منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، يشهد الشرق الأوسط موجة متسارعة من التحولات العميقة التي أعادت صياغة معظم معادلات النفوذ والهيمنة في واحدة من أكثر مناطق العالم اشتعالًا وتقلّبًا، فقد ارتفعت وتيرة المواجهات والاشتباكات التي انتقلت من حروب الوكالة إلى مواجهات مباشرة، في ظل الاندفاعة العدوانية الإسرائيلية المتصاعدة وطموحاتها التوسعية المتنامية.
وقد أظهرت الحرب الإيرانية–الإسرائيلية الأخيرة بوضوح الدور الجوهري لامتلاك أوراق قوة تسليحية قادرة على تقليص الفجوة مع الخصوم، وأبرزت في الوقت نفسه أهميةَ بناء بدائل تسليحية وطنية تعزِّز القدرةَ على خوض الحروب الهجينة التي باتت السمةَ الغالبةَ للنزاعات المعاصرة، بما في ذلك تقنيات الاشتباك عن بُعد والتأثير الاستراتيجي الكبير لترسانات الصواريخ الباليستية في موازين القوى.
في هذا السياق، لم تَبقَ تركيا بمعزل عن ديناميكيات التغيير في الإقليم، بل وجدت نفسها طرفًا فاعلًا يؤثِّر ويتأثر، لا سيما في ظل التحولات الدولية العاصفة التي أعقبت الحرب الروسية–الأوكرانية. وقد دفع ذلك أنقرة إلى تبنِّي استراتيجية قائمة على توسيع ما يُسمِّيه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بـ”صناعة الدفاع”، التي تهدف إلى بناء ترسانة نوعية قادرة على مواجهة التهديدات المتصاعدة، وبعث رسائل ردعية ضمن ما يمكن وصفه بـ”دبلوماسية الصواريخ”.
الانضمام المتأخر إلى نادي الصواريخ الباليستية
على الرغم من أن تركيا تحتل موقعًا متقدمًا ضمن قائمة أقوى الجيوش في العالم، ولا تُعد من الدول التي تنتهج سياسة “صفر عداوات وصفر توترات”، فإنها تحرص على التمسك بإرثها التاريخي وتعظيم وزنها الاستراتيجي وتعميق معادلات نفوذها الإقليمي.
وإن هذه المعطيات تفرض عليها استحقاقاتِ بناء القوة، وتطوير قدراتها التسليحية النوعية، وتوطين صناعاتها الدفاعية، بهدف تقليص الاعتمادية على الغرب، وتعزيز الندية في علاقاتها السياسية وقدرتها على الردع الدولي.
وفي هذا السياق، تبرز الترسانة الهجومية والدفاعية بوصفها إحدى أهم أدوات دبلوماسية القوة و”المهابة الاستراتيجية” التي تمنح الدول حصانةً ضمن معادلة توازُن القوى التي تحكم العلاقاتِ الدوليةَ وفق نظريات الواقعية السياسية.
تُعد الصواريخ الباليستية إحدى أبرز أدوات هذه الترسانة، فهي أنظمة قادرة على حمل رؤوس حربية تقليدية أو كيميائية أو بيولوجية أو نووية، وتوجيهها إلى أهداف محددة بدقة، كما يصعب اكتشافها واعتراضها، ما يجعلها مصدر قلق دائم للمنظومات الدفاعية.
وفي حين حققت تركيا تقدمًا لافتًا في تطوير صواريخ “كروز” (التي تتبع مسارًا محاذيًا لسطح الأرض) بفضل خبرتها في مجال الصواريخ المضادة للطائرات والسفن، فإن برنامجها للصواريخ الباليستية ظل غامضًا ومتأخرًا نسبيًّا لفترة طويلة مقارنةً ببرامج دول ذات ظروف مشابهة، مثل الهند وباكستان وإيران، فضلًا عن مصر.
لكنَّ أنقرة، وعلى الرغم من حداثة هذا البرنامج، استطاعت أن تقطع فيه شوطًا معتبرًا، ويُعتقد أنها ركزت على تطوير تقنيات الدقة في التوجيه بفضل صلاتها التكنولوجية بالغرب، وإن كانت قدراتها في المدى ما تزال محدودة نسبيًّا.
