في ربيع 2003، شاهد العالم سقوط بغداد تحت وقع القصف الأمريكي بذريعة أسلحة دمار شامل لم يُعثر عليها أبدًا، لكن المبرّر أطلق رصاصة الرحمة على نظام صدام حسين، وفتح أبواب جحيم جديد في الشرق الأوسط.
اليوم، بعد أكثر من عقدين، يعود شبح غزو العراق ليخيّم فوق سماء فنزويلا، حيث أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تدوير منطق مشابه، متحدثًا عن “مليارات الدولارات من المخدرات تتدفق إلى أمريكا من فنزويلا”، ومشككًا في شرعية انتخاب الرئيس نيكولاس مادورو.
مادورو لم يتأخر في الرد، واصفًا الاتهامات بأنها “كذبة كتلك التي بررت غزو العراق”، ومحذّرًا جمهوره من الوقوع في فخ التاريخ المعاد، لكنه في الوقت نفسه كان يعترف ضمنيًا بأن بلاده تقف في مواجهة مفتوحة مع قوة عظمى قد تكرر التاريخ إذا استدعت مصالحها ذلك.
تبدو التصريحات للوهلة الأولى مجرد شعارات في مشهد سياسي مكتظ بالشعارات، لكنها في نظر خصوم واشنطن ليست إلا تكرارًا لسيناريو مألوف: صناعة عدو، وصياغة ذريعة، ثم تعبئة العالم خلف حرب يُراد تقديمها كـ”تحرير”، وهنا يبرز السؤال الحتمي: هل تمضي فنزويلا على خطى العراق، أم أن قواعد اللعبة ستُكتب هذه المرة بطريقة مختلفة؟
جذور الصراع
لا يمكن فهم الأزمة الراهنة دون العودة إلى جذورها؛ فمنذ استقلال فنزويلا عن إسبانيا في القرن التاسع عشر بقيادة سيمون بوليفار، حملت إرثًا تحرريًا ومعاداة متجذرة للهيمنة الخارجية، لكنها ورثت أيضًا لعنة الجغرافيا التي جعلتها في قلب الصراع الجيوسياسي وقريبة بما يكفي لتصنّف دائمًا ضمن “حديقة أمريكا الخلفية”.
ومع اكتشاف النفط مطلع القرن العشرين، تحولت البلاد إلى لاعب محوري، وبحلول الخمسينيات صارت أكبر موردي النفط لواشنطن، فيما سيطرت شركات الطاقة الأمريكية الكبرى على ثروتها، وبدلاً من أن تجلب العائدات الضخمة الاستقرار، فتحت الباب أمام تدخلات خارجية متكررة، إذ كلما ارتفعت أسعار النفط، ازدادت شهية واشنطن لإبقاء كراكاس تحت نفوذها.
ومع صعود هوغو تشافيز عام 1999، جاء التحول الحاسم، فقد تحدى علنًا الهيمنة الأمريكية بخطاب شعبوي، فأمّم شركات النفط، وطرد بعض الشركات الأجنبية، وأعاد هيكلة القطاع، مركزًا سياساته على الداخل بدلاً من الأسواق الخارجية، وهو ما اعتبرته واشنطن تمردًا على “القواعد غير المكتوبة” التي حكمت العلاقة لعقود.
ولا يمكن إغفال أن أحد جذور الخلاف مع واشنطن كان توجه تشافيز الاشتراكي، واقترابه من خصومها التقليديين مثل روسيا والصين وإيران وكوبا، إضافةً إلى توطيد صلاته مع العراق وليبيا، وهو ما زاد من قلق الولايات المتحدة ومخاوفها.

من هنا بدأت جذور الصراع المباشر، إذ رأت واشنطن في تشافيز تهديدًا استراتيجيًا في منطقة تقليديًا تحت سيطرتها المطلقة، لذلك، لم تتوقف محاولات لإضعافه، من دعم الانقلاب الفاشل عام 2002 إلى تشديد العقوبات الاقتصادية.
