اختتم ترامب ولايته الأولى بعلاقة شبه مقطوعة مع السلطة الفلسطينية، عمد خلالها إلى تهميش دورها في أي خطوة تتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة، والتضييق على مساعداتها المالية، وصولًا إلى قطع العلاقات الدبلوماسية معها. وبرغم ما قدمته السلطة من تنازلات، لم تعد شريكًا مرغوبًا به في مسار “السلام”. ومع ذلك، تبدو الولاية الحالية – التي لم يمضِ على بدايتها سوى أشهر قليلة – أشد توترًا؛ إذ تتجه الإجراءات الأمريكية ضد السلطة ورجالاتها نحو محاولة سحب صفتها التمثيلية الدولية، ولا يمكن قراءة هذه التطورات بمعزل عن حرب الإبادة المدمّرة في غزة، ولا عن مخططات الضم المتسارعة في الضفة الغربية تحت مظلة مباركة أمريكية.
ما حدود علاقة ترامب بالسلطة الفلسطينية؟ وكيف أسهم التهميش الممنهج في تقزيم دورها على الأرض؟ ثم كيف حاولت السلطة تدارك الموقف وإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ وما انعكاسات غياب العلاقة الدبلوماسية بين الطرفين على الفلسطينيين؟ وأي دلالة يحمل وصم السلطة بـ”الإرهاب”؟ هل يسعى ترامب إلى سحب صفتها التمثيلية والاكتفاء بتحويلها إلى مكتب تنسيق أمني؟ يحاول هذا المقال أن يجيب عن هذه الأسئلة وغيرها.
التهميش الممنهج: أول الرقص حنجلة
في الأشهر الأولى من فترته الرئاسية السابقة، جمع ترامب علاقات ودية مع محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، كان عنوانها تفاهمات حول دور السلطة الأمني في الضفة الغربية، غير أن إعلان ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، في اعتراف ضمني بحق “إسرائيل” في المدينة المقدسة كعاصمة لها، أدى إلى توتر العلاقات بين الطرفين، إذ رفضت السلطة الخضوع لهذه الخطوة ومواصلة العلاقة بناءً عليها، ما أسفر عن قطع القنوات الدبلوماسية بين الجانبين، وإغلاق الممثلية الفلسطينية في واشنطن، إضافة إلى وقف المساعدات والتمويل الأمريكي لمؤسسات السلطة.
لكن سرعان ما تغيّر الحال؛ إذ على مدار أعوام حكم ترامب لم تكن السلطة الفلسطينية شريكًا في مخططاته، سواء تلك المتعلقة بالضفة الغربية (صفقة القرن) أو بقطاع غزة (مشروع ريفيرا غزة)، بل على العكس من ذلك، تعمّد ترامب خلال فترتيه الرئاسيتين تجاوز مبدأ “حل الدولتين” الذي يضمن للسلطة الفلسطينية استمراريتها ودورها الوظيفي والتمثيلي، مؤكدًا أن دولة فلسطينية تعني “مكافأة للإرهاب”، في إشارة إلى نفيه إمكانية تتويج جهود السلطة بالاعتراف الدولي.
ففي فترته الرئاسية الأولى، دقّت صفقة القرن المسمار الأول في نعش السلطة الفلسطينية؛ فلا أرض ولا سيادة ولا استقلالية ولا مبرر وجود، ولم يكن الدور الخدماتي المحدود للسلطة وفقًا لصفقة القرن فخًا مخبأً، بقدر ما كان مطروحًا علنًا على طاولة واشنطن؛ إذ طرحت ما يعرف بخطة “السلام والازدهار” دورًا ضيقًا للسلطة الفلسطينية، تعمل فيه كوكيل أمني لملاحقة جيوب المقاومة في الضفة، من دون امتلاك سلاح أو حكم ذاتي أو سيطرة على الحدود البرية أو البحرية أو الجوية.