تعود محاولات تركيا الأولى في هذا المجال إلى تسعينيات القرن الماضي، عندما لجأت إلى التعاون مع باكستان والصين لتطوير الصواريخ الباليستية، بعد فشل مفاوضاتها لنقل تكنولوجيا نظام الصواريخ المدفعية الأمريكي (M-270 MLRS) إلى مصانعها.
وقد سعت أنقرة منذ ذلك الحين إلى امتلاك التقنيات الحيوية، وإنشاء بنية تحتية وطنية مكتفية ذاتيًا للتصميم والتطوير، فبدأت بإنتاج مرخَّص للصواريخ الصينية WS-1A وWS-1B تحت اسم “قاصِرغا” عام 1997، ثم أبرمت في العام التالي عقدًا مع شركة CPMIEC)) الصينية لاستيراد وتطوير الصاروخ الباليستي قصير المدى (B-611 SRBM).
لاحقًا، دخل إلى الخدمة الصاروخ التركي J-600T Yıldırım، المصمم لمهاجمة الأهداف عالية القيمة مثل منشآت الدفاع الجوي ومراكز الخدمات اللوجستية والبنية التحتية، وتقديم دعم ناري موسّع للمدفعية، ويعتمد تصميمه على الصاروخ الصيني B-611 الذي طورته شركة علوم وصناعة الفضاء الصينية CASIC))، ويبلغ مداه نحو 250 كم في النسخ المحسنة.
وقد كُلِّفت شركة “روكيتسان” التركية بتحسين أدائه ومداه، وتطمح أنقرة إلى تطوير نسخة بمدى يصل إلى 2500 كم، ويُعتقد أن نسخًا عاملة حاليًّا من هذا الصاروخ تغطي مديات 150 و300 كم، ويُدار مساره عبر نظام ملاحة بالقصور الذاتي يوجِّه أوامر التصحيح إلى أجنحته الأربعة المتحركة.
وفي العام 2017، كشفت تركيا عن الصاروخ الباليستي التكتيكي “بورا“، الذي طوَّرته شركة “روكيتسان”، ويبلغ مداه 280 كم، يبلغ قطره 610 ملم وطوله 8 أمتار ووزنه 2.5 طن، وتُعرف نسخته التصديرية باسم “خان”، وقد دخل الخدمة رسميًّا في مايو/أيار 2017، واكتملت تسليماته في العام 2021.
ويضم الصاروخ رأسًا حربيًّا يزن 470 كغم ويتميز بدقة عالية في التوجيه باستخدام أنظمة أمريكية الصنع، وفق مجلة “فوربس”، وقد استُخدم لأول مرة في عملية “المخلب” في العام 2019 ضد أهداف لحزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان العراق.
يُطوَّر صاروخ “بورا” بما يتوافق مع نظام التحكم في تكنولوجيا الصواريخ (MTCR) الذي يحدِّد قيودًا على مدى الصواريخ القابلة للتصدير، وتركيا من الدول الموقِّعة عليه، ويهدف النظام إلى الحد من انتشار الصواريخ القادرة على حمل حمولة تفوق 500 كغم لمديات تتجاوز 300 كم.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وقَّعت شركة “روكيتسان” عقدًا مع إندونيسيا لتزويدها بصواريخ “خان” ونظام دفاع جوي متعدد الطبقات، لتكون هذه المرة الأولى التي تدخل فيها هذه المنظومة الباليستية التركية إلى ترسانة قوة أجنبية.
“تايفون 4” يجذب الأنظار
في إطار سعيها المتواصل إلى تطوير ترسانتها من الصواريخ الباليستية، خطت تركيا خطوة نوعية جديدة عبر تطوير صاروخ “تايفون” (Tayfun)، الذي يُعدُّ أول صاروخ باليستي بعيد المدى تنتجه البلاد.
📌 الصحافة العبرية: “أصبحت #تركيا أقوى دولة مسلمة في المنطقة”، وأشارت إلى قلق “إسرائيل” من تزايد القوة العسكرية والدبلوماسية لأنقرة.
📌 أستاذ في جامعة تل أبيب: “تركيا المجهزة بطائرات F-35 تمثل تحدياً كبيراً لـ “إسرائيل”. حتى #اليونان منزعجة من ذلك”.
