ترجمة وتحرير: نون بوست
يقول محمود درويش: “ستنتهي الحرب، ويتصافح القادة، وتبقى تلك العجوز تنتظر ولدها الشهيد، وتلك الفتاة تنتظر زوجها الحبيب، وأولئك الأطفال ينتظرون والدهم البطل. لا أعلم من باع الوطن، ولكنني رأيتُ من دفع الثمن”.
لقد وضعت الحرب التي اجتاحت إسرائيل وقطاع غزة ومناطق أخرى منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 العالم أمام مشاهد لم يسبق أن رآها من قبل. من حيث الحجم والوحشية، تجاوز هجوم حماس على إسرائيل كل الهجمات الفلسطينية السابقة. أما الهجمات العسكرية الإسرائيلية وسياسة التجويع القسري في غزة، فهي حملة تخضع لقواعد غير مألوفة، حيث أصبح مقتل المسلحين الفلسطينيين كأنه ضرر جانبي، بينما يبدو القتل الجماعي والعشوائي لعشرات الآلاف من المدنيين، نسبة كبيرة منهم نساء وأطفال، كأنه الحدث الرئيسي. القتل هو الغاية، والموت حاضر في كل مكان، وضحاياه لا يعرفون متى أو أين سيأتي. لا يقتصر الرعب على ساحة المعركة، بل يمتد إلى تواطؤ الغرب ولا مبالاة الحكومات العربية، وهو لا يختلف عن التورط الفعلي.
لقد قلب السابع من أكتوبر/ تشرين الأول العلاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين رأسًا على عقب. إلى أي مدى كان ذلك جزءا من مخطط حماس وحساباتها، وإلى أي مدى كان نتيجة لمشاعر الإحباط والغضب الفوضوية والمكبوتة في نفوس المقاتلين والمدنيين على اختلاف مشاربهم، كل ذلك يبقى محل جدل. يرى سكان غزة المسجونون منذ سنوات، وغالبًا منذ ولادتهم، بسبب الحصار الإسرائيلي، الأرض التي هُجّر منها آباؤهم وأجدادهم دون أن تستطيع أقدامهم أن تطأها. وعندما اخترقت حماس السياج الفاصل بين غزة وإسرائيل، تبعها كثيرون في السيناريو الدموي، بينما رأى فيه آخرون الفرصة لاستعادة ما يعتبرونه أرضًا مسروقة، والانتقام بوحشية ممن يرونهم جلاديهم، واختطاف من استطاعوا احتجازهم كأسرى. في المسافة القصيرة بين غزة وجنوب إسرائيل، تحولوا بسرعة من مقهورين إلى معتدين، ومن ضحايا إلى جلادين، ومن محتَجزين إلى خاطفين.
ومع كل ما غيّرته هذه الحرب، فإنها لم تكن جديدة أو شاذة أو خارجة عن السياق، ولم تكن انحرافًا عن الديناميكيات التقليدية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل كانت ذروتها. ليست موجة من المستقبل، بل انتقام الماضي العنيف. لقد كان العنف هو الثابت الوحيد وسط تقلبات صراع دام لعقود بين شعبين يتنازعان على الأرض ذاتها، سواءً العنف الذي يُمارس أو الذي يُتحمل، على مستويات صغيرة وكبيرة. وإذا كانت الهجمات الفلسطينية لم تبلغ هذا الحد من قبل، فليس ذلك بسبب غياب المحاولة، بل بسبب عدم نجاح تلك العمليات. وإذا كانت العمليات العسكرية الإسرائيلية لم تبلغ هذه الوحشية سابقًا، فليس بسبب غياب الرغبة، بل لعدم توفر الفرصة.
لفترة من الزمن، راهن القادة الإسرائيليون والفلسطينيون على الدبلوماسية، ووثقوا بجدواها، واعتبروها بديلًا للقوة، بدافع الحسابات السياسية أو الاعتبارات التكتيكية، أو كليهما. وقد أيّد غالبية من الطرفين في أوقات مختلفة الحل التفاوضي وقبلوا بتنازلات ضرورية، لكن جميع المحاولات الدبلوماسية انتهت بالفشل، وكل فشل أعاد الصراع إلى جوهره الوجودي القاسي. وفي النهاية، ما حسم الأمور هو ميزان القوة والبطش، أولئك الذين كانت لهم الكلمة العليا كانوا يدركون ذلك تمامًا.
لقد كان يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول وما تلاه تذكيرًا صارخًا بهذا الواقع. احتضنت غزة طبقات التاريخ المتراكمة من العداء والغضب والانتقام. وإذا ما أزلنا الهدن المؤقتة والاتفاقيات التي لم تصمد، لا يبقى إلا الصراع الذي بدأ منذ زمن بعيد ويرفض أن ينتهي.
ربما كان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحلفاؤه أكثر صراحة في عزمهم على سحق غزة. ولكن مع مرور الوقت، بدأت التصدعات تظهر داخل إسرائيل، حيث بات كثير من المواطنين يطالبون بوقف إطلاق النار لإعادة الرهائن، أو تأثروا بصور المجاعة في غزة التي صدمت حتى أكثر الإسرائيليين قسوة.