وبعد رحيله، سار مادورو على خطاه، وورث المواجهة مع واشنطن، لكنه واجه أزمات اقتصادية وانقسامات اجتماعية وتراجع أسعار النفط، ومع ذلك حافظ على خطاب التحدي، مستندًا إلى دعم روسيا والصين وإيران.
ومع وصول ترامب، فرضت واشنطن عقوبات مشددة قلصت صادرات النفط، ودَفعت فنزويلا لتعزيز تجارتها النفطية مع الصين، وحين فشلت العقوبات في إزاحة مادورو، دعمت انقلاب 2019، وأعلنت خوان غوايدو رئيسًا، ولكن سرعان ما فشل الانقلاب.
الأزمة إذًا ليست خلافًا عابرًا على حول سياسات داخلية، بل امتداد لقرن من الصراع على السيادة والموارد والنفوذ، حيث تظن واشنطن في كل مرة أنها قادرة على الحسم، لتكتشف أن فنزويلا ليست لقمة سائغة، وأن إرث بوليفار وتشافيز ما زال حاضرًا في الذاكرة الوطنية.
جولة جديدة من التصعيد
لم يكن التصعيد الأخير ضد فنزويلا مجرد تكرار لخطاب أمريكي تقليدي أو استمرار لنهج العداء التاريخي بين واشنطن وكاراكاس، بل جاء في لحظة حساسة داخليًا وخارجيًا جعلت الأزمة تبدو مختلفة عن جولات الصراع السابقة.
هذه المرة، لم يتوقف فصل التوتر الجديد عند التصريحات، فمع نهاية أغسطس/ آب الماضي، تحوّل البحر الكاريبي إلى مسرح عسكري مفتوح، حيث دفعت واشنطن بثلاث مدمرات نحو المياه القريبة من فنزويلا، ترافقها غواصة هجومية وطائرة استطلاع، وقوة قوامها نحو 4 آلاف من البحارة والمارينز، في أكبر تحرك بحري في الكاريبي منذ أواخر الثمانينيات.
وليست هذه هي المرة الأولى التي يتحول فيها البحر الكاريبي إلى ساحة لاختبار الإرادة الأمريكية، فمنذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، ترسّخ في الوعي الاستراتيجي لواشنطن أن هذه المنطقة تمثل “خطًا أحمر” لا يُسمح لأي نفوذ أجنبي بتجاوزه، ومنذ ذلك الحين، بقيت أي تحركات سياسية أو عسكرية بالقرب من شواطئها تُقرأ باعتبارها تحديًا مباشرًا للهيبة الأمريكية ومجالها الحيوي.
واليوم يعود المشهد نفسه، ولكن بملامح جديدة، فالمواجهة لم تعد مع الاتحاد السوفيتي، بل مع فنزويلا، حيث يتصاعد حوار عسكري موارب يقترب تدريجيًا من حافة الانفجار، حتى بلغ التوتر ذروته حين أمر البنتاغون بنشر طائرات مقاتلة بعد اقتراب طائرتين فنزويليتين من سفينة للبحرية الأمريكية، في مشهد أعاد إلى الأذهان لغة إنذارات ما قبل الحروب، وكأن فنزويلا تسير على خطى بغداد.
رسميًا، بررت واشنطن حشدها العسكري في الكاريبي بأنه جزء من عملية لمكافحة الكارتيلات التي تصنفها “إرهابية”، غير أن الهدف الأعمق يبدو موجَّهًا نحو تضييق الخناق على نظام مادورو والسعي لإسقاطه.
وما زاد المشهد اشتعالاً أن القوات الأمريكية أعلنت استهداف قارب في الكاريبي بزعم أنه يحمل مخدرات مصدرها فنزويلا إلى أمريكا، لتتحول الأزمة فجأة من نزاع سياسي اقتصادي إلى مواجهة عسكرية مكشوفة تلوح نذرها في الأفق.
