داخل استوديو خشبي معزول يحجب دوي الانفجارات والأحزمة النارية في قطاع غزّة، يقف المعلّق الصوتي فوزي القصّاص (33 عامًا) أمام الميكروفون، ممسكًا بورقة إعلان باللهجة الخليجية، بعد أن اختير صوته من بين عشرين معلّقًا صوتيًا على منصة “مستقل”، أكبر منصات العمل الحرّ في العالم العربي.
يكتم فوزي غيظه بعدما انقطع الإنترنت والكهرباء عنه في مساحة العمل التي حلت بديلاً عن استديو منزله المقصوف، ثم يقول بحرقةٍ: “هي وقفت على خط الإنترنت والكهرباء، حتى المبالغ المالية التي أجنيها، مُعلقة على المنصة بعدما حظرت شركة بي-بال (PayPal) الأمريكية حساباتنا في حرب الإبادة لكون مكان الإقامة فلسطين”.
فوزي ليس وحده من أغلقت منصة ب”ي-بال” الأمريكية حسابه، هناك مئات آلاف من الفلسطينيين في قطاع غزّة والضفة الغربية، حظرت المنصة حساباتهم خلال حرب الإبادة منذ السابع من أكتوبر/تشرين أول 2023، ولم ينفك الحظر عنهم حتى اللحظة!
يعود القصاص بذاكرته للوراء قليلًا، قائلًا: “درست المحاسبة المالية والمصرفية، ووقفت على طابور البطالة الخانق في قطاع غزّة، ووجدت طوق النجاة بالعمل على منصات العمل الحرّ؛ من عملاء متعددين من كافة أنحاء العالم بعائد مادي مُجزي، وسهولة في تلقي المدفوعات، بعمولة لا تتجاوز 8% عبر السحب من منصة “بي-بال”، ومن ثم التحويل للحساب البنكي”.
يستخدم العديد من المستقلين في قطاع غزّة منصة “PayPal” لتلقي المدفوعات من العملاء الدوليين، لتوفيرها الحماية للبائعين، ولسهولة ربطها بمنصات العمل الحر التي يعملون عليها.
يستكمل المعلق الصوتي لـ”نون بوست”: “بعد رحلة نزوح شاقة وفقدان المعدات الصوتية، تعثرت بمساحة عمل أدفع لها شهريًا 100 دولار مقابل خط الإنترنت والكهرباء للتواصل مع عملائي، وحتى بعد حظر منصة “PayPal” حسابي أحاول إيجاد البدائل المُكلفة والقدرة على إعالة أسرتي من جديد”.
“ما هي البدائل التي لجأت إليها؟” تسأل “نون بوست” ليجيب: “يُقيم أخي في ألمانيا ويمتلك حسابًا على منصة “بي-بال”، حولت على حسابه لمدة شهرين، بعدها طلب التوقف خوفًا على تهديد حاسبه بالحظر، ثم قمت بالتواصل مع عملائي في أيرلندا، مصر، تركيا، والسعودية، واتفقت معهم على إبقاء مستحقاتي المالية في حساباتهم إلى حين سحبها من مكاتب الصرافة المحلية، وإن كان ذلك بخصم عمولة تصل أحيانًا إلى 50% من المبلغ الأصلي”.
قبل حرب الإبادة على غزَّة، طالب 11 عضوًا في الكونجرس الأميركي شركة بي-بال PayPal الأميركية، إنهاء الحظر المفروض على التعامل مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة في الوقت الذي تسمح فيه الشركة المصرفية للمستوطنين باستخدام منصة الدفع الرقمية، ولم تشرح الشركة علنًا سبب استثنائها للفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة في تقديم الخدمات المالية لهم.
في زاويةٍ أخرى، يجلس الشاب محمود البورنو (22 عامًا) أمام شاشة حاسوبه المحمول الثاني الذي انتشله من أسفل ركام منزلهم بعد خروجه من غياهب السجون الإسرائيلية وخسارته لعمله كمُصمم موشن جرافيك ومحرر فيديو.
يحدثنا محمود بقسمات وجهٍ بائسة: “قلبت حرب الإبادة الإسرائيلية حياتنا رأسًا على عقب، من خسارتي لحاسوبي الأول، ومن ثم العديد من أفراد عائلتي، وصولًا لعدم المقدرة على التواصل مع عملائي في المملكة العربية السعودية، واستلام المدفوعات والمستحقات المالية التي كنت بأمس الحاجة إليها في ذروة حرب الإبادة”.
لم تكن شركة “بي-بال” وحدها من حظرت حسابات الفلسطينيين، حتى خدمة و”يسترن يونيون” علّقت أعمالها في قطاع غزّة، وزادت الطين بِلّة على العاملين مع الشركات الخارجية والمستقلين على منصات العمل الحرّ.