لكن التهجير القسري للفلسطينيين، وحرمانهم من حقوقهم الأساسية، كان سمة دائمة للحركة الصهيونية والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. صحيح أن هناك اختلافات بينها، وبعضها مهم للإسرائيليين، لكنها لم تغيّر جوهر الحالة الفلسطينية. يحلم كثيرون في الخارج بحكومة إسرائيلية دون نتنياهو وشركائه، حكومة يقودها من يأملون أن يحلّوا مكانهم. لكن هذا الحلم لم يكن خيالًا مستقبليًا، بل واقعًا سابقًا. لكن ذلك لم يقرب الفلسطينيين من تحقيق تطلعاتهم، ولم يخفف من معاناتهم. من السهل إضفاء طابع شخصي على القضية وتحويلها إلى قصة شخص مع عدد من شركائه المكروهين، فنتنياهو هو الجاني المثالي، الذي يُعتقد أن الإطاحة به ستصلح الأمور، لكن هذه السردية تسهّل تبرئة الحكومات السابقة التي سعت أيضًا إلى تصفية القضية الفلسطينية، والقضاء على قياداتها، وتعميق الهيمنة الإسرائيلية. كما تبرّئ خصومه السياسيين الذين نادرًا ما اعترضوا على تلك السياسات، وتبرّئ أيضًا الولايات المتحدة التي غالبًا ما دعمتها طوعًا. إن هذه السردية تسهّل غضّ الطرف عن كل ذلك.
من المريح أيضا التركيز بشكل متعمد على حماس. لم يكن السابع من أكتوبر/ تشرين الأول حكرًا على حماس، ولم يحمل طابعًا إسلاميًا خالصًا، بل كان حدثًا فلسطينيًا بامتياز، لدرجة أن محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، المعروف بانتقاده للعنف وقناعته بعدم جدواه، استغرق وقتًا طويلًا قبل أن ينطق بكلمة إدانة واحدة، وحتى حين فعلها كان ذلك بدوافع سياسية أخرى. إن ما يميز حماس عن فتح، خصمها الرئيسي في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، هو عقيدتها الدينية وليس اعتمادها على العنف.
منذ البداية، كانت السمة الأبرز لفتح هي الكفاح المسلح، غالبًا دون تمييز بين مدني وعسكري. وكلاهما، فتح وحماس، نشأ من رحم جماعة الإخوان المسلمين، وهي منظمة عابرة للحدود تسعى لأسلمة المجتمعات العربية. لكن مؤسسي فتح انفصلوا عن الجماعة في خمسينيات القرن الماضي حين قرروا خوض حرب العصابات، بينما ركز قادة حماس في بداياتهم على الشؤون الداخلية، وجعلوا عودة النزعة الدينية للمجتمع الفلسطيني أولوية على المواجهة المسلحة مع إسرائيل. ومن المفارقات أن فتح هي صاحبة الإرث العسكري الأكبر، بينما تأخر انخراط حماس في ساحة الكفاح المسلح. في هذا السياق، يشبه يحيى السنوار، قائد حماس الذي خطط لعمليات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، فتح في بداياتها، أكثر من جماعة الإخوان المسلمين المعاصرة.
لم يكن السابع من أكتوبر/ تشرين الأول متوقعا، لكنه لم يكن مفاجئًا. ليس فيه ما هو جديد: العنف والرغبة في الانتقام، والتركيز على غزة، ومحاولة اختطاف الإسرائيليين، والسعي لتحرير الأسرى الفلسطينيين، ولا الأمل في إحداث تغيير إقليمي واسع، والرد الإسرائيلي الكاسح الذي يرى كثيرون في العالم أنه غير متناسب، بينما يعتبره معظم الإسرائيليين ضروريًا، والاغتيالات الممنهجة لأي فلسطيني تعتبره إسرائيل متورطًا، ووصف إسرائيل بالدولة الاستعمارية، والصهيونية بالعنصرية، والفلسطينيين بالنازيين الجدد، وتواطؤ أمريكا وارتباكها وعجزها. كما أن هذا الفصل من الصراع كان أيضًا من أكثر الجولات بدائية، حيث تخلص من قناع عملية السلام الزائف ليعود إلى شكله الأصلي.
إن هجوم حماس وحرب التدمير الإسرائيلية لم يكونا حدثين فرديين أو استثناءين في السياق التاريخي، بل كانا إعادة تمثيل للماضي. لقد أنهيا في ظرف وجيز سنوات من عملية سلام تحولت إلى مهزلة مؤلمة، واستدعيا من أعماق الذاكرة الجماعية في صفوف الطرفين أكثر المشاعر رسوخًا. لم تبتكر حماس شيئًا جديدا، بل استعادت الماضي الفلسطيني. كما أن رد إسرائيل لم يكن غريبًا أيضًا، بل نسخة مركزة ومكثفة من تقليد صهيوني طويل الأمد في التعامل مع سكان الأرض العرب. لقد رأى الفلسطينيون واليهود الإسرائيليون في أفعال الطرف الآخر تجسيدًا لكوابيسهم القومية: تطهير عرقي من جهة، وإبادة جماعية من جهة أخرى. فلا عجب أن كليهما استحضر بسهولة مشاهد من الماضي: نكبة 1948 للفلسطينيين، ومحرقة جديدة للإسرائيليين. لقد دفع سكان جنوب إسرائيل ثمن الألم والإذلال الذي عاناه الفلسطينيون على يد إسرائيل، ولم يدفع سكان غزة ثمن أفعال حماس فحسب، بل ثمن جرائم النازيين أيضًا. التاريخ لا يتقدم إلى الأمام، بل ينحرف ويتكرر بأبشع الصور.