🚨الرئيس ترامب ينشر فيديو للقوات الأمريكية وهي تقصف سفينة تحمل مخدرات قبالة سواحل فنزويلا، كانت متجهة نحو أميركا
♦️رسالة واضحة من الرئيس ترامب؛
ذراع إيران يُقطع في فنزويلا بعد أن تم قطعه في سوريا ولبنان
ولهذا السبب جَنّ جنون الحوثي اليوم،
وأعلن دعمه لـ فنزويلا. pic.twitter.com/dnfPgxOElQ— Raymond Hakim (@RaymondFHakim) September 3, 2025
قبل ذلك، ارتبطت الشرارة المباشرة لهذا التصعيد بحدثين بارزين، أولهما وصول شحنات نفط إيرانية إلى الموانئ الفنزويلية تحت أنظار الأقمار الصناعية، في تحدٍ للعقوبات الأمريكية، ما كشف هشاشة سلاح العقوبات الذي طالما اعتمدت عليه واشنطن.
أمَّا الحدث الثاني فتمثَّل في إعلان مادورو تعزيز التعاون العسكري مع روسيا، بما في ذلك وصول خبراء لتطوير الدفاع الجوي، ما أظهر فنزويلا كجزء من شبكة تحدٍ دولي تشمل خصوم واشنطن التقليديين، خصوصًا الصين التي تجرى معها مفاوضات لتعزيز الاستثمار في الطاقة.
بالنسبة لإدارة ترامب، مثَّلت هذه التطورات تهديدًا مباشرًا لمكانة أمريكا، فاستغلها لتقديم نفسه حاميًا للأمن القومي من “الغزو الصامت للمخدرات”، فقد ربط في خطاباته بين أزمة المخدرات في الداخل الأمريكي وحكومة مادورو، مصوّرًا كراكاس ككيان إجرامي على صلة بعصابات مثل “ترين دي أراغوا” و”كارتل دي لوس سولس” المدرجة حديثًا ضمن المنظمات الإرهابية.
هذا الربط لم يكن جديدًا تمامًا، لكنه جاء في لحظة يحتاج فيها الرئيس إلى خصم خارجي لتوحيد الداخل المنقسم، فوجدت الإدارة في كاراكاس “خصمًا مناسبًا” لاستعراض القوة أمام خصومها، تمامًا كما حصل مع العراق في مطلع القرن، خاصة أن خطاب “المخدرات القادمة من الكاريبي” يلقى صدى في الداخل الأمريكي، تمامًا كما لاقى خطاب “الإرهاب” بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.
لكن ما جعل التصعيد يبدو استثنائيًا هذه المرة هو حدة اللغة والإجراءات التي صاحبته، إذ لم تقتصر واشنطن على العقوبات أو دعم المعارضة، بل لجأت إلى التهديد العلني بالقوة البحرية، وإلى خطاب أقرب إلى “مطاردة المجرمين الدوليين” منه إلى الدبلوماسية، مع دراسة ضربات عسكرية محتملة داخل فنزويلا ضد عصابات المخدرات.
ولم تكتف واشنطن بالقوة البحرية، بل صعدت خطابها ضد مادورو بشكل مباشر، وصفته الخارجية الأمريكية بـ”زعيم الكارتل المسؤول عن تهريب المخدرات”، ما دفع المدعية العامة الأمريكية بام بوندي إلى رفع قيمة المكافأة لمن يقدم معلومات عنه إلى 50 مليون دولار، وصادرت 700 مليون دولار من أصوله، في تكرار للأسلوب الذي سبق غزو العراق، لكن هذه المرة باستخدام ذريعة المخدرات بدل أسلحة الدمار الشامل.
في المقابل، جاء رد مادورو سريعًا ومتحديًا، ففي خطاب جماهيري متلفز، تحدث عن استعداد بلاده للكفاح المسلح، مع إعلان تعبئة أكثر من 4.5 مليون من عناصر الميليشيا الشعبية ورفع جاهزية القوات المسلحة، لحماية السواحل والمنشآت الاستراتيجية من النفط إلى الموانئ والبنى العسكرية، في مواجهة تبدو فيها الساحة محكومة بمنطق “إما الكل أو لا شيء”.
