في خطابه ظهر السابع من أكتوبر 2023، تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى جمهوره قائلاً: “سننتصر مهما كان الثمن باهظًا.. الحكومة بأكملها تدعم هذا القرار”، مطلقًا العنان أمام حكومته لإعادة هيكلة المالية والاقتصاد وفق حرب تهدف إلى تحويل “المدينة الشريرة غزة”، وفق وصف نتنياهو، إلى أنقاض.
لم يطل الأمر طويلًا، بل سرعان ما ظهرت آثار صدمة الطوفان على الاقتصاد الإسرائيلي بالتوازي مع جهد حكومي وقطاع خاص لإعادة توجيه الموارد لتمويل حرب اعتُبرت منذ اللحظة الأولى وجودية ومصيرية وحاسمة في مستقبل الكيان.
وهكذا، بين ليلة وضحاها، انتقل الاقتصاد الإسرائيلي من حلبة المنافسة إقليميًا ودوليًا، ومن اقتصاد طبيعي يتطلع لتثبيت أعمدته، إلى اقتصاد طوارئ يُعاد تشكيله وتقنينه لصالح التعبئة والمواجهة واستمرارية الوجود.
ومن هذه القفزة الهائلة، وما يتصل بها من أرقام وإعادة تعريف للإنتاج الضروري، وعسكرة القطاعات الاقتصادية المختلفة، تأتي هذه المادة، لتُضاف إلى ملف تستعرض فيه “نون” مفاصل محددة في المجتمع الإسرائيلي، بعضها فاقع وكثير منها خفي، عمل السابع من أكتوبر على قلبها رأسًا على عقب، وإعادة برمجتها وفق العقلية الأمنية المضطربة والهوس التوسعي المتزايد، ليعود الكيان وفقًا لذلك إلى مربعه الأول عام 1948؛ مجتمع عسكري يعيش عقدتي الخوف والأمن.
اقتصاد الولادة من جديد
لم تكن حالة الطوارئ جديدة على الجمهور الإسرائيلي، ذلك لأن وجوده بالأساس كان طارئًا على المنطقة، ما وضعه دائمًا في خانة المتحفز والمقاتل بين الحروب، وأخضع جمهوره واقتصاده وموازنته لسيف الحروب والانتفاضات.
بدأت هذه الحالة منذ اقتصاد التأسيس عام 1948، الذي اتخذ التقنين شعارًا له، مرورًا بـ اقتصاد الحروب العربية-الإسرائيلية. في كل حرب، كان يتم إعادة ترتيب الإنتاج لدعم الصناعات العسكرية واللوجستية، وحتى في أكتوبر 1973 ارتفعت نسبة الإنفاق العسكري إلى أكثر من 30%، واعتُبر اقتصاد تلك الحرب اقتصاد حرب دائم (Permanent War Economy). خلال الانتفاضتين الفلسطينيتين، تم توجيه جزء من الموارد إلى الأمن الداخلي ومكافحة الانتفاضة.
حتى خلال حرب لبنان الثانية وما صاحبها من أزمة اقتصادية، توجهت وزارة المالية إلى إدارة الأزمة نتيجة توقف مناطق الشمال عن الإنتاج بسبب القصف. وفي كل هذه المراحل، ظل التنوع الاقتصادي وشبكات التمويل الخارجي والاقتصاد العابر للحدود دعامة أساسية لاستمرار القوة الاقتصادية.
ومع السابع من أكتوبر، الذي أدخل البلاد في حالة من الشلل، أعقبته تعبئة عامة واسعة، توقف قطاعات اقتصادية بأكملها في الأشهر الأولى من الحرب، مقابل تعبئة قصوى في الجيش وتسريح للعمالة الفلسطينية، ما فرض الطوارئ كنموذج اقتصادي إسرائيلي.