لقد حطمت حرب غزة مفاهيم استُخدمت لسنوات طويلة لتغذية أسطورة عملية السلام، وكشفت عن خرافات أحاطت بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي: حول دور التاريخ والعنف، وطبيعة المشاعر الإسرائيلية والفلسطينية، ووعود المفاوضات الثنائية، وواقعية حل الدولتين، ودوافع السياسة الأمريكية وفعاليتها. لم تكن هذه المرة الأولى التي تُفضح فيها تلك الخرافات، كما أن فضحها لم يكن ضمانًا للتخلص منها نهائيًا. كان من المفترض أن يصبح ترويج تلك الأكاذيب أكثر صعوبة بعد عملية حماس الدموية وردّ الحكومة الإسرائيلية الكارثي، في ظل الدعم الفلسطيني الواسع للأولى، والتأييد الإسرائيلي الساحق للثانية، وفي أعقاب نشاط المستوطنين العنيف في الضفة الغربية، والذي يثير شبح التطهير العرقي والتهجير، ومع عودة الهجمات الفلسطينية بعد انقطاع دام عقدين، وعلى خلفية عجز الولايات المتحدة أو عدم رغبتها في فعل أي شيء حيال ذلك، وتخاذل أوروبا وعجزها، والمفارقة بين غضب الحكومات العربية ولامبالاتها. كان ينبغي بالتأكيد بعد كل ذلك أن يصبح من الصعب تكرار الشعارات المبتذلة حول عملية السلام، أو حل الدولتين، أو الدور المركزي للدبلوماسية الأمريكية. لقد كان من المفترض أن تنتهي كل اليقينيات التي احتمت بها العقلية الأمريكية، لكن ذلك لم يحدث. لقد بُني العالم بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول على الأكاذيب.
بعض تلك الأكاذيب كان متوقعًا، مثل حديث الإسرائيليين عن تعاملهم الإنساني مع الفلسطينيين، ووصف جيشهم بأنه “الأكثر أخلاقية في العالم”، وزعمهم أن الضغط العسكري سيؤدي إلى تحرير الرهائن، أو حين أنكرت حماس الفظائع التي وقعت في ذلك اليوم. أما الأكاذيب الأمريكية فكانت الأكثر إثارة للدهشة، لأنها كانت غير ضرورية بالمرّة.
صوّرت إدارة جو بايدن هجوم حماس بشكل منفصل عن السياق التاريخي، ووصفته بـ”الشر الخالص”، ووصفت منفذيه بـ”الحيوانات”. وقد أشادت في الآن ذاته بنتنياهو لقدرته على كبح جماح المتطرفين في حكومته، ومقاومة “الضغوط السياسية الهائلة”. كما ادّعت أن أمريكا مصممة على وقف القتل وأنها تبذل كل ما بوسعها لتحقيق ذلك، وأعلنت مرارًا عن اتفاقات وشيكة لوقف إطلاق النار، وتركت إسرائيل وحماس، والوسيطين الآخرين مصر وقطر، في حيرة من هذا التفاؤل غير المبرر. وقد ألقت إدارة بايدن باللوم كليًا على حماس في فشل مفاوضات وقف إطلاق النار وإطلاق الرهائن، حتى في الوقت الذي ألقى فيه المسؤولون الإسرائيليون باللوم على حكومتهم – بعضهم تفاخر بذلك وبعضهم عبّر عن أسفه – وحتى في الوقت الذي انتقد فيه العديد من المسؤولين الأمريكيين سراً تكتيكات الولايات المتحدة.
وفي نهاية المطاف، وفي إعادة صياغة جريئة للتاريخ، حاول بعض المسؤولين الأمريكيين تصوير سياسات ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول على أنها نجاحات مدوية. اعتُبر الفشل في تحقيق وقف إطلاق نار دائم، والفشل في تحرير الرهائن، والفشل في منع الكارثة الإنسانية، والفشل في احتواء توسع الحرب إقليميًا – وكلها أهداف أعلنتها إدارة بايدن كأولويات – في وقت لاحق خطوات ضرورية لهزيمة حماس وحزب الله، وتحييد إيران، وانهيار النظام السوري. رغم العيوب، كانت النتائج موافقة للخطط.
تتجاوز هذه الادعاءات حدود الخداع والانتهازية والقسوة واليأس والدفاع عن النفس، ولا أحد يصدقها، ومن يرددها يعلم أن لا أحد يصدقها، فهي تفتقر إلى المنطق ويصعب تحديد الغرض منها. ومع ذلك، فإن لها ثمنًا لا مفر منه. الجدية التي تُقال بها لا تمنحها مصداقية، بل تجعلها أكثر تدميرًا. إنها تولّد السخرية. إنها نوع من الأكاذيب التي تقوّض أي دعم لأي مسعى يُطلق باسمها.
كلما تكررت الكذبة، تعمّق بطلان الرسالة التي يُراد إيصالها، وأثرها الوحيد الدائم هو تعزيز عدم التصديق. يحدث ذلك حين تُعفى إسرائيل من المساءلة الشاملة التي تطالب بها الولايات المتحدة، بزعم أنها قادرة على محاسبة نفسها. ويحدث ذلك حين تسلّح أمريكا اليد الإسرائيلية التي تضرب الضحية، ثم تتوسل إليها أن تتوقف. هناك مثل عربي المأثور يلخص كل ذلك: “يقتل القتيل ثم يمشي في جنازته”. ترسل أمريكا الأسلحة التي تقتل النساء والأطفال والمسنين، وتدمّر المنازل والمدارس والمستشفيات، ثم تقدم مساعدات إنسانية ضئيلة لإبقاء الفلسطينيين الذين نجوا من الهجوم الأمريكي على قيد الحياة، ليبقوا في انتظار الهجوم التالي.
