في خضم التحديات الجيوسياسية المتصاعدة التي تشهدها المنطقة، وفي ظل تداعيات حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة والضغوط الدولية المتزايدة، برزت على الساحة الإسرائيلية رؤية جديدة مثيرة للجدل، أطلق عليها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اسم “سوبر إسبرطة”. وإسبرطة هي مدينة قديمة تميزت بتفوقها العسكري وانعزالها عن محيطها.
جاء هذا المفهوم كاستجابة استراتيجية لما وصفه نتنياهو بـ”العزلة” المتزايدة التي تواجهها “إسرائيل” على المسرح العالمي. وتتجلى الرؤية في ضرورة تحويل “إسرائيل” إلى مجتمع أكثر عسكرة، يعتمد على قدراته الذاتية في الدفاع والأمن والاقتصاد، متأثرًا بنموذج دولة-المدينة الإغريقية القديمة.
في هذا المقال، نحاول نقاش أبعاد هذه الرؤية العسكرية والاقتصادية والسياسية، وإجراء مقارنة نقدية مع دولة إسبرطة القديمة، لتقييم مدى واقعية هذا المسار وتداعياته المحتملة على حاضر ومستقبل “إسرائيل”.
البعد السياسي والدبلوماسي
لقد اعترف نتنياهو صراحةً بأن “إسرائيل” تواجه نوعًا من “العزلة”، لكنه في خطابه لم ينسب هذه العزلة إلى سياسات حكومته، بل أرجعها إلى عوامل خارجية يرى أنها خرجت عن السيطرة. كما أشار إلى “التغيرات الديموغرافية في أوروبا” الناتجة عن الهجرة، والتي أدت إلى ظهور أقليات مسلمة “صاخبة جدًا وعدوانية للغاية” تضغط على الحكومات الأوروبية لاتخاذ مواقف معادية لـ”إسرائيل”.
كما اتهم “خصومًا” مثل قطر والصين بضخ “مبالغ كبيرة جدًا” للتأثير على وسائل الإعلام الغربية، واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والروبوتات في حملات دعائية معادية لـ”إسرائيل” على منصات مثل “تيك توك”. محاولًا من خلال سرديته، تحويل مسار اللوم من السياسات الإسرائيلية إلى مؤامرات خارجية مزعومة، ما يسمح بتبرير سياسات الحرب الإبادية، والأبدية، والاكتفاء الذاتي كضرورة حتمية بدلاً من كونها خيارًا سياسيًا.
نتيناهو: قطر والصين يمولون الإعلام ضد “إسرائيل” pic.twitter.com/P6koigEnzJ
— نون بوست (@NoonPost) September 15, 2025
في المقابل، جاء رد المعارضة الإسرائيلية قويًا وحاسمًا، حيث رفض قادتها هذه السردية بشكل قاطع، فقد أكدوا أن العزلة ليست “قدرًا” محتومًا، بل هي “نتيجة لسياسات خاطئة وفاشلة”، بل واتهم قادة المعارضة مثل يائير لبيد وأفيغدور ليبرمان نتنياهو بتحويل “إسرائيل” إلى “دولة من العالم الثالث” من خلال سياسات تدفع البلاد نحو “هاوية سياسية واقتصادية واجتماعية”. هذا التباين الحاد في الخطاب يكشف عن توسع الخلاف الإسرائيلي الداخلي حول المسار الذي تسلكه البلاد، لا سيما مسار نتنياهو في حربه الكونية التي يخوضها، فخطاب نتنياهو لم يكن مجرد تنظير، بل هو استجابة لأزمة قد بدأت، وستزداد طالما سياساته الإبادية والعدائية مستمرة.
إن العزلة ليست مجرد خطاب، بل واقع له تداعيات ملموسة، ففي أعقاب تصريحات نتنياهو، أثيرت مناقشات داخل المفوضية الأوروبية حول إمكانية تعليق جزء من اتفاقية التجارة مع “إسرائيل”، كما تزايدت قائمة الدول التي تعهدت بالاعتراف بالدولة الفلسطينية. وتشير تقارير صحفية إلى أن “إسرائيل” تواجه عزلة دولية متصاعدة حتى بين حلفائها التقليديين، وهذا السياق يوضح أن رؤية “سوبر إسبرطة” ليست مبادرة استراتيجية مدروسة، بل هي محاولة لإدارة أزمة دبلوماسية نشأت بشكل مباشر من سياسات الحكومة نفسها وتداعياتها الإنسانية على قطاع غزة.