لكن المعركة لا تدور داخل فنزويلا وحدها، فالصين أعربت عن قلقها، وإيران وكوبا قد تقدمان دعمًا محدودًا، بينما الجوار الإقليمي منقسم بين دعم أمريكي وحلول دبلوماسية. كل ذلك يحوّل فنزويلا إلى ساحة اختبار دولية تتقاطع فيها مصالح القوى الكبرى مع هواجس الجيران، في مشهد يذكر بأجواء الحرب الباردة.
خلف ستار المخدرات
حين يطل أي مسؤول أمريكي ليبرر التصعيد ضد فنزويلا بذريعة “محاربة المخدرات”، يبدو الخطاب مألوفًا، غير أن القضية أعمق بكثير من شحنات كوكايين مزعومة، ما يجعل هذه الذريعة مجرد ستار لأطماع استراتيجية.
في جوهر الأزمة تقف معادلة النفط، الذي جعل فنزويلا منذ اكتشافه قبل أكثر من قرن محور اهتمام واشنطن، فهي تمتلك أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، والسيطرة عليه تعني النفوذ في سوق الطاقة العالمي، خاصة في ظل تقلب الأسعار والصراع على الموارد.
ومع تحول الصين والهند إلى الشركاء الرئيسيين لفنزويلا، رأت واشنطن أن استمرار نظام مادورو يمنح خصومها فرصة لتوسيع نفوذهم في نصف الكرة الغربي، ما يعني أن أي تحرك أمريكي قد يستهدف ليس شبكات المخدرات فقط، بل البنية التحتية الحيوية بما فيها حقول النفط والموانئ وحتى المنشآت العسكرية.
الجغرافيا بدروها تلعب دورًا مركزيًا في هذه المعادلة، فموقع فنزويلا على البحر الكاريبي قرب طرق بحرية حيوية وقناة بنما الاستراتيجية يجعل وجود نظام معادٍ لواشنطن هناك نقطة ضغط مباشرة على المصالح الاقتصادية والعسكرية الأمريكية، لذلك، فإن السيطرة على كاراكاس أو على الأقل إخضاعها لمعادلة النفوذ الأمريكي، تبدو – بالنسبة لصناع القرار في واشنطن – مسألة تتجاوز حدود العلاقة الثنائية لتلامس الأمن القومي الأمريكي.
لكن ما هو أبعد من النفط والجغرافيا يكمن في البعد الرمزي والسياسي، فمنذ عهد تشافيز، أصبحت فنزويلا أيقونة للمقاومة اللاتينية ضد الهيمنة الأمريكية، وصنعت خطاباته التي تصف بوش بـ”الشيطان”، وتواجه المؤسسات المالية الدولية، صورة ملهمة لحركات يسارية في القارة من بوليفيا إلى نيكاراغوا.
لذلك، لا يهدف إسقاط فنزويلا لتغيير النظام فقط، بل لضرب رمزية التمرد على واشنطن في نصف الكرة الغربي، وإجهاض تجربة سياسية قد تصبح نموذجًا يُحتذى به، وإعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة التي تعتبرها أمريكا منذ إعلان “مبدأ مونرو” عام 1823 “ساحة نفوذ حصرية” لا يحق لقوة أخرى أن تنازعها فيه.
ولعل ما يضاعف القلق الأمريكي هو أن خصومها الدوليين وجدوا في فنزويلا موطئ قدم استراتيجيًا، ما يجعل أهدافها الخفية ليس مجرد الضغط على مادورو، بل منع هذه القوى من تثبيت نفوذهم في قلب القارة اللاتينية، وبإرسال رسالة تحذير إلى كل دولة تسعى لتحدي الهيمنة الأمريكية، لذلك يبدو التصعيد الأمريكي متسارعًا ومكثفًا.