📌 قالت صحيفة “معاريف”: “… pic.twitter.com/KiWRWApD28
— نون بوست (@NoonPost) July 7, 2025
وبهذا الإنجاز، انتقلت القوات المسلحة التركية، التي عُرفت منذ التسعينيات بامتلاكها صواريخ باليستية تكتيكية، إلى فئة أعلى من القدرات الباليستية للمرة الأولى في تاريخها. ويشبه “تايفون” من حيث التصميم الهيكلي صاروخ “بورا” الباليستي، لكنه يتفوَّق عليه بمداه الكبير، ليصبح الأطول مدى في الترسانة الصاروخية التركية حتى الآن.
وفي قفزة أكثر تقدمًا، طوَّرت شركة “روكيتسان” نسخة صاروخية جديدة من فئة الصواريخ الفرط صوتية تحت اسم “تايفون بلوك 4″، وهو الأضخم حجمًا والأطول مدى في عائلة “تايفون” حتى الآن، وفق البيانات الرسمية للشركة المطوّرة.
وقد أجرت تركيا اختبارًا رسميًّا لهذا الصاروخ، إذ أغلقت مساحة واسعة من ساحلها على البحر الأسود بطول 500 كلم لإجراء تجربة إطلاق من مطار ريزه–أرتفين، وتمكَّن الصاروخ من إصابة هدفه بدقة قبالة مدينة سينوب الساحلية.
ورسميًّا، كان الكشف العلني عن امتلاك تركيا أول صاروخ باليستي فرط صوتي من إنتاجها المحلي، ضمن معرض الدفاع الدولي IDEF 2025 في إسطنبول الذي عقد في نهاية يوليو/تموز 2025.
يبلغ وزن صاروخ “تايفون بلوك 4” نحو 7 أطنان، وطوله 10 أمتار، ويتراوح مداه بين 1000 و3000 كم، بينما تصل سرعته إلى 5.5 ماخ، ما يضع تركيا ضمن نادي الدول القادرة على إنتاج صواريخ أسرع من الصوت (فرط صوتية).
وتمتاز هذه الفئة بقدرتها على المناورة العالية وصعوبة رصدها واعتراضها بسبب سرعتها الهائلة، ما يجعلها من أبرز أدوات تغيير موازين الحرب الحديثة. كما زُوّد الصاروخ برأس حربي متعدد الوظائف يتيح له ضرب أهداف متنوعة خلال فترة زمنية قصيرة.
وأكدت “روكيتسان” أن “تايفون بلوك 4” سجّل رقمًا قياسيًّا جديدًا في صناعة الدفاع التركية من حيث المدى، دون الكشف عن المدى الدقيق، مشيرة إلى أن الصاروخ قادر على تدمير أهداف استراتيجية شديدة التحصين، من بينها أنظمة الدفاع الجوي ومراكز القيادة وحظائر الطائرات والمنشآت العسكرية الحيوية.
وعلى الرغم من تحفُّظ الشركة عن إعلان تفاصيل دقيقة حول حمولة الصاروخ وأدائه العملياتي، يتوقع الخبراء أن يتضمن تحسينات كبيرة في القدرة على المناورة والتهرب من أنظمة الدفاع الجوي المعادية.
وتجدر الإشارة إلى أن الطراز الأول من صواريخ “تايفون” ظهر في العام 2022، ومنذ ذلك الحين طوَّرت “روكيتسان” أربع نسخ تراوحت بين قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى.
وجاء هذا التطور متزامنًا مع تصريحات لأردوغان حول نية بلاده شراء صواريخ باليستية يصل مداها إلى 1000 كم، ليُكشف بعدها عن تطوير صاروخ “جينك” متوسط المدى، توازيًا مع دعوة الرئيس التركي مطلع 2024 إلى تسريع إنتاج الصواريخ الفرط صوتية بعيدة المدى، ويعكس هذا التوجه حرص أنقرة على توسيع قدراتها الصاروخية بسرعة، مستفيدة من قاعدة صناعية دفاعية متطورة مكَّنتها من تحقيق مستوى مرتفع من الاكتفاء الذاتي في إنتاج الأنظمة القتالية المتقدمة، ليغدو برنامجها الصاروخي واقعًا استراتيجيًّا راسخًا، لا مجرد طموح مستقبلي.
