في أحد أحياء عمّان، تبدأ مرام الوجيه، الأربعينية، صباحها بتفقّد نباتاتها الصغيرة على شرفة منزلها، فتقترب من أحواض صغيرة وعلب فارغة أعادت استخدامها للزراعة، محاولةً أن تؤمّن قوت يومها وتقاوم ضغوط الحياة، فهل يمكن أن تتحول الزراعة الحضرية إلى وسيلة صمود اقتصادي في المدن الكبيرة؟
ربما كانت الزراعة البسيطة خيارًا في وقت ما، لكن منذ جائحة كورونا والتضخم الكبير الذي شهده العالم، أصبح لزامًا على الكثير من العائلات البحث عن بدائل غذائية بكلفة أقل، يضاف إلى ذلك الحروب في المنطقة، وصعوبة توفير بعض السلع.
من هنا، برزت للكثيرين فكرة استغلال أسطح المنازل والشرفات في مدن مكتظة وعواصم عربية، إضافةً إلى الأراضي المهملة، وتطبيق فكرة الزراعة الحضرية والزراعة المائية كتجارب مجتمعية تسعى لتقليل الاعتماد على الأسواق، وتعزيز الأمن الاقتصادي والغذائي العائلي.
لماذا الزراعة الحضرية؟
ارتفاع الأسعار غير المسبوق في العالم مؤخرًا دفع كثيرين في العالم العربي إلى التضحية بجزء من احتياجاتهم الأساسية. إذ تشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى أنّ لبنان في مقدّمة الدول العربية التي انكمش اقتصادها بنسبة 40٪، ليسجّل معدل تضخّم يفوق 190٪.
جاءت مصر في المرتبة الثانية بمعدل 31.2%، ثم العراق والإمارات وقطر، الأمر الذي يدقّ ناقوس الخطر للتحرّك لحلول فردية إلى جانب حلول الدول والمؤسسات، غير أنّ هذه الأرقام المقلقة تتعدّى فكرة التنازل عن الاحتياجات الأساسية لتؤثّر بشكل مباشر وتُهدّد حياة الناس.
إذ تشير منظمة الأغذية العالمية إلى أنّ سكان خمس مناطق في العالم يواجهون خطر الموت من الجوع الشديد، في مقدّمتها غزة والسودان، إضافةً إلى اليمن وسوريا.
وتسعى المنظمة للحصول على دعم وتوفير مساعدات زراعية طارئة لإنقاذ حياة 49 مليون شخص؛ لذلك ليس من المستغرَب أن الزراعة الحضرية لم تعد رفاهية، بل هي ضرورة للبقاء، فالزراعة المنزلية مهما صغرت المساحة وسيلة لتخفيف التكاليف وتقليل اعتماد الأسرة على الأسواق المتقلبة.
تحديات الزراعة الحضرية
رغم الحماس الشبابي، إلا أن الزراعة الحضرية تواجه عدة عقبات، من أهمها ضيق المساحات ونقص المياه، خاصة في الأردن وسوريا، وقلة الخبرة التقنية، والكلفة الأولية للتجهيزات، وغياب الدعم الرسمي.
حول ذلك، تقول المهندسة الزراعية المختصة بالإنتاج النباتي أماني العجلوني في تصريح خاص لـ”نون بوست”: “يغلب على طقسنا في الأردن المناخ الصعب والتصحر، إضافةً إلى قلة الماء، مما يعيق كثيرًا مبادرات الزراعة التقليدية”. ولذلك، تنصح العجلوني بالتركيز على تأمين الحاجات اليومية التي لا تحتاج إلى وقت طويل في الزراعة، “مثل أحواض النعنع والبصل والنباتات الخضراء”.
كما يمكن التركيز على النباتات التي لا تحتاج جهدًا كبيرًا في الزراعة والمتابعة، مثل الزهرة والطماطم، ولا تحتاج لشهور طويلة في المتابعة.
قلة الماء، وفقًا للعجلوني، لا يعرض المزروعات للجفاف والموت فقط، بل حتى لتغير الطعم، حيث يميل طعمها للمرارة عند شح المياه، مثل الباذنجان والفلفل الحلو، مما يجعله غير صالح للأكل.
فوائد صحية وأضرار
يشجع كثير من خبراء الصحة والنبات اللجوء إلى الزراعة، ليس من جانب اقتصادي أو نفسي فقط، بل تعزيزًا للجانب الصحي. تشير العجلوني إلى أن “كمية الأسمدة والكيماويات زادت مؤخرًا في خطوة للتركيز على الربح والنضج السريع للخضار”، ويمكن تقليل ذلك باللجوء إلى الزراعة المنزلية التقليدية، لا سيما كغذاء للأطفال.
تشير مرام الوجيه إلى أنها “تعتمد في ري نباتاتها على الماء المعاد استخدامه من غسل اليدين والخضار”، وتؤكد بدورها المهندسة العجلوني ضرورة ذلك، لا سيما وأن الأردن ثاني أكثر بلدان العالم فقرًا بمصادر المياه، وحصة الفرد 100 متر مكعب، وهي أقل من الحصة العالمية التي تبلغ 500 متر مكعب سنويًا. وتضيف العجلوني: “لذلك، ظهر مفهوم الزراعة المائية، والتي يمكن تطبيقها كحل حضري لضيق المساحات ونقص التربة، وكذلك لقلة الماء”.