هذا التحول جاء مدعومًا بسياسات حكومية واضحة، عبّر عنها وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش بالقول: “سنقطع من كل المجالات لتمويل النصر”، مؤكدًا أن نفقات الحرب لن تُقلل، وأنه لا توجد نية لتخفيض الإنفاق المتعلق بالحرب حتى نهاية الصراع، مشددًا على أن النصر أولوية قبل كل اعتبار اقتصادي.
ولم يخف وزير المالية تأثير الحرب على الاقتصاد، بل أشار إلى أن دعم النازحين وتعويض المتضررين وحجم التكاليف الأمنية والدفاعية له تبعات كبيرة على الاقتصاد، مقللًا من هول التأثير بالإشارة إلى أن ذلك يأتي في سياق “الحرب من أجل الولادة من جديد أو البعث” (War of Rebirth). ووصف الاقتصاد الحالي بأنه:
“اقتصاد حرب البعث، الذي من خلاله يتم تخصيص الموارد اللازمة لجهاز الدفاع ودعم الجبهة الداخلية الإسرائيلية، لكسب الحرب التي ستضمن وجودنا في البلاد”.
ونتيجة لهذه الذهنية، أُخضع الاقتصاد الإسرائيلي على مدى عامين لسلسلة نفقات مرتبطة بالحرب: من الدفاع وإعادة الإعمار ودعم المتضررين، إلى نشر المساعدات الطارئة، وإجلاء السكان، وتعويض المتأثرين والنازحين، وإطلاق برامج إعادة التأهيل في الشمال والجنوب. وقد انعكس كل ذلك على هيئة عجز مرتفع في الميزانية، يزداد تصاعدًا مع استمرار الحرب.
إعادة تعريف: العبء والضرورة
من بين التحولات التي أُخضع لها الاقتصاد “الإسرائيلي”، كانت إعادة تعريف أعمدته السبع، تحت ظلال الحرب، ووفق مفهوم العسكرة، فالعمود الأول المتعلق بالتكنولوجيا الفائقة، يمثل نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي، ويُسهم بما يقارب 53% من إجمالي صادرات البلاد.
أما العمود الثاني فهو الصادرات العسكرية، وقد بلغت إجمالي صادراتها بين عامي 2018-2020 قرابة 8.5 مليار دولار، بينما العمود الثالث فهو القطاع الصناعي، من أدوات طبية وألماس تجاوزت صادراته 9 مليارات دولار، يليه قطاع الطاقة، الذي يشغل معظم تحركاته القطاع الخاص، حيث يملك منتجوه حصة سوقية تبلغ 53.3%.
يأتي بعده الزراعة التي حققت صادرات قوية خلال الأعوام السابقة وارتفاعًا في نسبة الواردات، ومن ثم السياحة بإجمالي صادرات وطنية بلغت 10.7 مليار دولار، وأخيرًا الخدمات المالية، التي حقق فيها الكيان تقدمًا جعل نسبة الدين الخاص إلى الناتج المحلي الإجمالي تُعد من بين الأدنى مقارنة بالدول المتقدمة، الأمر الذي يمنح صناع القرار هامشًا من المرونة في دعم النمو الاقتصادي دون تعريض الاستقرار المالي للخطر.
هذه القطاعات السبعة، تعرضت لضربات تلقائية نتيجة الحرب والطوفان، بينما تم عسكرتها بما يخدم استمرار الحرب وتمويلها، فالتكنولوجيا الفائقة تحولت من قطاع ريادة أعمال وتقنية معلومات إلى قطاع عسكري لمساندة الجيش وتطوير أنظمة الإنذار وتحليل البيانات، وتفعيل الأمن السيبراني، واختبار فعالية الذكاء الاصطناعي، حيث تضاعفت الاستثمارات الخارجية فيه من 1.9 مليار دولار عام 2023 إلى 4 مليارات نهاية عام 2024.