التغيرات المتسارعة في الشرق الأوسط
لا يمكن فصل اندفاعة تركيا نحو الاستثمار المكثف في قاعدة تصنيعها الحربي، وتعزيز ترسانتها العسكرية، عن البيئة الإقليمية المليئة بالتحولات المتسارعة التي يشهدها الشرق الأوسط منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023. فبعد سنوات من الثبات النسبي في معادلات النفوذ، دخلت المنطقة طورًا جديدًا من الصراعات المفتوحة والمواجهات المباشرة، ما دفع أنقرة إلى اتخاذ خطوات جريئة لتعزيز قدرتها على تحصين نفسها داخليًّا ورفع أسهمها ضمن المعادلات الإقليمية الجديدة قيد التشكل.
وفي هذا السياق، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده اتخذت خطوات مهمة في مجال صناعة الدفاع، مشيرًا إلى أن مخزون تركيا من الصواريخ التي يتجاوز مداها 800 كم سيتم تعزيزه، وأن العمل جارٍ على تسريع تطوير الصواريخ التي يتجاوز مداها 2000 كم، مؤكّدًا نجاح العديد من المشاريع الدفاعية الجارية.
وأوضح أردوغان في هذا الإطار قائلًا: “كانت كلمات أجدادنا الحكيمة توجهنا على مدار 22 عامًا: استعد للحرب إذا أردت السلام. استثماراتنا في صناعة الدفاع ليست للتحضير للحرب، بل للحفاظ على السلام والدفاع عن الاستقلال والمستقبل”، مشددًا على أن تركيا أصبحت مصدر ثقة لحلفائها، وأنها مصمِّمة على حماية وطنها بكل الوسائل الممكنة.
وقد شكَّلت المواجهاتُ المتعددةُ التي تفجَّرت في الإقليم بعد عملية “طوفان الأقصى” نقطةَ تحوُّل حاسمةً في حسابات أنقرة، بدءًا من حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، مرورًا بالهجمات الإسرائيلية على “حزب الله” في لبنان، وصولًا إلى المواجهة الإيرانية–الإسرائيلية المباشرة. وقد منح كلُّ ذلك تركيا حافزًا إضافيًّا لإثبات قدرتها على مواجهة التحديات الناشئة ضمن بيئة شديدة الاستقطاب وسريعة التحول، في ظل نظام دولي بات التوتر والتشنج سمتهما الغالبة.
وفي السياق ذاته، قد أتاح سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وانتقال مقاليد الحكم إلى نظام جديد حليف لأنقرة، لتركيا فرصة تاريخية لتوسيع حضورها الإقليمي، وهو ما يقتضي –من وجهة نظر صناع القرار الأتراك– بناء استراتيجيات متوازية سياسيًّا وعسكريًّا لتثبيت هذه المكاسب وتحقيق قدرة مستدامة على مواجهة التحديات واستثمار الفرص.
ومن خلال تطوير أنظمة صواريخ باليستية متقدمة، مثل “تايفون”، تسعى تركيا إلى خلق قوة ردع استراتيجية تضاهي القدراتِ الصاروخيةَ الإيرانية، بما يمنحها نفوذًا أكبر في معادلات التوازن العسكري الإقليمي، خاصةً في وقت تتعرض فيه إيران لضغوط متزايدة جراء الضربات التي أضعفت نفوذ حلفائها في المنطقة، والضربة الإسرائيلية–الأمريكية التي استهدفت برنامجها النووي، الأمر الذي يفتح المجال أمام تركيا لتعزيز موقعها الجيوسياسي واستثمار المساحات المتاحة.
علاوة على ذلك، يأمل صنَّاع القرار في أن يتيح التقدم التركي في مجال الصواريخ الباليستية تقديم أنقرة كبديل استراتيجي محتمل للدول التي كانت تعتمد على إيران لموازنة القوى الإقليمية، خصوصًا مع ازدياد اعتماد تركيا على صناعاتها الدفاعية المحلية وقدرتها المتنامية على تصدير هذه الأنظمة لشركاء محتملين، ما يعزِّز موقعَها بوصفها فاعلًا رئيسيًّا في سباق التسلح الإقليمي.