الصفقة المستوحاة من خطة “القطرات” التي وضعتها المنظمة الصهيونية العالمية عام 1979 لم تتضمّن أي تصور لدورٍ فلسطيني تمثيلي آنذاك، كما لم تشهد تعديلًا جوهريًا عند إعادة طرحها خلال فترة ترامب الرئاسية الأولى؛ إذ تحوّلت الضفة الغربية بموجبها إلى جزر معزولة تربطها جسور وأنفاق تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية، وبأقل التكاليف، بحيث يتولى الفلسطينيون خدمة أنفسهم بدلًا من أن يتحمّل المحتل مسؤولياته تجاه ظروف معيشتهم وفقًا لقواعد القانون الدولي، في ما وُصف بأنه أرخص احتلال عرفه التاريخ المعاصر.
أما ريفيرا غزة، فلم يُبقِ للسلطة أي أمل بحكم القطاع في “اليوم التالي للحرب”، وكأن غزة قد سُلخت عن الأرض الفلسطينية التي تطالب بها السلطة في المحافل الدولية. لقد بدا المشروع دعوةً صريحة للتطهير العرقي ونزع الصفة العربية عن الأرض، وتكريس ما يُعرف بحل الدولة الواحدة، وهو الطرح الذي نال إعجاب ترامب وتقدّم عنده على حل الدولتين، إذ اعتبر الدولة الواحدة هي “إسرائيل” وحدها، متسعة بقدر ما تسمح به الجغرافيا، ومنفردة بالحكم والسيادة، وآمنة بسواعد وكلائها العرب داخل فلسطين وفي محيطها العربي.
هدفها المعلن “القضاء على مخالفي القوانين” ولكنها تطارد مجموعات المقاومـ.ـة بشكل خاص.. ما الدوافع وراء العملية الأمنية التي تشنها السلطة الفلسطينية في #جنين؟ pic.twitter.com/rCBjuw7Vj1
— نون بوست (@NoonPost) December 16, 2024
وقد قاومت الإدارات الأمريكية المتعاقبة طويلًا مقترحات السلطة بحكم غزة، في مقابل تمسك واشنطن بدعمها الشكلي لحل الدولتين. وكان آخر تلك المواقف رفض مقترحات السلطة بشأن “اليوم التالي” لحرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع، حيث فضّلت واشنطن الإبقاء على حالة من عدم الاستقرار والعزلة الدولية لقطاع غزة في ظل حكومة إسلامية يرفضها الغرب عامة، بدلًا من منح مزيد من الأرض لجهة تحظى بنوع من التمثيل الدولي وتلقى قبولًا في الأوساط الأوروبية والعربية. كل ذلك جرى تحت ذريعة “فساد أجهزة السلطة” أو “تحريضها الخفي على إسرائيل”، وهي شمّاعة دأبت واشنطن على استخدامها، مهما قدّمت السلطة من فروض الطاعة ومهما زادت في تعاونها وتسليمها.
الدول العربية هي الأخرى تجاوزت السلطة الفلسطينية في تحركاتها المتعلقة بحكم قطاع غزة بعد الحرب؛ فمن تغيّب قوى فاعلة مثل الإمارات والسعودية عن اجتماعات القادة العرب التي حضرتها السلطة الفلسطينية – كاجتماع فبراير الذي تلا إعلان ترامب عن خطة الريفيرا – إلى عقد اجتماعات تستثني السلطة لبحث مستقبل القطاع، مثل اجتماع السعودية وقطر ومصر والإمارات عقب الإعلان نفسه، وصولًا إلى خطط عربية لإدارة القطاع بشكل مؤقت كما في خطة مصر، بدا واضحًا أن أيًا من شركاء واشنطن في المنطقة لم يكن معنيًا بوجود السلطة أو بلعبها دورًا مؤثرًا في إدارة القطاع.
“الإمارتيون لا يريدون تولي محمود عباس إدارة غزة”.. محلل إسرائيلي يكشف عن خطة الإمارات لليوم التالي لما بعد الحرب على قطاع #غزة pic.twitter.com/FxbC3rfvd5
— نون بوست (@NoonPost) January 11, 2025
وعلى خلاف بايدن، لم يهتم ترامب يومًا بإصلاح السلطة الفلسطينية، بل سعى لاستخدامها كبيدق أمني في الورقة الفلسطينية، الأمر الذي دق نواقيس الخطر لدى السلطة؛ إذ إن تهميش ترامب لها في خطة الريفيرا، ومن ثم تهميش حلفائه من القوى السنية في المنطقة – وخاصة المملكة العربية السعودية – دفع السلطة إلى تحرك عاجل، فما إن عقدت الجامعة العربية قمتها الطارئة حتى أعلن محمود عباس عن تعيين حسين الشيخ، المرغوب أمريكيًا، نائبًا له، إلى جانب إصداره عفوًا رئاسيًا عن المفصولين من حركة فتح وعلى رأسهم محمد دحلان، المرغوب خليجيًا. وهي خطوة لم تثنِ ترامب عن المضي في مخططاته التي استثنت السلطة جملة وتفصيلًا من الحكم الفعلي والتمثيل الدولي.
