ترجمة وتحرير:نون بوست
بعد أكثر من تسعة أشهر على صدور تقارير من منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش خلصت إلى أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية، وأكثر من شهر منذ أن أكد مجموعات حقوق الإنسان الإسرائيلية الرئيسية الأمر نفسه، لا يزال النظام السياسي الأمريكي في حالة إنكار صارم، فيما تستمر الفظائع بلا توقف في غزّة. وما يزال معظم الجمهوريين ومعظم الديمقراطيين في الكونغرس يدعمون شحنات الأسلحة الأمريكية الضخمة لإسرائيل، ما يجعل الاعتراف بدور هذه الأسلحة في تمكين الإبادة الجماعية أمرًا مستبعدًا.
تشكل المزاعم القائلة بأن إسرائيل هي دولة “الشعب اليهودي” محور تبريرات التسليح.
وعندما تحدث وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، عبر الفيديو في مؤتمر في القدس قبل ثلاثة أشهر، أعلن: “لا يمكن الفصل بين كراهية إسرائيل وكراهية الشعب اليهودي بطريقة دقيقة”. وأضاف: “أولئك الذين يدعون لتدمير إسرائيل يدعون لتدمير الشعب اليهودي”. وفي الشهر الماضي، عزز رئيس مجلس النواب، مايك جونسون، الرسالة نفسها خلال زيارته لإسرائيل، حيث وصف الضفة الغربية بأنها “ملكية شرعية للشعب اليهودي”.
مثل هذا الخطاب، الذي يساوي بين إسرائيل وجميع اليهود وبين مستقبل إسرائيل ومستقبلهم، يعد محاولة لتقديس إسرائيل وحمايتها من النقد عبر رفع تهمة معاداة السامية.
دمج إسرائيل بـ“الشعب اليهودي” هو تقنية دعائية رئيسية، وحقيقة انتشارها الواسع لا تقلل من سخافتها أو خطورتها. ويصلح تعليق منسوب لفولتير هنا: “طالما يصدق الناس السخافات، سيستمرون في ارتكاب الفظائع”.
والفظائع مستمرة بلا نهاية في الأفق؛ فقد واصلت إسرائيل القتل المنهجي، والواضح التعمّد، للمدنيين الفلسطينيين، ليس بالقنابل والصواريخ والرصاص فحسب، بل باستخدام الجوع كسلاح حرب. وكان الحصار أو التضييق الشديد على المساعدات الإنسانية هو القاعدة. طوال الصيف، تجاهلت إسرائيل تحذير الأمم المتحدة الصادر في يونيو/ حزيران، والذي أشار إلى أن مستوى الغذاء في غزّة انخفض إلى ما دون مستوى “البقاء على قيد الحياة” بكثير. وبحلول ذلك الوقت؛ وصف رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر الأوضاع هناك بأنها أصبحت أسوأ من “الجحيم على الأرض”.
ومن المفارقات أن الدولة التي يُقال إنها الهدف النهائي لمعاداة السامية أصبحت الآن، في الواقع، السبب الأقوى عالميًا لمعاداة السامية. وبإصرارها على أنها تجسيد لليهود في جميع أنحاء العالم، تسعى دولة إسرائيل لربط اليهود في كل مكان بجرائم الحرب المنهجية والإبادة الجماعية في غزّة، إلى جانب التطهير العرقي القاتل للفلسطينيين في الضفة الغربية.
إن الحكومة الإسرائيلية، التي يحترمها عدد متناقص من الأمريكيين، تساوي نفسها باليهودية و“الشعب اليهودي” في نمط تسويقي مألوف لدرجة أنه يندمج في خلفية غرف صدى الإعلام. وجوهر الرسائل المؤيدة لإسرائيل هو الترويج لمجموعة من المعادلات الخاطئة: إسرائيل = اليهود، ودعم إسرائيل = دعم اليهود، وإدانة إسرائيل = معاداة السامية، والنص الفرعي العملي لهذه المعادلات هو: الحكومة الإسرائيلية = الإفلات من العقاب.
خلال ثمانينيات القرن الماضي، عندما استهدف نشطاء في الولايات المتحدة ودول أخرى الفصل العنصري الجنوب أفريقي بحملات غير عنيفة للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، لم تُتهم تلك التحركات بأنها معادية للبيض. أما في هذا القرن، فقد استهدفت حركة مقاطعة إسرائيل (بي دي إس-BDS)، الدولة التي أدانتها منظمات حقوق الإنسان واحدة بعد الأخرى باعتبارها دولة فصل عنصري، ومع ذلك يواجه داعمو حركة مقاطعة إسرائيل، حتى لو كانوا يهودًا، اتهامات روتينية بمعاداة السامية، بما في ذلك من العديد من الديمقراطيين الليبراليين في الكونغرس. وتعد اللجنة اليهودية الأمريكية واحدة من العديد من المجموعات الكبيرة التي أكدت منذ زمن طويل أن “بي دي إس معادٍ للسامية”.