يحدث ذلك عندما تتحمل أمريكا العبء الثقيل للدفاع عن الضمير الأخلاقي العالمي، ثم تقف عاجزة أمام مآسيه. ذلك الجو المشحون بالغضب والحزن والحداد الذي رافق كل التصريحات الأمريكية بشأن مصير غزة لم يخدع أحدا، فما يهم هي الأفعال، وليس الكلمات التي زادت الأمور سوءًا بتناقضها. شبّه الفلسطينيون ذلك بتقليد المافيا القديم في العناية بمن تنوي تصفيته، وبالمصارعين في روما الذين كانوا يحيّون القيصر قبل أن يُذبحوا: “تحية لك أيها الإمبراطور، أولئك الذين على وشك الموت يحيّونك”.
من أكثر الأكاذيب التي انتشرت خلال الحرب غرابة حديث إدارة بايدن عن حل الدولتين، لكن هذا الداء لا يقتصر على أمريكا فحسب. في الأسابيع الأخيرة، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قرار بلاده الاعتراف بدولة فلسطينية، في خطوة نحو حل الدولتين الذي وصفه بأنه “الطريق الوحيد” للسلام. سرعان ما تبعته بريطانيا وكندا وأستراليا وغيرها من الدول. هنا تنتقل القصة من الشعبوية والخداع إلى العبث. حل الدولتين ميت، وقد كان ميتًا قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وزادت استحالة تحقيقه بعده، ولن يُبعث من جديد عبر التكرار الجماعي لهذه التعويذات والشعارات. فكرة التقسيم موجودة منذ أكثر من ثمانين عامًا، وبالنظر إلى طول عمرها، وكمية الإبداع التي أُنفقت عليها، وتعدد الشخصيات التي تبنّتها، يصعب لوم من سعى لتحقيقها، ولكن بغض النظر عن الشكل والمضمون والأسلوب، لم تتغير النتيجة. قوبلت الخطط بالتساؤلات والتحفظات والرفض والحيرة والعنف، ومؤخرًا بالملل.
فشلت جهود تحقيق حل الدولتين في ظروف أفضل بكثير من الآن. فشلت حين كان الفلسطينيون متحدين، وكان الرأي العام الإسرائيلي قادرًا على تقبّل الأمر، وحين كانت المستوطنات أصغر بكثير مما هي عليه اليوم. كان بإمكان الشعبين تخيّل شكل من أشكال التعايش السلمي. وفي ذروة القوة الأمريكية بعد الحرب الباردة، ومع وجود فائض من النفوذ، كانت قضية السلام الفلسطيني الإسرائيلي أولوية لدى عدد من الرؤساء الأمريكيين، لكنهم عجزوا عن تقريب حل الدولتين.
وحين تعثرت الجهود في عهد إدارة باراك أوباما – التي ضمّت مسؤولين أكثر تفهمًا للقضية الفلسطينية من أي وقت مضى – بدا أن الرئيس عباس فقد الأمل. وفي انتقاد لاذع، قال عباس لأحد زملائنا، إنه حتى لو أصبحت الإدارة الأمريكية يومًا ما مؤيدة تمامًا للفلسطينيين، وقاد الحكومة الإسرائيلية حزب ميرتس، أكثر الأحزاب الصهيونية يسارية، فلن تقوم دولة فلسطينية.
ومع ذلك، لا يزال حل الدولتين يحظى بدعم دولي مستمر، ولم يستطع شيء أن يزعزعه، لا السنوات الطويلة من المحاولات الفاشلة، ولا الموقف الإسرائيلي الذي يزداد تعنتا، ولا اللامبالاة الفلسطينية المتنامية، ولا التطورات الميدانية التي تسير في اتجاهات متعاكسة وتبعد فكرة التقسيم أكثر فأكثر.
يتمسك أنصار حل الدولتين بأسباب تدفعهم للاستمرار في الإيمان بإمكانية تحقيقه. قد ينظرون اليوم إلى ظروف محلية وإقليمية متغيرة جذريًا – إسرائيل المنتصرة والواثقة من نفسها، والدول العربية التي أُجبرت على إعادة تقييم مواقفها، ورئيس أمريكي غير تقليدي يمكنه أن ينقلب على الحلفاء ويتقارب مع الخصوم، وقيادة فلسطينية منهكة ومعزولة – ويتشبثون بالأمل في أن هذه الظروف مجتمعة قد تمنح حل الدولتين حياة جديدة، وفق شروط لم يكن الفلسطينيون ليقبلوها سابقًا، ولا يرى الإسرائيليون حاليًا سببًا لقبولها.
يتشبثون بهذا الأمل حتى وإن كانوا عاجزين عن تحديد مسار واقعي لتحقيقه. عندما سُئل مارتن إنديك، الدبلوماسي الأمريكي الراحل والمفاوض المخضرم في مجال السلام والمؤيد القوي لضرورة تحقيق حل الدولتين، عن خارطة الطريق في هذا المسار، قال لأحد الزملاء قبل وفاته ببضعة أسابيع: “ليس لدي خارطة طريق، لكن يجب أن نثابر”.
يتمسك المؤمنون بحل الدولتين، رغم كل الأسباب التي تدفعهم للتخلي عن هذه القناعة، بحجة واحدة: لا يوجد بديل واقعي. يُنظر إلى التقسيم على أنه حتمي، رغم صعوبة تصوره بشكل متزايد، لأنهم ببساطة غير قادرين على تخيل خيار آخر. في يوليو/ تموز 2024، سُئل وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، أنتوني بلينكن، عمّا إذا كان حل الدولتين قد مات، فأجاب: “لا نقول فقط أنه لم يمت، بل لا يمكن أن يموت”. هو النتيجة الوحيدة الممكنة والدائمة، لأنه لا يوجد بديل آخر.