الميل باتجاه الريح
ما إن لاحت في الأفق احتمالية عودة ترامب إلى البيت الأبيض قبيل الانتخابات الأمريكية الأخيرة، حتى بدأت السلطة الفلسطينية سلسلة خطوات لاستعادة ثقته وتلافي الفجوة التي حدثت بين الطرفين إبان فترته الرئاسية الأولى، فقد شنت السلطة حملة قمع عنيفة ضد مخيمات طوباس وجنين شمال الضفة الغربية في أواخر عام 2024، في محاولة للجم المقاومة الفلسطينية المتنامية هناك.
كما أعلن محمود عباس في فبراير الماضي امتثال السلطة لقانون تايلور فورس لعام 2017، الذي يمنع الكونغرس من تمويل السلطة طالما تستمر بدفع مخصصات لمرتكبي ما تصفه واشنطن بـ”جرائم إرهابية” ضد الإسرائيليين، سواء كانوا أسرى أو عوائل شهداء نفذوا عمليات ضد الإسرائيليين، وقد شكلت هذه المسألة نقطة خلاف محتدمة بين السلطة والإدارات الأمريكية المتعاقبة، جمهورية كانت أم ديمقراطية.
وبينما كانت السلطة تخشى في السابق رد الفعل الشعبي على قطع مخصصات الأسرى وعوائل الشهداء، توصّلت أخيرًا قبيل تولي ترامب ولايته الثانية إلى خطة تقضي بالامتثال للمطالب الأمريكية، فأعلنت، مع مطلع الشهر الأول لترامب في البيت الأبيض، نقل نظام الدفع المخصص للأسرى والشهداء إلى برنامج الرعاية الاجتماعية القائم على الحاجة المالية، لنزع البعد الوطني والسياسي عن هذه المخصصات والإبقاء عليها كجزء من الخدمات الاجتماعية للنظام الحاكم.
شريك في العدوان.. كيف مهّدت السلطة الفلسطينية لاجتياح الاحتلال شمال #الضفة_الغربية؟ pic.twitter.com/2hBZDaXr6j
— نون بوست (@NoonPost) March 6, 2025
وامتثلت السلطة بالحرف لمتطلبات قانون تايلور فورس، التي تفرض إدانة علنية ومباشرة لما تسميه واشنطن “العمليات الإرهابية”، ففي آخر عملية نفذتها المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي عملية القدس التي وقعت في سبتمبر الجاري، سارعت السلطة إلى إدانة ما وصفته بالهجوم الإرهابي على المدنيين.
لقد تعلمت السلطة درسها القاسي من أزمة نقل السفارة عام 2017؛ لذلك اختلف رد فعلها على خطة ترامب لليوم التالي للحرب، المعنونة بـ”ريفيرا غزة”، فلم تلجأ إلى الرفض المباشر والتحدي، بل اختبأت وراء موقف عربي جماعي رافض، على أمل ألا تضطر إلى قطع العلاقات الثنائية بشكل كامل إذا ما أصر ترامب على تنفيذ خطته. ومن جهة أخرى، ظلّت تحركاتها مع إدارة ترامب بعد إعلان خطته تجري في الظل، حتى لا تُتّهم بالتواطؤ المباشر.
الدبلوماسية المفقودة: محو الفلسطيني
لم تكن خطوة إغلاق الممثلية الفلسطينية في واشنطن وقطع العلاقات الدبلوماسية مع السلطة إبان فترة حكم ترامب الأولى مجرد فركة أذن على رفض صفقة القرن أو الاعتراض على خطة نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس؛ إذ ما إن عاد ترامب إلى البيت الأبيض حتى أغلق مكتب الخدمات الأمريكي (OPA) الذي افتتحه بايدن لخدمة الفلسطينيين في القدس الشرقية، وضمّه إلى سفارة بلاده في تل أبيب، في إمعان بقطع العلاقات الدبلوماسية ونفي الصفة الدولية عن الفلسطينيين.