منذ ستة عقود، عندما كنت طفلًا أذهب إلى المدرسة العبرية، لم أكن لأتصور أن الدين اليهودي والتقدير لإسرائيل سيُستغل بهذه الصورة. عندما كنت أطلب من الجيران وضع النقود في علبة زرقاء وبيضاء لزرع المزيد من الأشجار في إسرائيل، لم أكن أعلم أن الحكومة الإسرائيلية ستواصل بلا هوادة قتل وجرح وإرهاب المدنيين الفلسطينيين باسم حماية اليهود، ولم يكن لدي أدنى فكرة أن كرامة الروحانية اليهودية ستُحرف وتُدنس عبر سياسات الإبادة الجماعية.
وأحد القوانين الأساسية لإسرائيل، الذي أُقرّ في 2018، ينص على أن: “دولة إسرائيل هي الوطن القومي للشعب اليهودي”، مضيفًا: “الحق في ممارسة تقرير المصير القومي في دولة إسرائيل يقتصر على الشعب اليهودي فقط”. وهذا القانون يمثل تكريسًا للادعاءات المعتادة من الحكومة الإسرائيلية ومؤيديها المتحمسين، الذين يسعون لاختطاف اليهودية، مدعين أنهم يتحدثون باسم جميع يهود العالم، سواء أوافقوا على ذلك أم لا.
ومع مرور الوقت، يرفض كثير من اليهود هذا الادعاء. فقد أظهرت الاستطلاعات معارضة واسعة للسياسات الجوهرية لإسرائيل بين الجالية اليهودية في الولايات المتحدة.
وغالبًا ما يضخم المسؤولون الأمريكيون هذه الصورة العبثية التي تصور إسرائيل ضامنًا لأمان اليهود في العالم؛ ففي حفل هانوكا بالبيت الأبيض في ديسمبر/ كانون الأول 2023، قال الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن: “لو لم تكن هناك إسرائيل، لما كان هناك أي يهودي في العالم في أمان”، وقد قابل هذا التصريح الاستثنائي تصفيق وهتاف حاد. ولم يكن هذا حدثًا عابرًا؛ فقد صرح بايدن قبل ثلاثة أشهر قائلًا: “لو لم تكن هناك إسرائيل، لما كان أي يهودي في العالم آمنًا في النهاية. إنها الضمانة المطلقة الوحيدة”.
ويكتب السيناتور زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ الأمريكي، تشاك شومر، في كتابه الجديد “معاداة السامية في أمريكا”: “هناك شعور خاص وفخر شبه لا يوصف ينبع من معرفة أنه رغم كل الفظائع، وبعد ألفي عام من التجوال في الصحراء، سيعود الشعب اليهودي أخيرًا إلى وطنه”، وهذا نموذج كلاسيكي للادعاء بالتحدث باسم “الشعب اليهودي” والإصرار على أن إسرائيل هي وطنهم الحقيقي، بغض النظر عن مكان إقامتهم على الكرة الأرضية.
وأكبر المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة تمجد الحكومة الإسرائيلية تلقائيًا، بغض النظر عن أفعالها، كما كتب بيتر باينارت هذا العام: “القادة اليهود الأمريكيون لا يطالبون فقط بحق إسرائيل في الوجود، بل يصرون على حقها في الوجود كدولة يهودية. وهم متمسكون بالفكرة التي تقول إنه يمكن أن تكون يهودية وديمقراطية في الوقت ذاته، رغم التناقض الأساسي بين التفوق القانوني لمجموعة إثنية-دينية ومبدأ الديمقراطية القائم على المساواة أمام القانون”.
الأمر الأكثر خبثًا هو الافتراض الضمني القائل بأنه، بعد كل ما قيل وفُعل؛ حياة اليهود أكثر قيمة بطبيعتها من حياة الآخرين عمومًا، والفلسطينيين خصوصًا، في حين أن مصير إسرائيل متسامي وفائق الأهمية. وهذا الفكر هو ما ينتقده باينارت في كتابه الجديد “أن تكون يهوديًا بعد تدمير غزة”: “مهما مات عدد من الفلسطينيين، فإنهم لا يغيرون المعادلة، لأن قيمة الفلسطيني محدودة، وقيمة الدولة اليهودية لا نهائية… عبادة دولة ترفع اليهود فوق الفلسطينيين تحل محل إله اليهودية الكوني، الذي يفرض مطالب خاصة على اليهود لكنه يقدّر جميع البشر، بإله قبلي يعتبر حياة اليهود ثمينة وحياة الفلسطينيين رخيصة”.
إن مثل هذا التقديس لإسرائيل يغذي الفكرة الخبيثة بأن “الشعب اليهودي” مرادف لإسرائيل، وأي ادعاء من هذا النوع لا يمكن إلا أن يكون مدمرًا، خصوصًا في ظل انخراط إسرائيل بلا خجل في التطهير العرقي والقتل الجماعي والإبادة الجماعية.
المصدر: الغارديان