنا. نحن نواجه محاربة منظمة للتهجير من أراضينا عبر التضييق على موردنا المائي”.
جدير بالذكر أنه في ظل الأوضاع الاقتصادية السيئة التي يعاني منها سكان الضفة الغربية، تباع خزانات المياه بأسعار باهظة تقدر بين 700-800 شيكل للخزان الواحد. أما عن أسعار تنكات المياه فلا يوجد سعر محدد.
وفي إطار سعيها لتلبية احتياجات المواطنين، وجه نائب رئيس بلدية سنجل، بهاء فقهاء، رسالة لأهالي البلدة عبر “نون بوست” أشار فيها إلى أن البلدية تمكنت من شراء تنكات المياه، التي ستعرضها للبيع بأسعار رمزية للعائلات المحتاجة والمتأثرة اقتصاديًا. وأضاف فقيه أن البلدية تخطط أيضًا لشراء خزانات مياه مستقبلاً وبيعها بنصف السعر لمن يحتاجها.
مواطنٌ أعزل أمام مستوطنٍ مسلحٍ
“عنف المستوطنين ليس بمثابة مبادرات فردية بل هو عنف الدولة وهو عنف يسخّر كأداة إضافية لتجريد الفلسطينيّين من أراضيهم، ومن موردهم المائي”. هذا ما أكده تقرير بتسيلم.
لا يزال عنف المستوطنين مستمرًا ويتفاقم إلى الآن، فلا يمر يوم دون أن يقوم قطعان المستوطنين بالاعتداء على المصلحة وممتلكاتها. ومع ذلك، فإن طواقم المصلحة تتواجد يوميًا رغم الاعتداءات والتضييقات. هذا ما أكده المالكي قائلاً: “إن طواقمنا موجودة لحماية هذه الآبار بالإمكانيات المتاحة. إلا أن المستوطنين مسلحون، وبالتالي لا يمكن التصدي لأي مستوطن يحمل السلاح أمام مواطن أعزل، المطلوب أن يكون هناك حماية دولية ووقف لاعتداءات المستوطنين”.
من جانب آخر، أفاد المالكي أن المصلحة أرسلت العديد من الرسائل إلى المؤسسات الدولية، واستضافت وفدًا من السلك الدبلوماسي الأوروبي والدولي في منطقة عين سامية لإطلاعهم على ظروف عمل طواقم مصلحة المياه وخطورة ما تقوم به المجموعات الاستيطانية. وتم تسليمهم رسالة رسمية تطالب المجتمع الدولي بالضغط على الاحتلال لوقف هذه الاعتداءات المسعورة.
واختتم أبو عوّاد حديثه بالدعوة إلى ضرورة إصدار قرار يحافظ على الأمن المائي للمواطنين. مع التأكيد على أهمية إنشاء نظام رقابي مشدد لحماية مصادر المياه من التلاعب والتخريب من قطعان المستوطنين. كما شدّد على ضرورة توزيع المياه بشكل عادل بين المناطق، وحيث يمكن من خلال ذلك مواجهة هذه الأزمة وتعزيز صمود المواطنين.
من جانبه، أعرب المالكي عن رسالة المصلحة في ختام حديثه قائلاً: “لن نقبل بفرض الأمر الواقع علينا من قبل المستوطنين وجيش الاحتلال الإسرائيلي، خاصة مع المخاوف من محاولاتهم السيطرة على موارد المياه. نحن في المصلحة لن نتخلى عن هذه الآبار، وسنبقى متمسكين بها، وسنواصل تحركاتنا لحماية مواردنا المائية التي تشكل أساس حياتنا ومستقبلنا”.
كما طالب فقهاء الجهات الدولية بضرورة الضغط على الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه لوقف عربدتهم في المنطقة، داعيًا المصلحة إلى معالجة القضايا الفنية والعمل على توزيع المياه بالتساوي بين المناطق.
في وجه عطش مفروض وممنهج، يقف الفلسطيني أعزل، لكنه صامدٌ ثابت. لا يملك رفاهية المسبح، لكنه يتمسك بحق الحياة. نبع عين سامية ليس فقط ماء يتدفق، بل تاريخٌ يقاوم، وإرثٌ يتمسك به الناس بكل ما تبقى لديهم من كرامة. فهل يسمع العالم الأصم صرخة الماء… وأنين الناس، أم يواصل تواطؤه بالصمت؟