وقد انعكس غياب القناة الدبلوماسية بين واشنطن والسلطة على الفلسطينيين في الداخل والخارج على السواء. فإدارة ترامب لم تُعر أي اعتبار لسيادة فلسطينية، بل رفضتها جملة وتفصيلًا واعتبرتها تهديدًا مباشرًا للسيادة والأمن الإسرائيليين. وتعاملت مع الفلسطينيين كمعدومي الجنسية، في نفي فعلي لدور السلطة والمنظمة، وسحب لبساط اتفاق أوسلو الذي ما زالت السلطة تتمسك به، وقد تجلّى ذلك في سلسلة من التحركات الداخلية الأمريكية والدبلوماسية وحتى في التصريحات الرئاسية.
• قررت إدارة ترامب تعليق منح التأشيرات لحاملي جواز السفر الفلسطيني، للعلاج أو العمل أو الالتحاق بالجامعات.
• أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية قبل يومين إلغاء تأشيرات سفر مسؤولين فلسطينيين أبرزهم رئيس السلطة محمود عباس، لمنعهم من حضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في… pic.twitter.com/6Qt5rWeWiO
— نون بوست (@NoonPost) September 1, 2025
فقد أزال ترامب من موقع وزارة الخارجية الأمريكية مسمى “الأراضي الفلسطينية”، ولم يعد بإمكان الفلسطينيين ذكرها في طلباتهم أو معاملاتهم الرسمية الأمريكية. كما مُنع استخدام المصطلح في المساعدات أو التحركات السياسية والدبلوماسية الداخلية. وفي المقابل، رفض ترامب بشكل قاطع حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وتمسك بحل التوطين في البلدان التي لجؤوا إليها.
مؤخرًا، جاءت خطوة إلغاء التأشيرات الدبلوماسية الممنوحة لممثلي السلطة الفلسطينية لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة المزمعة في نيويورك خلال سبتمبر الجاري، لتؤكد عدم رغبة إدارة ترامب في تمتع السلطة بصفة تمثيلية دولية مؤثرة أو وقوفها على قدم المساواة مع سلطات الحكم في العالم الحر.
رئيس السلطة الفلسطينية محمو عبّاس: عملية 7 أكتوبر التي نفذتها حمـ،ـاس بقرار فردي، وفرت لاسرائيل الذرائع والمبررات لكي تهاجم غزة وتدمرّها. pic.twitter.com/m8kmZW7uo0
— نون بوست (@NoonPost) May 16, 2024
أما التبريرات التي ساقها وزير خارجية ترامب، ماركو روبيو، لإلغاء التأشيرات فتبدو مفرغة من مضمونها، باستثناء كونها استهدافًا للتحركات الدولية الرامية للاعتراف بالدولة الفلسطينية، فمن اشتراطه إدانة ما سماه “الإرهاب” بما في ذلك عملية السابع من أكتوبر، إلى المطالبة بتغيير المناهج الفلسطينية، وصولًا إلى وقف التحركات القانونية في محكمة الجنايات الدولية، يتضح أن روبيو تجاهل حقيقة أن السلطة كانت قد سبقت بهذه الخطوات. فالإدانة لطوفان الأقصى ولسائر عمليات المقاومة في الضفة والقطاع باتت علنية ومتكررة على ألسنة رجالات السلطة. بل إن المقاومة نفسها تحوّلت إلى كبش فداء وأساس لتحركات السلطة في أوروبا لكسب اعتراف بالدولة الفلسطينية يضمن بقاءها في الحكم؛ إذ أدان محمود عباس في رسالته إلى ماكرون في حزيران الماضي عملية السابع من أكتوبر، وطالب بالإفراج الفوري عن “الرهائن”، في دلالة واضحة على نبذ سلطة رام الله لما يعتبره الغرب “إرهابًا”.