الزراعة المائية يمكن تطبيقها لمشاريع كبيرة، وكذلك في مساحات منزلية صغيرة. ووفقًا للمهندسة العجلوني، يحتاج الأمر “إلى جهاز صغير لتدوير المياه، إذ يمكن استخدام المياه ذاتها لمدة شهر دون الحاجة لتغييرها”.
وما يميز الزراعة المائية كذلك “أنها لا تحتاج تربة وأسمدة، وبالتالي لا تنمو فيها حشرات وآفات تسبب أمراضًا في الجذور تحتاج لمكافحتها في مساحات ضيقة كالمنازل والشرفات والأسطح”.
غير أنها لا تخلو من العيوب، إذ تشير العجلوني: “في حال تم اعتماد نظام الزراعة المائية على الأسطح، يجب التأكد من التمديدات المائية، لأنه يمكن أن تسبب تسرّبًا مائيًا يؤثر على أساسات البناء إن لم تُنفذ بشكل صحيح”.
نماذج من سوريا: الزراعة في ظل الحرب
خلال 14 عامًا من حرب طاحنة في سوريا، اختل الميزان الغذائي، بل وانعدم، إذ عانى فيه قرابة 13 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي، وفقًا لتقديرات برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة، وذلك أكثر من نصف سكان سوريا.
ليست الحرب وحدها التي لعبت دورًا في ذلك، إذ وفقًا للخبراء البيئيين، بدأت مواسم الجفاف منذ عام 2006، وتفاقمت مع اندلاع الثورة والاحتكار وضرب البنية التحتية. كما انعكس ارتفاع الأسعار، لا سيما أسعار المحروقات، بشكل مباشر على القوت اليومي، فبات مشهدًا شائعًا في السنوات الأخيرة في دمشق أن ترى مواطنين يتزاحمون لشراء خضار بالحبة الواحدة، فضلًا عن تحييد بعض الأصناف من القائمة بشكل كامل، مثل اللحوم والفواكه.
لمقاومة هذا الوضع، ظهرت الكثير من المبادرات الزراعية في سوريا، وفي مناطق النزوح، حيث تتوافر المساحة ولكن يصعب إيجاد الماء، غير أن الملفت أنها انتشرت كثيرًا في البيوت الحضرية في مدن كبيرة مثل دمشق وحلب وحمص وغيرها، حتى عند انعدام وجود أسطح المنازل.
حول ذلك، تؤكد مريم حسن (50 عامًا) أثناء حديثها مع “نون بوست”: “ما أعاننا على الصمود خلال الثورة وجود سطح نتشاركه مع الجيران ونزرع عليه احتياجاتنا”. وتضيف: “في وقت وصلت فيه أسعار الخضار لمئات آلاف الليرات، كنا نؤمن جزءًا جيدًا من احتياجاتنا، مثل الورقيات، والفلفل الأخضر، وبعض البطاطا، والبصل، وغيرها”.
وتؤكد مريم “أن الشرفة وسطح المنزل صارا يمثلان السوق خلال الحرب لكثير من السوريين، في وقت حُرم كثر من زيارته بسبب الغلاء الفاحش”.
تحوّل هذا المفهوم لهدايا بين الجيران، إذ يضيف عمر عبد الرحمن، من سكان ريف دمشق: “يفرح جيراننا عندما تصلهم هدية طازجة على شكل بضع ضمم من البقدونس أو الكزبرة مثلًا، واستطعنا استبدال الهدايا بيننا، وتغييرها أحيانًا إلى شكل يحفظ الأمن الغذائي ويعيننا في الأوضاع الصعبة”.
يزرع عمر عبد الرحمن في مساحة صغيرة بجوار المنزل، إضافةً لشرفة منزله، ويضيف: “في أحيانا كثيرة، تكون الوجبة كاملة مما نزرع، إضافة للسلطة والمخللات التي نجهزها مما نزرع”. هذه طريقتنا في الصمود والبقاء، و”على الرغم من مرور أشهر على سقوط النظام، لكن الوضع الاقتصادي لم يتحسن كثيرًا، حيث يصل كيلو الطماطم مثلًا إلى 5 آلاف ليرة، والكوسا إلى 9 آلاف”.
تعلمت شعوب المنطقة من الماضي أن تنتظر محصول الأسواق، غير أن الوضع الراهن يفرض واقعًا جديدًا بأن يُزرع الغذاء – بعضه على الأقل – في البيت. وقد تكون الزراعة الحضرية النواة الأولى لمدن عربية أكثر قدرة على النجاة غذائيًا، فما بدأ بورقة نعناع على شرفة أو حوض بصل على سطح منزل، قد يتحول إلى حركة واسعة وثقافة مجتمعية تعيد للمدن العربية خضرتها وقدرتها على الصمود في مواجهة أصعب الظروف.