في المقابل، ومع ارتفاع منسوب التوتر في العلاقات التركية–الإسرائيلية منذ اندلاع حرب الإبادة في غزة، ووصوله إلى مستويات غير مسبوقة مع تكثيف الغارات الإسرائيلية في سوريا الهادفة إلى تقويض قدرة النظام الجديد على بسط سيطرته على كامل الأراضي السورية، بات التطور الصاروخي التركي محط اهتمام وقلق واضح في الأوساط الإسرائيلية، فقد خصَّص الإعلام الإسرائيلي تغطية واسعة للإعلان عن صاروخ “تايفون بلوك 4″، واصفًا التطور المتسارع في القدرات الهجومية والدفاعية التركية بأنه “مثير للريبة والقلق”.
وفي هذا الإطار، قال الباحث والمحلل الإسرائيلي المتخصص في الشأن التركي، إيتان كوهين يانروجاك، إن “الصاروخ التركي الجديد إن أُطلق من أقصى جنوبي تركيا فبإمكانه الوصول إلى بئر السبع”، مضيفًا: “يجب أن نقلق، فتركيا تعرف كيف تردع، وهي تُظهر القوة”.
القبة الفولاذية والملاجئ النووية.. أين تتجه العقيدة الدفاعية التركية؟
وأوضح يانروجاك، في حديث للقناة 14 الإسرائيلية، أن “تركيا لم تعد تقف مكتوفة الأيدي”، مضيفًا: “إنهم يستعرضون صاروخًا باليستيًّا جديدًا، ويتحدثون علنًا عن استخلاص الدروس من المواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل”. وتابع: “بالنسبة إليهم، هذا هو الوقت المناسب لامتلاك القوة واستعراضها، بالأمس فقط أقيم عرض عسكري كبير في تركيا كُشف فيه عن الصاروخ الجديد (تايفون بلوك 4)، مع رسالة واضحة: “تركيا مستعدة لأي سيناريو”.
بين طموح النفوذ واستحقاقات الصدام المحتمل
يُظهر البرنامج التركي للصواريخ الباليستية، ومعه مجمل جهود توطين صناعة السلاح وتعزيز القدرات الدفاعية والهجومية لأنقرة، أنه لا ينفصل عن مشروع أوسع تسعى من خلاله تركيا إلى ترسيخ موقعها بوصفها قوة مركزية في الشرق الأوسط، مستندة إلى مقاربة هجينة تجمع بين أدوات الردع العسكري وصلابة القاعدة الصناعية الدفاعية من جهة، وبين توسيع النفوذ الجيوسياسي وفرض معادلات تأثير جديدة من جهة أخرى.
غير أن هذه المقاربة، التي تبدو في ظاهرها تعبيرًا عن طموح مشروع لتقليص الفجوة مع القوى الإقليمية والدولية، تَجري ضمن بيئة مشبعة بصراعات النفوذ المحتدمة، حيث يشهد الإقليم بالفعل سباقًا محمومًا على تزعم موازين القوة، وصل في بعض تجلياته إلى مستوى الاشتباك المباشر.
وتتعمَّق تعقيدات هذا المشهد في ظل الدعم الأمريكي اللامحدود لمساعي “إسرائيل” إلى تكريس هيمنتها الإقليمية، ما يضع الطموحات التركية وجهًا لوجه أمام مشاريع نفوذ منافِسة، ويجعل من مشروعها الصاروخي وغيره من مبادرات التسلُّح الوطنية ركيزة أساسية في أي محاولة لمجاراة هذا التحدي.
View this post on Instagram
وفي حال استمرار تسارع التحولات الإقليمية بهذا النسق، قد تجد تركيا نفسها أمام احتمالات مواجهة فعلية، سواءٌ في الساحة السورية –التي تشكِّل الامتداد الجيوسياسي الحيوي لحدودها الجنوبية– أو عبر محاولات العبث بورقة الأقليات، ولا سيما التحالفات العابرة للحدود مع المكوِّن الكردي، وهو ما يمسُّ عصبًا أمنيًّا واستراتيجيًّا شديد الحساسية بالنسبة إلى أنقرة.
من هذا المنطلق، لا يكمن التحدي الأكبر أمام تركيا فقط في تطوير أدوات القوة، بل في الاستعداد الجدي للتعامل مع تداعيات استخدامها في بيئة إقليمية قابلة للاشتعال، والتوفيق بين طموحات النفوذ وحسابات الاستقرار، بما يجنِّبها الانزلاقَ إلى صراعات استنزافية قد تُقوِّض المكاسبَ التي راكمتها في خلال العقدين الماضيين.