المناهج الفلسطينية الحالية تكاد تخلو من آيات الجهاد والشهادة وسير المناضلين، خاصة بعد حملة التعديلات التي أجرتها السلطة بين عامي 2016 و2017 مع بدايات الضغوط وقطع التمويل من إدارة ترامب الأولى والكونغرس حينها. أما القضية المرفوعة أمام محكمة الجنايات الدولية فهي مجمّدة منذ وقت طويل، ولم تتحرك قيد أنملة منذ تولي كريم خان منصب المدعي العام خلفًا لفاتو بنسودا. والسلطة نفسها لم تعد تعتبر هذه القضية ضمن جدول أولوياتها، إذ تخوض الآن معركة وجودية في مواجهة إدارة ترامب الحالية.
يبقى المبرر الأخير الذي اعتبره وزير خارجية ترامب، ماركو روبيو، مخالفًا للقوانين والأعراف الأمريكية ومكافئًا للإرهاب، وهو مساعي السلطة للحصول على اعتراف بدولة فلسطينية مستقلة من قبل حكومات غربية وأوروبية بارزة مثل كندا وأستراليا وبريطانيا وفرنسا، غير أن السلطة تدرك أن التراجع عن هذا المسار سيكون بمثابة إطلاق النار على قدميها، وسحب آخر أوراق بقائها في الحكم والتمثيل الدوليين.
رغم ذلك، فإن تحرك روبيو ذاته يتعارض مع الاتفاق الموقع بين واشنطن والأمم المتحدة عام 1947، والذي يُلزم الولايات المتحدة بمنح تأشيرات دخول لأراضيها للوفود الدبلوماسية بغرض حضور اجتماعات الجمعية العامة في مقرها بمدينة نيويورك.
صفة الإرهاب: القضاء في خدمة ترامب
لم تتوقف إدارة ترامب عن محاصرة السلطة الفلسطينية وسحب البساط من تحت قدميها منذ مطلع العام الحالي؛ إذ تظافرت معها محكمة النقض الأمريكية، أعلى سلطة قضائية في البلاد، التي يسيطر عليها الجمهوريون بواقع 6 قضاة مقابل 3 ديمقراطيين، ففي العشرين من حزيران الماضي، أصدرت المحكمة بالإجماع قرارًا يتيح للرعايا الأمريكيين المتضررين من عمليات المقاومة في “إسرائيل” والأراضي المحتلة مقاضاة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير على “أفعال الإرهاب”.
دعا وزير الاحتلال إيتمار بن غفير، عبر منصة “إكس”، إلى تفكيك السلطة الفلسطينية، واصفًا إياها بـ”الكيان الإرهابي”. وأكد بن غفير أنه في حال لم يتم تفكيك السلطة الفلسطينية في الوقت المناسب، فإن “إسرائيل” قد تستيقظ متأخرة كما حدث في غزة. pic.twitter.com/ZJYOokxKCT
— نون بوست (@NoonPost) September 19, 2025
جاء قرار المحكمة في قضية فِلد ضد منظمة التحرير الفلسطينية متماشيًا مع قانون الكونغرس لعام 2019 في ظل إدارة ترامب الأولى، وهو قانون “تعزيز الأمن والعدالة لضحايا الإرهاب” (PSJVTA)، الذي يمنح المحاكم الأمريكية صلاحية النظر في القضايا المرفوعة ضد السلطة والمنظمة والمتصلة بأفعال الإرهاب المنسوبة للفلسطينيين، بالإضافة إلى قانون تايلور فورس، الذي يحرم السلطة من بعض التمويل بسبب دفعها مخصصات الأسرى والشهداء، وسياسة “ادفع من أجل القتل” التي استحدثتها واشنطن لمعاقبة السلطة على تحويل تلك المستحقات.
المحكمة غضّت الطرف عن مسألة ما إذا كانت السلطة الفلسطينية تمثل طرفًا دوليًا يتمتع بالسيادة على أراضيه وشعبه، وهو انسجام مع السياسة الأمريكية الرافضة للبت في هذه المسألة، لكنها في الوقت نفسه لم تصف السلطة بـ”منظمة إرهابية أجنبية” (FTO)، وهو توصيف يترتب عليه قطع كامل للعلاقات معها، تاركةً بذلك هامشًا للإدارة الأمريكية للتحرك وفق ما يخدم مصالحها ومصالح “إسرائيل” مع السلطة.