هل حقا لا يوجد بديل؟ هناك مجموعة من البدائل، يُستبعد كل منها باعتباره غير مقبول أو غير عملي. جميعها ذات جذور تاريخية، وقد طُرحت للنقاش في وقت ما، قبل أن تُهمّش خلال سنوات أوسلو، حين هيمن حل الدولتين – رغم هشاشة جذوره – وأصبح اللغة السائدة، بينما اعتُبر كل ما عداه خروجا عن المألوف. المحصلة الأكثر ترجيحًا هي استمرار الوضع القائم، الذي تسيطر فيه إسرائيل على كامل الأرض الممتدة بين النهر والبحر، وتفرض سلطتها على الفلسطينيين الخاضعين لهيمنتها بأشكال متفاوتة.
أكد مسؤول أمريكي تلو الآخر أن هذا الوضع غير قابل للاستمرار، رغم صموده لعقود. في عام 2013، حذّر الوزير جون كيري من أن حل الدولتين سيصبح “منتهيًا” خلال عام ونصف، ما أثار سخرية المسؤولين الإسرائيليين، فالوضع القائم غير المستدام منذ نصف قرن كان وضعًا يمكنهم التعايش معه. تحولت السخرية لاحقًا إلى تذمر: إذا كانت الفرصة قد انتهت في 2014، فلماذا لا تعلن الولايات المتحدة أخيرًا نهاية هذا المسار؟
استمر شكل من أشكال الوضع القائم لعقود، رغم الاعتراضات المتكررة والحديث المتكرر عن نهايته، متجاوزًا بكثير فترة الـ19 عاما التي لم تكن فيها إسرائيل تسيطر على الضفة الغربية أو غزة. أولئك الذين يؤكدون أن الوضع الحالي لا يمكن أن يستمر، يرونه نظام فصل عنصري، ويقولون إن العالم لن يقبل بدولة يتمتع فيها طرف بكل الامتيازات بينما يُحرم الطرف الآخر من حق المواطنة وحق التصويت.
ومع ذلك، فقد تقبّل العالم هذا الواقع حتى الآن، مبررًا تساهله من خلال وصف واقع عمره 50 عامًا بأنه مؤقت، وباعتبار حل الدولتين أمرًا لا مفر منه. من الصعب تصور إمكانية تغير هذا الموقف، أو أن يؤدي مرور الوقت إلى تقوية المعارضة بدلًا من تخفيف حدّتها. قد ينهض الفلسطينيون، لكن إسرائيل تملك خبرة طويلة في التعامل مع تهديدات العنف الفلسطيني. قد لا يمنع تفوقها العسكري الكبير وذكريات ما بعد الانتفاضة الثانية وأحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول وقوع أعمال عنف دامية، لكنها على الأرجح ستردع أي انتفاضة فلسطينية جدية واسعة النطاق. يخدم الوضع القائم من يستطيع إخضاع أولئك الذين لا يناسبهم هذا الواقع، أو قتلهم.
بإمكان إسرائيل أن تعيد تشكيل الواقع، من خلال ضم أراض جديدة والانسحاب من أخرى، ومنح الفلسطينيين مساحة أكبر للحكم الذاتي، وفرصًا اقتصادية أفضل، دون أن يؤثر ذلك على سيطرتها كدولة يهودية. ومع قدر أكبر من اللامركزية، سيُتاح للفلسطينيين فرصة إدارة شؤون حياتهم اليومية، إذ يمكنهم الاستمرار في التصويت في الانتخابات البلدية والمشاركة في القضايا التي تؤثر عليهم مباشرة.
ويتساءل مؤيدو هذا الطرح: لماذا يُنظر إلى هذا النموذج على أنه أقل ديمقراطية أو أقرب إلى نظام الفصل العنصري من الدولة الفلسطينية الشكلية المقترحة ضمن حل الدولتين، والتي تفتقر إلى جيش، وتفتقر إلى السيطرة الفعلية على الحدود أو المجال الجوي، ولا تملك سياسة خارجية مستقلة، ومن المنتظر أن تبقى عرضة للتوغلات العسكرية الإسرائيلية، وهو أقصى ما يتصوره أي مسؤول إسرائيلي، من اليمين أو اليسار.
ويطرح هؤلاء تساؤلات حول الفرق الحقيقي، إن وُجد، بين “السيادة المنقوصة” و”الاستقلال المعزّز”، وبين تصويت الفلسطينيين في دولة وطنية منقوصة السيادة وبين تصويتهم في بلديات ذات صلاحيات كاملة، وهل هذا الفرق جوهري أم جزئي؟ ولماذا يستحق أحد النموذجين إشادة دولية، بينما يُقابل الآخر بإدانة عالمية؟
قد تمضي إسرائيل إلى ما هو أبعد من ذلك، فتُقدم على ترحيل قسري أو تطهير عرقي للفلسطينيين من غزة أو الضفة الغربية. هذا السيناريو كان يبدو صعب التنفيذ في السابق، لكنه بات اليوم ممكنًا بشكل مثير للقلق. إن فكرة تهجير الفلسطينيين ليست جديدة، فقد طرحتها منذ عام 1937 لجنة بيل لدعم إنشاء دولتين، واحدة عربية وأخرى يهودية، ونُفذت بدرجات متفاوتة خلال حرب 1948 وما بعدها، في إطار السعي لتحقيق هدف “أكبر مساحة بأقل عدد من العرب”.