يتابع مصمم الموشن: “قبل حرب الإبادة لم يكن تحصيل المدفوعات المالية جُلّ ما أفكر فيه، بل بالنسبة لتحسن جودة العمل وترك بصمة مميزة للعملاء، لكون السوق ممتلئًا بالمصممين. كنت أتلقى المدفوعات والمستحقات من العملاء بكل سهولة ويسرّ، لعملي مع دول تدعم الويسترن يونيون، حيث أستلم المدفوعات من الوكلاء في دقائق معدودة وبسهولة بالغة”.
عانى الشباب الفلسطيني في قطاع غزّة قبيل حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ 23 شهرًا، من ارتفاع نسب البطالة بفعل الحصار المفروض على القطاع منذ العام 2006 وحتى الآن، ما دفع الكثيرين منهم إلى البحث عن العمل خارج القطاع، وعبر منصات التوظيف للعمل الحر، كمصدر دخل أساسي.
يتابع الشاب العشريني بتنهيده وغصة: “اليوم لا يوجد ويسترن يونيون في قطاع غزّة، وأحتاج وسطاء يأخذون عمولة باهظة تتجاوز أكثر من نصف المبلغ المالي الذي أجنيه، مما يعرقل المواصلة في العمل، لكن الظروف المحيطة تجبرني على المواصلة لأجل عائلتي”.
“القيود المالية المفروضة على فلسطين ليست وليدة حرب الإبادة، لها سنوات طويلة قبل الحصار المفروض على قطاع غزّة، حيث فرضت الكثير من القيود والعقوبات الاقتصادية على البنوك الفلسطينية خلال انتفاضة الأقصى، وهذه القيود يتم استخدامها بحجج واهية وكاذبة، تتمثل بوجهة نظرهم في ‘مكافحة الإرهاب'”، يقول الخبير بالشأن الاقتصادي أحمد أبو قمر.
يستكمل الخبير الاقتصادي: “خلال الحصار الإسرائيلي لقطاع غزّة قيد الاحتلال الإسرائيلي، تم تقييد الكثير من الحركات المالية بالتعاون مع المجتمع الدولي، الذي يحاول اقتصاديًا التغطية على ما يفعله الاحتلال الإسرائيلي من جرائم”.
يتابع أبو قمر: “خلال حرب الإبادة زادت القيود المالية، وأصبحت الصعوبات من وإلى قطاع غزّة مضاعفة، من إغلاق الحسابات المختصة بالعملات والمنصات الرقمية (منصة Binance، ومنصة بي-بال PayPal، وويسترن يونيون، وMoneyGram، …)، والكثير من الحسابات أغلقت، والتي تحوي آلاف الدولارات، والتي أنشئت بهدف التغلب على القيود المالية ضمن العقوبات الاقتصادية المفروضة على الفلسطينيين”.
يضيف الخبير الاقتصادي: “منصة بي-بال أثبتت فعاليتها في الحوالات المالية لتواجدها في أكثر من 200 دولة حول العالم. هذا التواجد ساهم بانعكاسات إيجابية في مساعدة العاملين والشركات الخارجية، وعبر منصات العمل الحر، حيث أتاح لهم إمكانية إرسال واستقبال الأموال بعمولة بسيطة”.
ويعلق: “430 مليون حساب نشط على المنصة في نهاية عام 2024، وهذا يُدلل على قاعدة كبيرة من العملاء الذين يستخدمون هذا السوق للمدفوعات المالية، لكونه سوقًا رائجًا في أغلب دول العالم. إغلاقه عن قطاع غزّة شكل ضربة كبيرة للحوالات المالية، والتي تحوي على حسابات بها ملايين الدولارات، دون تعقيب من منصة بي-بال PayPal رغم معرفتها بمصدر المال”.
يؤكد الخبير الاقتصادي: “خلال حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، يعاني المستقلون والعاملون في الشركات الخارجية المتواجدون في قطاع غزّة من حرب عسكرية واقتصادية، بعد إغلاق منصة بي-بال وإيقاف خدمة ويسترن يونيون في القطاع، حيث كانت العمولة قبل الحرب 2%، واليوم زادت عن الـ30%! مما يثقل كاهل المستقلين”.
يشير أبو قمر إلى أنه لا يوجد إحصاء محلي يمكن الاستدلال به عن عدد الحسابات التي تعرضت للحظر والإغلاق، لعدم وجود قاعدة بيانات ما قبل حرب الإبادة، بحكم البيئة التي يعيش فيها قطاع غزّة والحصار المالي المفروض عليها.
ويختتم الخبير في حديثه: “ندعو لاعتماد USDT في الحسابات والحوالات البنكية، والتحويل فعال بها بشكل كبير، بحيث لا يتم معرفة الأموال من أي دولة خرجت وإلى أي دولة ستصل، ويتم اعتمادها في الدول التي تواجه القيود المالية”.