يأتي ذلك على الرغم من تعطل مشاريع وشركات كبرى نتيجة استدعاء 15% من العاملين في القطاع، الذي لم يمنع الشركات المرتبطة بالجيش مثل Elbit وRafael من توسيع خطوط إنتاج البرمجيات الدفاعية والعسكرية.
وتلقائيًا انسجمت الصادرات العسكرية مع الحرب، من حيث زيادة الإنتاج والتطوير، وأولوية دعم الحاجة المحلية بدلًا من التصدير، حيث وصلت إلى 14.8 مليار دولار.
أما القطاع الصناعي فقد تم تحويل أولويات الإنتاج فيه لصالح دعم الجبهة الداخلية، بتجهيز المشافي ومرافق الطوارئ، بينما تم عسكرة الزراعة من خلال استدعاء مئات الآلاف من الاحتياط من جهة، وتحويل خطوط الإنتاج المحلي لدعم الحاجات الغذائية للجيش، لتغدو مكونًا أساسيًا في الإنتاج الحربي، فيما سيطرت الدولة على طرق دخول الشحنات وأعلنت خطط لتوزيع وإدارة الإمدادات، ما ربط الأمن بقرارات توزيع الغذاء ووضعها تحت رقابة عسكرية.
أما قطاع الخدمات المالية، والذي عبث به الاضطراب الأمني فقد تم تجاهله، بل ولم تحظَ انخفاض تصنيفاته باهتمام وزير المالية، الذي حدد أولويته في الاستثمار في خطوط إنتاج المواد الخام الضرورية للذخائر، وإعادة توجيه موارد البناء لصالح توطين النازحين، وتحويل الزراعة لتأمين السلاسل الغذائية المحلية.
وهكذا تحول الاقتصاد الإسرائيلي من خندق الاستهلاكي الكمالي، إلى الضروري فقط من الغذاء والوقود والأدوية والسلاح، وتم تشغيل المصانع والعمال وفق خطط استثنائية، حُولت المصانع المدنية (الملابس، مصانع السيارات، مصانع التعليب) إلى مصانع عسكرية تُنتج معدات للحرب، حتى أن تقديرات الحرب لعام 2024 وحده أشارت إلى أن ميزانية الغذاء للجيش بلغت مليار شيكل (274 مليون دولار) وهي ضعف ميزانية عام 2022.
توازى ذلك مع تقنين في اتجاهات التصدير والاستهلاك، وخفض دعم البطاقات التموينية، وتحديد الحصص، على حساب تمويل الجيش والخدمات الأساسية، مثل التزامات الحكومة بالمعاشات التقاعدية التي انخفضت من 747 مليار شيكل (221 مليار دولار) إلى 716 مليار شيكل (212 مليار دولار).
وهكذا، لم يقتصر التحول في الاقتصاد على أرقام الميزانية أو نسب التصدير، بل امتد إلى إعادة برمجة القطاعات نفسها، لتتحول جميعها إلى ذراع عسكرية أخرى، يمكن هُنا القول إن “الإنتاج الضروري” أُعيد تعريفه في العقلية “الإسرائيلية” بوصفه إنتاجًا من أجل البقاء الحربي، لا من أجل الرفاه المدني، ليصبح الاقتصاد برمّته اقتصاد طوارئ دائم، قائم على عسكرة الموارد والمجتمع في آن واحد.
الحرب الآن والاقتصاد لاحقًا
وفقًا لمعهد الأمن القومي “الإسرائيلي” خلال النصف الأخير من 2024، فإن تأثيرات الحرب على الاقتصاد تُصنف بـ “الخطيرة”، على المستوى الفردي والجماعي، المدني والعسكري، أما الزاوية الأهم فهي أن الضغوط المالية تؤثر على صمود العائلات وبالتالي قدرة الجنود على القتال.
لا تتعامل وزارة المالية والاقتصاد بتأزم مع هذه الحالة، بل على العكس فإنها تلتزم بالكشوفات نصف وربع السنوية لاقتصادها، فيما وصفه المحاسب العام “الإسرائيلي” روتنبرغ بأنه: “الالتزام بالحفاظ على روتين سليم من أجل الاقتصاد الإسرائيلي”.