مخاطر “الأوتاركية” وواقع الاقتصاد الإسرائيلي
يُعدّ البعد الاقتصادي أحد أخطر جوانب رؤية “سوبر إسبرطة”، فقد أوضح نتنياهو أن الاكتفاء الذاتي أو “الأوتاركية” – التي وصفها بـ”الكلمة التي يكرهها أكثر من أي شيء”، كونه مؤمنًا بالاقتصاد الحر – هي ضرورة حتمية لتطوير الصناعات العسكرية المحلية، وشدد على أن هذا التحول سيمكن “إسرائيل” من الاعتماد على نفسها وعدم الخضوع لـ”قادة غربيين ضعفاء” يستجيبون للضغوط.
لكن هذا المسار واجه تحذيرات قوية من داخل “إسرائيل”، حيث رفض منتدى الأعمال الإسرائيلي، الذي يمثل مئات الشركات، الرؤية جملة وتفصيلاً، محذرًا من أن “الأوتاركية ستكون كارثة على الاقتصاد الإسرائيلي وستؤثر على جودة حياة كل مواطن”. وأضاف المنتدى أن هذه السياسات تدفع البلاد نحو “تدهور اقتصادي وسياسي خطير وغير مسبوق”، كما حذر زعيم المعارضة يائير غولان من أن الاكتفاء الذاتي سيؤدي إلى “انخفاض بنسبة 40% في أجور الجميع”، متوقعًا أن تتحول إسرائيل إلى “بلد متخلف بالكاد يستطيع توفير البيض والحليب والماء لمواطنيه”.
مع تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة، واستـ،ـشهاد أكثر من 60 ألف فلسطيني، وتجويع ما يزيد عن مليوني إنسان، تتزايد العزلة الدولية الصامتة على “إسرائيل”. تنتشر بشكل غير معلن وتمتد من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الترفيه إلى الأوساط الأكاديمية. pic.twitter.com/17vZ1ngmnQ
— نون بوست (@NoonPost) August 26, 2025
لم تكن هذه التحذيرات مجرد أقوال، بل تجسدت في رد فعل فوري وحقيقي للأسواق، فقد شهدت أسهم بورصة تل أبيب انخفاضًا حادًا وهبط سعر الشيكل مقابل الدولار بعد خطاب نتنياهو مباشرة. هذا التصويت الفعلي من قبل الرأسمال ضد الرؤية يمثل دليلاً دامغًا على أن الاقتصاد الإسرائيلي مرتبط بشكل حيوي بالاقتصاد العالمي، فالخطاب السياسي بحد ذاته، وما يحمله من إشارات إلى الانعزال، له تداعيات اقتصادية فورية ومباشرة.
من ناحية البعد العسكري، تُعلي رؤية “سوبر إسبرطة” من شأن الاستقلال الأمني كهدف أسمى، وهو هدف وجودي لـ”إسرائيل”، حيث يشدد نتنياهو على أن الدرس الأهم من الحرب هو الحاجة إلى “الدفاع عن إسرائيل بقواتها وأسلحتها الخاصة”. ويرى أن هذا الهدف يتطلب استثمارات ضخمة في صناعات الدفاع المحلية لضمان الاكتفاء الذاتي العسكري. لكن، ثمن هذه العسكرة الشاملة لا يقتصر على الاقتصاد فحسب. فقد أدت حالة “الحرب الطويلة” إلى إرهاق المجتمع الإسرائيلي، وتزايد الاضطرابات الداخلية، كما تشير التقارير إلى ارتفاع معدلات الانتحار بين الجنود الإسرائيليين العائدين من غزة، ما يعكس الضغط النفسي الهائل الذي يتعرضون له، في ما أظهرت الاحتجاجات وتصاعد حالات رفض الخدمة العسكرية من قبل شرائح مؤثرة في المجتمع، مثل ضباط الاحتياط من سلاح الجو والمخابرات، بالإضافة إلى الأكاديميين، وجود “خلخلة” في الإجماع الوطني المعتاد في فترات الحرب. إن هذه التصدعات في النسيج الاجتماعي تقوّض بشكل غير مباشر القدرة العسكرية الشاملة على المدى الطويل، وتكشف عن أن القوة العسكرية وحدها لن تصنع أمنًا مستدامًا.