وقد تخيّلها أكثر من مسؤول إسرائيلي كحل للمشكلة المستعصية، مشكلة غزة. يرى كثيرون هذا الاحتمال مروعًا، وأنه لا يمكن تصوره. لكن هذا الصراع له قدرة فريدة على التطبيع مع سيناريوهات كانت في السابق صعبة التصديق، وتحويل الممارسات الفظيعة إلى سلوك مقبول. تطهير عرقي يُقدَّم على أنه مغادرة طوعية، وقتل المدنيين يُصوَّر كمقاومة مسلحة، وإزهاق أرواح الأبرياء يُروج له باعتباره دفاعًا عن النفس. الزمن كفيل بالتطبيع مع كل شيء، والأخلاقيات لا تشكّل عائقًا أمام المفردات المبتكرة.
سقطت بدائل أخرى كانت مطروحة سابقًا، مثل فكرة كونفدرالية فلسطينية مع الأردن، تضم المملكة الهاشمية والضفة الغربية، وهي صيغة قد تخشاها إسرائيل أقل من دولة فلسطينية مستقلة، نظرًا لأنها تعتبر الوجود الأمني الأردني في الضفة أكثر موثوقية من الوجود الفلسطيني.
هذه الفكرة تعود أيضا إلى الماضي. في عام 1950، ضمّت الأردن المنطقة الواقعة غرب نهر الأردن، والتي كانت تحت السيطرة العربية، ولم يقم ملكها بقطع الروابط القانونية والإدارية مع الضفة الغربية إلا بعد عقود، حين اعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني. وبعد قبول منظمة التحرير حل الدولتين في أواخر الثمانينيات، قال أبو إياد، أحد كبار مسؤولي المنظمة آنذاك، إن الفلسطينيين سوف يحظون بـ”خمس دقائق من الاستقلال” قبل الانخراط في محادثات مع الأردن حول شكل من أشكال الاتحاد الفدرالي أو الكونفدرالي.
قبل تأسيس إسرائيل، وقبل أن يصبح التقسيم هو الخطاب السائد، كان بعض العرب واليهود يفكرون في قيام دولة واحدة ثنائية القومية، تُمنح فيها حقوق متساوية للجميع بغض النظر عن الدين أو العرق. وذهب آخرون إلى اقتراح دولة غير طائفية، تُدار بدرجات متفاوتة من الحكم الذاتي المجتمعي، حيث يتمتع الشعبان بحرية تنظيم شؤونهم الداخلية: إسرائيل/ فلسطين كاتحاد فدرالي لا مركزي، له هيكل أمني موحد، بينما يتولى كل شعب إدارة شؤونه الثقافية والتعليمية واللغوية بشكل مستقل. زئيف جابوتنسكي نفسه، الذي تمثل أفكاره المرجعية الأساسية للتيار اليميني الإسرائيلي، فكّر في مثل هذه المقترحات قبل أن يستقر على فكرة الهيمنة اليهودية. ومرة أخرى، يتردد صدى الماضي: قبل قيام إسرائيل بزمن غير بعيد، وتحديدًا في عهد الحكم العثماني، كانت المنطقة التي أصبحت لاحقًا فلسطين – تحت الانتداب البريطاني – تُحكم بمجموعة من القوانين التي منحت درجات متفاوتة من الحقوق للمسلمين واليهود والمسيحيين.
كل من هذه البدائل تثير إشكالات أخلاقية وسياسية وعملية كبيرة، ولا يلبّي أي منها المطالب الجوهرية للطرفين الإسرائيلي والفلسطيني. بعض الخيارات الأقل قبولًا من الناحية الأخلاقية، مثل استمرار الوضع الراهن، تبدو أقرب للتحقق على أرض الواقع، بينما الخيارات الأكثر توافقًا مع المبادئ الأخلاقية، كالدولة ثنائية القومية، تبدو أقل واقعية. ومع ذلك، فهي مجرد بدائل، ويستند مؤيدو حل الدولتين إلى غيابها المزعوم لتبرير موقفهم.
ما يميز حل الدولتين ليس إمكانية تحقيقه أو وجود مسار عملي لإنجاحه، بل سجله الطويل من الإخفاقات التي انتهت بالموت والخراب واليأس. إذا كان أقوى مبرر لحل الدولتين هو أنه لا يوجد خيار آخر قابل للتطبيق، فإنه يُعدّ بالكاد خيارًا واقعيا. لا يمكن أن يتفوق حل الدولتين على البدائل الأخرى إذا لم يكن قابلًا للتحقق من الأساس.
تحوّل حل الدولتين إلى خدعة خطيرة، فهو هدف يُروَّج له منذ سنوات لأسباب لا علاقة لها بإمكانية تطبيقه. في السابق، ساعد ادعاء الولايات المتحدة بأنها تسعى إلى حل الدولتين في بناء تحالف إقليمي ضد الجهاديين وإيران، أو في مواجهة تصاعد نفوذ الفصائل الفلسطينية الأكثر تشددًا.
وفي عهد بايدن، أصبح الهدف هو الدفع نحو تطبيع سعودي إسرائيلي. أما اليوم، فالغرض هو تهدئة الرأي العام الداخلي المنتفض، وصرف الأنظار عن جبن الغرب الأخلاقي وعدم اتخاذ خطوات ملموسة لوقف ممارسات الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة.
