ترجمة وتحرير: نون بوست
في وقت سابق من هذا الأسبوع، وقّعت الهند اتفاقية استثمارية تاريخية مع إسرائيل.
وتهدف هذه الاتفاقية، المعروف باسم “اتفاقية الاستثمار الثنائية”، إلى تعزيز ثقة المستثمرين وتسهيل المعاملات التجارية بين البلدين.
وفي مراسم التوقيع التي جرت في نيودلهي بتاريخ 8 سبتمبر/ أيلول، صرّح وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بأن الاتفاق “سيفتح آفاقًا جديدة أمام المستثمرين الإسرائيليين والهنود، ويعزز الصادرات الإسرائيلية، ويوفر للشركات في كلا البلدين قدرًا من اليقين وأدوات تساعدها على التطور في أسرع الأسواق العالمية نموًا”.
وقال سموتريتش: “الهند قوة اقتصادية صاعدة، والتعاون معها يشكّل فرصة هائلة لإسرائيل”.
وفي بيان رسمي، أكدت الحكومة الهندية أن الاتفاق يُجسّد “التزام البلدين المشترك بتعزيز التعاون الاقتصادي وتهيئة بيئة استثمارية أكثر قوة ومرونة.”
ببساطة، إنه اتفاق يربط بين الاقتصادين الهندي والإسرائيلي على المدى الطويل.
ولا يعتبر هذا الاتفاق الأول من نوعه بين الهند ودولة تُصنَّف ضمن “الغرب” أو عضو في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فحسب، بل إنه يفتح أيضًا الباب أمام احتمال إبرام اتفاقية للتجارة الحرة بين البلدين، من المؤكد أن هذا الاتفاق يتمحور حول المال والأمن الاقتصادي.
ويبدو أن أحد أهدافه الرئيسية هو حماية استثمارات مجموعة أداني في ميناء حيفا، إضافة إلى محاولة إبقاء مشروع “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط”، وهو ممر يربط الهند بالأسواق الغربية، قائمًا وفعّالًا.
ويواجه الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط، الذي تدعمه الولايات المتحدة ويُنظر إليه كمسار تجاري مضاد لمبادرة الحزام والطريق الصينية، عقبات متزايدة منذ بدء الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة.
وبالنظر إلى توقيت الاتفاق بين الهند وإسرائيل، فإن الأمر يتجاوز الجوانب الاقتصادية ليأخذ بعدًا سياسيًا ودبلوماسيًا واضحًا، ويعكس رغبة الطرفين في إظهار القوة وبناء الثقة المتبادلة.
ويُعد هذا الاتفاق أيضًا أداة ضمن مشروع مستمر يهدف إلى تعزيز التكامل الاقتصادي الواسع بين الهند وإسرائيل والشرق الأوسط.
الاستثمار في ظل الإبادة الجماعية
منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، قتلت إسرائيل أو أصابت أو شوّهت نحو 200,000 شخص في غزة.
ويعيش سكان غزة، البالغ عددهم حوالي مليوني نسمة، في مجاعةٍ خانقة، نتجت بالكامل عن الحصار الذي تفرضه الحكومة الإسرائيلية.
وردًا على المشاهد القادمة من غزة، خرج ملايين الأشخاص حول العالم إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة.
وقد رفعت عدة حكومات دعاوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب إبادة جماعية.
ووقّعت دول أخرى على حظر لتصدير الأسلحة، فيما قررت كولومبيا، على سبيل المثال، وقف صادرات الفحم إلى إسرائيل.
وفي الوقت الراهن، يُبحر مئات المدنيين على متن قوارب تحمل مساعدات غذائية وطبية إلى غزة، على أمل كسر الحصار المفروض عليها.
ومن خلال استضافة وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، أحد أقوى الحقائب الوزارية في أي حكومة، وتوقيع اتفاق اقتصادي في هذا التوقيت تحديدًا، لم تكتف نيودلهي بالإشارة إلى دعمها لإسرائيل، بل تعهّدت بربط مصيرها الاقتصادي والسياسي بها.
إن كون الشخصية التي استُضيفت هي سموتريتش، وهو زعيم إسرائيلي ممنوع من دخول خمس دول غربية بسبب تحريضه على العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، وقد أُعدّ بالفعل أمر توقيف بحقه لدى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، يجعل خطوة الهند أكثر فظاعة وإثارة للاستهجان.
وفي ظل تزايد عزلة إسرائيل في أوروبا، برزت الهند فعليًا كلاعب يوفر لها مظلة أمنية ودعمًا اقتصاديًا. ويعكس ذلك تطوّر العلاقة بين الهند وإسرائيل خلال العقد الماضي، وتحديدًا في سياق الإبادة الجماعية الجارية.
ولم تشهد العلاقات الاقتصادية والثقافية بين الهند وإسرائيل أي تباطؤ، إذ سارعت الهند إلى سدّ النقص في اليد العاملة الناتج عن إلغاء تصاريح العمل الخاصة بالفلسطينيين، فيما وقّعت الجامعات مذكرات تفاهم واتفاقيات تبادل جديدة. وفي الوقت ذاته، واصلت وسائل الإعلام الهندية الرئيسية التغطية على الإبادة الجماعية الجارية.
“المصلحة الوطنية”
على مدى أكثر من عقد، كانت الهند أكبر مشترٍ للأسلحة الإسرائيلية، ولم تُغيّر الإبادة الجماعية الجارية مسار هذه العلاقة.