إسبرطة القديمة – تشريح نموذج الفشل
لفهم مدى خطورة هذه الرؤية، يجب النظر إلى النموذج التاريخي الذي تستمد منه استعارتها. كانت إسبرطة مدينة عسكرية قديمة (900 -371 قبل الميلاد)، وكان مجتمعها مبنيًا على نخبة محاربة تمثل أقلية ضئيلة من السكان، وتعتمد بشكل كامل على عمل طبقة العبيد (الهيلوت) الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة. أما اقتصادها، فكان “أوتاركيًا” (اكتفاء ذاتي)، يعتمد على الزراعة بشكل حصري. ولردع التجارة الخارجية ومنع التأثر بالقيم الأجنبية، استخدمت عملة غير عملية عبارة عن قضبان حديدية ثقيلة.
وعلى الرغم من قوتها العسكرية الكبيرة، إلا أن النموذج الإسبرطي كان هشًا وغير مستقر داخليًا بسبب الخوف المستمر من انتفاضات الهيلوت. ومع مرور الوقت، تضاءل عدد المواطنين المحاربين بشكل كارثي، مما أدى إلى ضعف قوتها العسكرية. ورغم تزايد انتصاراتها في الحروب، إلا أن قوتها تلاشت بسرعة بعد هزيمتها الحاسمة في معركة “ليوكترا”. وفي نهاية المطاف، انهارت إسبرطة وزالت، بينما بقيت حضارة أثينا التي مثلت الثقافة والمعرفة والفلسفة.
🧵 تحول الخطاب الألماني تجاه “إسرائيل”.. العزلة الدولية تتمدد 👇
📌لطالما عُرفت #ألمانيا بأنها من أكبر الداعمين لـ”إسرائيل” في أوروبا، استنادًا إلى “المسؤولية التاريخية” بعد الهولوكوست، لكن الحرب على #غزة أحدثت تصدّعات ملحوظة في هذا الموقف الثابت.
📌 منذ أكتوبر 2023، سعت… pic.twitter.com/H1cm89yDAy
— نون بوست (@NoonPost) May 29, 2025
سردية انهزام إسبرطة التاريخية تبرهن أن استعارة نتنياهو ليست مصدر قوة، بل هي في الحقيقة درس تاريخي عن الفشل، فنموذج إسبرطة كان هشًا، وغير مستدام، وانهار في نهاية المطاف، وتعكس مفارقة عميقة؛ فنتنياهو يطلق اسم إسبرطة لتعزيز فكرة القوة والمرونة، لكن التاريخ يثبت أن إسبرطة كانت دولة فاشلة قامت على القمع والخوف، ومن ثم انتهت إلى الزوال. بالتالي، فإن الاستعارة التي يطلقها نتنياهو قد لا تكون سوى خطاب هزيل يتنبأ بفشل محتمل.
وفي مقارنة بين النموذج الإسبرطي القديم ورؤية “سوبر إسبرطة” الإسرائيلية، تبرز أوجه تشابه واختلاف جوهرية، فإسبرطة القديمة تشابهت، بشكل ما، فلسفة وجودها مع “إسرائيل” كونها “دولة انتحارية”، كما سمّها المفكر الفرنسي من أصل مغربي يهودي جيل النجَّار، مع إسبرطة القديمة، فهي تحارب وتعرض نفسها للفناء من أجل هوسها بالأمان والبقاء. فعلى الصعيد العسكري، تتفق الرؤيتان في إعلاء شأن القوة العسكرية، فبينما كان مجتمع إسبرطة القديمة قائمًا بشكل كامل على عسكرة المواطنين الذكور، تدعو رؤية “سوبر إسبرطة” إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في الصناعات الدفاعية لضمان استقلال “إسرائيل” الأمني.
أما على المستوى الاقتصادي، فكلا النموذجين يتبنى “الأوتاركية” أو الاكتفاء الذاتي. إلا أن إسبرطة كانت تعتمد على اقتصاد زراعي مغلق قائم على عمل طبقة العبيد (الهيلوت) واستخدمت العملة الحديدية الثقيلة لردع التجارة الخارجية، في حين أن الرؤية الإسرائيلية تدعو إلى اكتفاء ذاتي صناعي وتكنولوجي، وهو ما يستحيل تنفيذه في عالمنا الحالي.