الحكم جاء مفاجئًا في توقيت بالغ الحساسية، ومهّد لقرار السيناتور ماركو روبيو بحرمان وفد السلطة من الحصول على تأشيرات لدخول الولايات المتحدة لحضور اجتماعات الأمم المتحدة. والمفارقة أن المحكمة لطالما نأت بنفسها عن إنصاف الضحايا الفلسطينيين أو المؤيدين للحق الفلسطيني من حاملي الجنسية الأمريكية، بحجة أن هذه القضايا تخرج عن صلاحياتها وتندرج ضمن أعمال السيادة التي تختص بها الإدارة الأمريكية دون السلطة القضائية. إلا أن الحكم الأخير شكّل إقرارًا ضمنيًا بالسلطة ككيان يقوم بأعمال إرهاب، وإن لم يُسمِّها بذلك علنًا ومباشرة.
التنسيق الأمني مقدس عند الجميع
لا تخلط واشنطن الأوراق؛ فالدور الأمني للسلطة الفلسطينية يظل محوريًا بالنسبة لترامب، وهو متجه بشدة لتقديمه على ما سواه من أدوار تؤديها السلطة في الساحة الفلسطينية، فمن جهة، هناك ورقة التمويل الأمريكي التي— حتى في أحلك ظروفها إبان فترة إدارة ترامب الأولى—لم تتوقف عن تغذية أجهزة الأمن الفلسطينية، ففي عام 2018، قطع ترامب كافة المساعدات الأمريكية لمؤسسات السلطة الأخرى، بما فيها 230 مليون دولار مخصصة للتنمية الاقتصادية في الضفة والقطاع، و25 مليون دولار مخصصة لمستشفيات القدس الشرقية، و360 مليون دولار كانت موجهة لوكالة الأونروا، بينما أبقى التمويل موجَّهًا للأجهزة الأمنية.
حتى بعد أن أعلن ترامب، في فبراير الماضي خلال فترته الثانية، تجميد المساعدات الخارجية الأمريكية وبرامج الـUSAID عالميًا، بما يشمل مخصصات الأجهزة الأمنية الفلسطينية، واصلت واشنطن تدفق الأموال والتدريبات والمعدات إليها عبر قنوات بديلة. فقد تقدمت وكالة المخابرات المركزية (CIA) لتأمين التمويل، فيما تابعت وزارة الخارجية الدعم من خلال برنامج مكافحة المخدرات وإنفاذ القانون (INCLE). وهذه القنوات جرى استخدامها، بناءً على طلب إسرائيلي، في كل مرة قطعت فيها واشنطن مساعداتها الموجهة للشعب الفلسطيني ومؤسساته وخطط التنمية والبنية التحتية والبرامج الصحية والتعليمية، ليظل التمويل الجانبي يتدفق إلى أجهزة الأمن بهدف حصـر دور السلطة في الجانب الأمني فقط.
ومن جهة أخرى، هناك التدريب والإشراف الأمريكي المباشر على هذه الأجهزة، والذي يقوده مكتب المنسق الأمني الأمريكي، الذي أُنشئ في بدايات رئاسة محمود عباس خلال إدارة بوش. وقد لعب هذا المكتب، إلى جانب مجلس الأمن القومي الأمريكي، دورًا رئيسًا في تنسيق العمليات العسكرية التي شنتها السلطة على مخيمات جنين وطوباس مطلع العام الجاري. ورغم تهديدات إدارة ترامب بإلغاء المكتب ضمن سياسة تهميش السلطة، تراجعت مؤخرًا عن الخطوة وأسندت مهمة متابعته إلى مايك هاكابي، سفير ترامب لدى “إسرائيل”، بدلًا من وزير الخارجية ماركو روبيو كما كان الحال منذ 2005. هذا التغيير شكّل إشارة واضحة على ضم السلطة كجهاز أمني ملحق بإسرائيل، بدلًا من التعامل معها كطرف ند في المعادلة أمام الوسيط الأمريكي.
ورغم تصاعد وتيرة العمليات العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية، ما زالت واشنطن تسعى لتمكين الدور الأمني للسلطة الفلسطينية، لإدراكها أن بقاء هذا الدور على المدى الطويل هو مفتاح استقرار الضفة الغربية وضمان أمن إسرائيل.