استمع مثلا إلى ماكرون، حين يُشير إلى تلاشي احتمالات تطبيق حل الدولتين كمبرر سخيف لإعلان الاعتراف بدولة فلسطينية غير موجودة؛ أو إلى رئيس وزراء كندا، مارك كارني، الذي يرى أن فشل التوصل إلى حل الدولتين عبر المفاوضات دفع بلاده إلى التفكير في الاعتراف المشروط بدولة فلسطين – إذا التزمت السلطة الفلسطينية بالإصلاح – وكأن حق الدولة في الوجود مرتبط بطبيعة حكومتها، أو كأن هذه الدولة يمكن أن تُقام دون موافقة إسرائيل؛ أو إلى رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، الذي هدد بالاعتراف بفلسطين إذا لم تغيّر إسرائيل مسارها، دون أن يُخفي أن هذا التهديد ليس سوى ورقة مساومة سياسية. كل هذا الكلام يفتقر إلى الجدية.
ما أشبه اليوم بالبارحة: لا يزال الماضي يقول كلمته، ويكشف زيف حل الدولتين. لقد عاد الماضي مع أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول والحروب التي تبعتها، لكنها مثّلت الشرارة فحسب. لقد عاد الماضي وعادت مفرداته: النكبة والإبادة الجماعية، والهولوكوست، والمذابح، والاحتلال الاستيطاني، وتشبيه الفلسطينيين بالنازيين. وُصفت الكيبوتسات التي هوجمت في ذلك اليوم على أنها غيتو وارسو، واعتُبرت معاداة إسرائيل الشكل المعاصر من معاداة السامية، والصهيونية عنصرية.
عاد الماضي في شكل عقليات قديمة، إلى زمن لم يستطع فيه الإسرائيليون والفلسطينيون رؤية مستقبل مشترك، حين كانت الأرض تُعتبر أصغر من أن تتسع لشعبين. في إسرائيل، تنتشر فكرة السيطرة على كامل الأراضي وتطهيرها عرقيا من الفلسطينيين، وفكرة أن يصبح الأردن وطنا بديلا للفلسطينيين. وبين بعض الفلسطينيين، ينتشر شعور بالرغبة في إنهاء الوجود الإسرائيلي، وإيمان عابر بإمكانية تحقيق هذا الهدف، واستسلام كئيب للوضع القائم، أو لما هو أسوأ.
لقد كانت المؤشرات واضحة منذ فترة، وبدا جليا أن التاريخ على وشك أن يعيد نفسه. كما في الماضي، يحلم كل طرف بالتخلص من الآخر. أن يكون لدى طرف واحد فقط الوسائل لتحقيق هذا الحلم لا يغيّر الحلم، بل يغيّر الواقع.
ما أشبه اليوم بالبارحة: كارثة جديدة حلّت بالفلسطينيين، وانضموا إلى أسلافهم في السير على الطريق ذاته. لقد مرّوا بهذا من قبل. إنها نكبة ثانية، انتكاسة تتجسّد في صور حشود الغزيين الفارين من منازلهم المدمّرة، مرة، واثنتين، وثلاثًا، وفي صور الإسرائيليين الذين يضعون أعلامهم فوق الأنقاض.
يقف الفلسطينيون اليوم وحدهم، كما وقفوا عام 1948. خذلهم الأشقاء العرب من جديد، وتخلّى عنهم قادتهم الذين لا يملكون سوى الغضب والخطابات الجوفاء، وقادة حماس الذين امتلكوا خطة لاستفزاز إسرائيل، لكن لم يكن لديهم خطة للتعامل مع تبعات هذا الاستفزاز، ولا وسيلة لحماية شعبهم.
بعد كارثة عام 1948، اضطرت الساحة السياسية الفلسطينية إلى أن تعيد بناء نفسها من الصفر، بشكل متقطع، تتخلله أعمال عنف فردية أو هجمات جماعية دراماتيكية، وُلدت من اليأس والرغبة في الانتقام. واليوم، يقف الفلسطينيون أمام مسيرة سياسية طويلة من جديد. وعند نهايتها، قد تبقى فتح وحماس على الساحة، لكن بشكل مختلف تماما عن السابق.
ما أشبه اليوم بالبارحة: تمرّ إسرائيل بلحظة من الدمار، لكنها تخرج منها منتصرة. الخطر يؤكد مخاوفها الوجودية ويعزّز الصورة التي تحملها عن الفلسطينيين، والانتصار العسكري يرسّخ إيمانها بقدرة السلاح على حسم المعارك. أما ردّ فعل العالم، فيؤكد لها أنه رغم حاجتها إلى دعم الآخرين، فإنها لا تستطيع الاعتماد إلا على نفسها.
وكما فعلت مرارًا في الماضي، تعود إسرائيل للبحث عن طرق بديلة لإدارة الأراضي الفلسطينية. لقد جرّبت الحكم العسكري المباشر بعد حرب 1967، وناورت باختيار شخصيات فلسطينية في الضفة الغربية لتنفيذ أجندتها ضمن “روابط القرى” في أواخر السبعينيات، وخاضت مغامرة السلطة الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو. أما قبولها بحكم حماس في غزة، فكان محاولة أخرى لتحقيق الهدف، والرغبة في ترحيل الفلسطينيين قسرًا عن أراضيهم كانت أمنية لم تفارقها بتاتا.
بُنيت عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أملٍ زائف، وحين انهارت، جرفت معها ذلك الأمل، وعاد الماضي المكبوت إلى الظهور من جديد. لكن ذلك لا ينبغي أن يكون مبررا لليأس. انهيار بهذا الحجم، وما خلّفه من دمار مادي وبشري وسياسي شامل، يمكن أن يكشف حقائق غير مريحة، وينسف الأكاذيب، ويُعيد الاعتبار لأفكار طالما اعتُبرت محرّمة أو خارجة عن المألوف.