وعلى مدى العامين الماضيين، وقّع البلدان أيضًا اتفاقيات في مجالات تكنولوجيا المياه والأمن السيبراني والزراعة، وهي قطاعات بنت فيها إسرائيل صناعات كاملة مستندة إلى احتلالها للفلسطينيين.
وبحلول عام 2024، بلغ حجم التبادل التجاري بين الهند وإسرائيل نحو 4 مليارات دولار سنويًا.
وتُقدّر الاستثمارات المتبادلة بين الهند وإسرائيل بنحو 800 مليون دولار، فيما يتركّز الجزء الأكبر من التبادل التجاري حول الإنفاق العسكري.
وقد صدّرت الهند إلى إسرائيل الأحجار الكريمة والمجوهرات والمواد الكيميائية والسلع الهندسية، في حين صدّرت إسرائيل إلى الهند الأسلحة والأسمدة والآليات.
وتتزايد مشاركة الهند في إنتاج الأسلحة الإسرائيلية داخل مصانع منتشرة في أنحاء البلاد. فمنذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أرسلت شركات هندية طائرات مسيّرة قتالية وصواريخ ومواد متفجرة لدعم الإمدادات العسكرية الإسرائيلية في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها.
وفي أواخر عام 2024، كشف موقع “ميدل إيست آي” أن نظام الأسلحة المعتمد على الذكاء الاصطناعي، والذي تستخدمه القوات البرية الإسرائيلية في غزة، تم تصنيعه بشكل مشترك بين شركة هندية وأخرى إسرائيلية.
وردًا على الانتقادات الموجّهة بشأن استمرار العلاقات العسكرية، وصفت وزارة الخارجية الهندية صفقات الأسلحة بأنها مرتبطة بـ”المصلحة الوطنية”.
وقال وزير الخارجية الهندي، سوبرامانيام جايشانكار، في ذلك الوقت: “إن مسألة صادرات الهند، بما في ذلك أي صادرات لها تبعات عسكرية مباشرة أو غير مباشرة، تخضع لمصالحنا الوطنية والتزاماتنا تجاه عدد من الأنظمة”.
وأضاف جايشانكار: “فيما يتعلق بإسرائيل، فهي دولة تربطنا بها علاقات تعاون قوية في مجال الأمن القومي، كما أنها وقفت إلى جانبنا في لحظات مختلفة حين كان أمننا القومي مهددًا.”
وفيما يتعلق بمذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، أضاف جايشانكار أن الهند لن تتخذ موقفًا رسميًا بهذا الشأن، نظرًا لأنها ليست من الدول الموقعة على اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية.
وتُعد اتفاقية حماية الاستثمار جزءًا من جهود خلق بيئة أكثر استقرارًا، من شأنها أن تُسهّل تنفيذ الاتفاقيات الاقتصادية بشكل أكثر فاعلية، وكل ذلك يعني الكثير للدولتين.
أيديولوجيات مشتركة
وبوصفهما دولتين تستندان إلى أيديولوجيات تفوّق عرقي، وهي الصهيونية والهندوتفا، تدفع كل من الهند وإسرائيل بأجندة إقصائية وتوسعية، ويتجلّى ذلك في المستوطنات المخصصة للإسرائيليين فقط في الضفة الغربية المحتلة، وفي المساعي لبناء مستوطنات مخصصة للهندوس فقط في كشمير التي تحتلها الهند.
ويظهر ذلك أيضًا في ما يُسمّى بالتدخلات القانونية، مثل “قانون العودة” الإسرائيلي أو “قانون الدولة القومية”، إلى جانب “قانون تعديل الجنسية” الهندي، والتي تجعل الحصول على الجنسية مشروطًا بالانتماء الديني.
وتتجلّى الأجندة السلطوية أيضًا في التوسّع المفرط لمنظومتي المراقبة في كلا البلدين، وفي الاستخدام التعسفي لقوانين مكافحة الإرهاب ضد المعارضين، إلى جانب عنف القوات المسلحة بحق المدنيين.
ففي كشمير، نشرت الدولة الهندية شبكة واسعة من كاميرات المراقبة والمخبرين المحليين وزيارات ميدانية للصحفيين والنشطاء، بهدف فرض مناخ من القمع والخوف في أنحاء الوادي، وهو أمر أصبح مألوفًا؛ حيث يظهر ذلك في محاولات التغيير الديموغرافي عبر حرمان السكان من حقوقهم وهدم منازلهم واستهداف مواقعهم الدينية.
وترى كل من الهند وإسرائيل أن هذه الأساليب تمثل تقدمًا في بناء دول قائمة على القومية العرقية والدينية.
ومن خلال هذه المعاهدة، يتم ترسيخ هذا التحالف بشكل مؤسسي أكثر عمقًا، وهي توجّه رسالة واضحة إلى المستثمرين والممولين مفادها أن الهند لا ترى مشكلة في التعامل مع دولة تُتهم بارتكاب إبادة جماعية.
وبتوقيع هذا الاتفاق، تُعبّر الهند عن تقاربها مع مستقبل إسرائيل؛ حيث يعتبر القوميون الهندوس هذا الاتفاق مع إسرائيل علامة فارقة مهمة.
ويرى أولئك الذين يهتمون بحقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة حول العالم، أن ما شهدوه فعليًا هو أن ما يُسمّى بقائد الجنوب العالمي اختار التجارة والأسلحة والأيديولوجيا التفوقية على حساب أرواح الفلسطينيين.
ويعتبر بقية العالمأن ذلك يُشير إلى أن القمع، بالنسبة للبعض، ليس مجديًا اقتصاديًا فحسب، بل إنه – في حالة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة – يستحق الحماية والاستمرار.
المصدر: ميدل إيست آي