وعليه فقد أعلنت الوزارة نهاية يونيو المنصرم عن ارتفاع العجز في ميزانيتها، وتحول النفقات المرتبطة بالحرب إلى عبء مالي ضخم، حيث وصل العجز إلى 7.7% من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بـ 1.5% قبيل الطوفان، بينما ازداد النمو الاقتصادي ضعفًا، وتباطئ الاستثمار والاستهلاك معًا.
حيث تراجعت الاستثمارات الثابتة بنسبة 5.9%، فيما انخفضت الصادرات بنسبة 5.6%، على حساب قيمة الإنفاق الحربي الإضافي التي وصلت إلى 168.5 مليار شيكل، أي ما يقرب 8% من الناتج المحلي، ترافق ذلك مع ارتفاع الانفاق الحكومي بنسبة كبيرة بينما هبط الإنفاق الاستهلاكي بنسبة 27%.
أما آخر الأرقام الصادرة عن مكتب الإحصاء المركزي، فتؤكد انكماش الاقتصاد بمعدلٍ سنوي بلغ 3.5% خلال الربع الثاني من 2025، وخلال الربع ذاته تراجع الناتج المحلي بنسبة 4.4% وحتى قطاع الأعمال انكمش بنسبة 6.2% تحت تأثير الضربة الإيرانية لمركز البلاد.
من الأرقام اللافتة للنظر هو تراجع الصادرات بنسبة 3.5% في جميع القطاعات، باستثناء التكنولوجيا الفائقة والألماس، ونتيجة هذه البيانات خفضت وزارة المالية توقعاتها المتعلقة بالنمو بمقدار نصف نقطة، من 3.6 إلى 3.1، على خلفية الحرب مع إيران، متوقعة تعافيًا سريعًا على غرار تعافي أغسطس وسبتمبر 2024.
بينما احتفظت الأرقام بثباتها فيما يتعلق بتكلفة الحرب حتى نهاية 2025، والتي يُتوقع أن تصل لحوالي 250 مليار شيكل (66 مليار دولار)، شاملة النفقات العسكرية والمدنية من إغاثة وإيواء وأضرار ونزوح وكلفة تشغيل الاحتياط وتعويض القطاعات المتضررة.
في الواقع، فإن قراءة الاقتصاد “الإسرائيلي” في ضوء العامين الأخيرين تفتقر للثبات والدقة، لا سيما وأنه أظهر منذ نهاية الانتفاضة الثانية استقرارًا وإمكانيات نمو عالية، وارتفاع معدلات التوظيف، وتقدم قطاع التكنولوجيا الفائقة، وجهد حكومي كبير للحد من التضخم واحتواء العجز المالي.
لكن قراءته من منطلق التغيرات التي تطرأ عليه، وطول أمدها، وتكيف الجمهور والحكومة معها، وما ينتج عنها من تغير في ظروف الحياة والرفاه الاجتماعي الذي لطالما تباهت به “إسرائيل” على محيطها، يشي بأن النصر والهزيمة في هذه الحرب لا يقتصر على الرصاصة والقذيفة.
وهكذا، فإن ما تُظهره المؤشرات الاقتصادية لا يُظهر تحولًا ماليًا بحتًا، وإنما تحولًا ذهنيًا وبنيويًا، يرى في الجبهة بوصلته الوحيدة على حساب كل شيء آخر، ما يحول العجز المالي والهبوط في الصادرات إلى نمطٍ آخر من الاستثمار في النصر، يُعبر عنه سموتريتش بالقول: “أنا مقتنع بأن النصر بعون الله سيجلب الأمن، والأمن سيعيد عائدا زائدا للاقتصاد ويؤدي إلى طفرة كبيرة في النمو والتنمية، وهذا سينعكس في البيانات المالية للسنوات القادمة”.