قد يساعد الوضع الراهن في التخلص من الأوهام التي مهّدت الطريق نحو الكارثة، ويدفع إلى إعادة التفكير جذريًا في طبيعة هذا الصراع. ثمة عمل عاجل لا بد من إنجازه لوقف المجازر في غزة، عبر فرض تكلفة ملموسة على من يواصلون ارتكابها. لكن هناك أيضًا حاجة إلى استعادة أفكار قديمة قمعتها سطوة حل الدولتين، والنظر في مقاربات تمس جوهر الصراع، الذي لن يُحلّ عبر رسم خطوط على الخرائط، بل من خلال مسار طويل وشاق، ومواجهة التاريخ القاسي، والمخاوف المتجذّرة، والتطلعات التي لم تتحقق. قد لا تكون النتيجة تحقيق “السلام” – ذلك الحلم الزائف الذي لم يخلّف سوى الألم – لكنها قد تكون ترتيبات واقعية تتيح للشعبين أن يعيشا ويتعايشا جنبًا إلى جنب.
تنضج الظروف اليوم لطرح أفكار غير تقليدية. فكرة التقسيم الصارم وإقامة دولتين على أساس عرقي ديني لم تكن أبدا قدرًا محتومًا، بل نتيجة للطريقة التي اختارت بها القوى الدولية فهم العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وافتراضات أوروبية المنشأ في معظمها، غريبة عن واقع الحقبة العثمانية، أدت في النهاية إلى صياغة هذا التصور.
يشير كثيرون ممن لا يزالون يدافعون عن حل الدولتين بشكله التقليدي إلى عدم واقعية فكرة دولة واحدة ديمقراطية وعلمانية. هم محقّون في ذلك إلى حدّ ما. مهما بدا هذا النموذج جذابًا من الناحية الأخلاقية، فإن إلغاء الكيانات السياسية القائمة على الانتماء الديني أو العرقي واستبدالها بمواطنة تقوم على المساواة في الحقوق، لن يُلبي على الأرجح حاجة أساسية لدى اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين: الشعور بالأمان والقدرة على العيش وفقًا لما يرونه مناسبًا داخل مجتمعاتهم.
لكن اختزال الحلول الممكنة في خيارين فقط – دولة واحدة أو دولتان منفصلتان – هو تبسيط مخلّ، يضيّق هامش النقاش بلا مبرر. هناك طيف واسع من الحلول الوسط، يتدرج بين مستويات مختلفة من السيادة ودرجات متفاوتة من الحكم الذاتي الديني أو العرقي. الدولة قد تُسمّى دولة، لكنها قد لا تكون كذلك بالضرورة في بنيتها أو وظائفها.
اليوم، كل شيء مطروح على الطاولة. ما كان يُعد ضربا من الخيال أصبح مألوفًا. النجاح عابر، والقوة تستدعي قوة مضادة، والنصر لم يعد ملاذًا آمنًا. لم يؤد التدمير العسكري الإسرائيلي في غزة إلى انتصار كامل، ولم تصنع المقاومة الفلسطينية خلاصًا. إن حجم ما جرى في فترة وجيزة يفوق التصوّر.
حين يحدث التغيير بوتيرة محمومة وعلى مسارات متباينة، فإن ذلك يكشف هشاشة وزيف ما سبقه. لقد انتهت مسار أوسلو للسلام، كما انتهى حل الدولتين، وفقد المشاركون في تلك الجهود مصداقيتهم. أصبحت الولايات المتحدة منهكة، وتُرك الإسرائيليون والفلسطينيون بلا خارطة طريق أو بوصلة، سوى رواسب من الماضي. يستعدّ الجميع لمسار طويل، ويعودون إلى أساليب أكثر ألفة وتجذرا، وكل ما عاشوه في العقود الأخيرة لم يكن إلا منعطفًا أعادهم إلى نقطة الصفر.
سيكون المستقبل مليئًا بالمفاجآت. ربما يستيقظ الإسرائيليون ليكتشفوا أن انتصاراتهم العسكرية كانت عبثية وبلا جدوى. وقد يجد الفلسطينيون طريقًا إلى الوحدة، ويبلورون خطابًا سياسيًا جديدًا يتّسع لوجود اليهود ضمن رؤيتهم المستقبلية. وربما يكتشف الطرفان أساليب غير مألوفة للحوار، ويبتكران نماذج جديدة للتعايش. قد تلجأ الدول العربية إلى استخدام ورقة التطبيع لتحقيق مصالحة مع إسرائيل، وتقديم العون للفلسطينيين. وربما تبدأ الولايات المتحدة برؤية نفسها كما يراها الآخرون – متغطرسة ومتناقضة وعديمة التأثير – فتسأم من شعاراتها الجوفاء وأكاذيبها، وتفكر في التغيير. وقد تجد قيادة أمريكية جديدة نفسها أمام لحظة مساءلة أخلاقية حقيقية.
قد يتضح أن هذا الصراع ليس في جوهره صراعًا على الأرض. ليست الطرق أو الكثبان أو التلال هي محور القضية، بل الناس أنفسهم، حياتهم ومشاعرهم وغضبهم وحزنهم وعلاقاتهم وتاريخهم. السير في هذا الاتجاه قد لا يفضي إلى حل شامل ونهائي، لكنه قد يشعرنا ببعض الراحة، ولو مؤقتًا.
المصدر: نيويوركر