من ذريعة أسلحة الدمار الشامل إلى الحرب على المخدرات
في لحظة من لحظات التصعيد القصوى، عندما يلوّح مادورو أمام أنصاره بأن “الادعاءات حول المخدرات لا تقل زيفًا عن أسطورة أسلحة الدمار الشامل” لم تكن المبالغة في خطابه مجرد تحدٍ فحسب، بل استحضارًا لذاكرة جماعية لغزو على العراق قبل 20 عامًا، حين جرى توظيف كل أدوات الدبلوماسية والإعلام لإقناع العالم بخطر محدق، واستخدمت واشنطن ذرائع ملفقة لتبرير التدخل العسكري وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط.
وتبدو أوجه التشابه مع العراق واضحة، فبدل ادعاءات “الأسلحة الكيميائية” و”أنابيب الألومنيوم” التي كانت جزءًا من ادعاءات سعي صدام حسين للحصول على سلاح نووي، صارت اليوم “شحنات الكوكايين” و”المخدرات العابرة للحدود” الذريعة لتأطير فنزويلا كتهديد للأمن القومي الأمريكي.
الخطاب نفسه يتكرر، ممثلاً في نظام خارج عن القانون يجب التعامل معه كخطر عالمي، وشبكات إجرامية عابرة للحدود، لتبرير قد يكون عسكريًا أو على الأقل حصارًا خانقًا.
حتى المشاهد المصاحبة تبدو مألوفة: مدمّرات أمريكية تتحرك باتجاه منطقة النزاع، ومسؤولون يتحدثون عن ضرورة “تحرير الشعب”، ومعارضة محلية تُدفع للواجهة كبديل محتملة، ومعركة إعلامية تُهيئ الرأي العام قبل أي رصاصة عبر شيطنة النظام المستهدف، وتصوير القائد كخطر شخصي يجب التخلص منه.
التشابه لا يقف عند اللغة الدعائية، ليصل إلى جوهر السياسة الأمريكية، ففي حالة العراق، كان الهدف المعلن القضاء على تهديد افتراضي، بينما كان الهدف الضمني السيطرة على النفط وإعادة رسم خريطة المنطقة بما يضمن مصالح واشنطن وحلفائها.
في فنزويلا، تتكرر المعادلة نفسها، لكن الأكثر لفتًا للانتباه أن واشنطن تراهن مجددًا على “التعبئة الأخلاقية”، من “إنقاذ الشعب العراقي من ديكتاتور دموي” إلى “إنقاذ الفنزويليين من عصابة فاسدة”، وفي الحالتين، تُستحضر لغة إنسانية لتبرير تدخل عسكري أو حصار اقتصادي، ولإخفاء المصالح الاستراتيجية خلف ستار أخلاقي، فيما تمنح ذريعة “المخدرات” واشنطن مرونة واسعة للتحرك خارج أي إطار دولي رسمي، باعتبارها امتدادًا للحرب التي تخوضها منذ عقود.
من جهة أخرى، يختلف المشهد الدولي اليوم جذريًا عن 2003، ما يجعل المقارنة أكثر تعقيدًا، فقد استعادت روسيا عافيتها ونفوذها في كاراكاس، وصارت الصين شريكًا اقتصاديًا أساسيًا، في حين تستثمر إيران في دعم مادورو كجزء من معركتها الأشمل مع واشنطن، ما يجعل أي تدخل أمريكي محتمل مواجهة متعددة الأبعاد وليست مجرد عملية محلية سريعة.
رغم ذلك، يظل شبح الغزو حاضرًا في خطاب واشنطن، التي تدرك أن تصوير مادورو كـ”زعيم المخدرات” أسهل تسويقًا داخليًا من وصفه بـ”ديكتاتور سياسي”، وتستحضر “رواية الخطر” – كما حدث في العراق – بإعادة تدوير صورة فنزويلا كدولة “مارقة”، يُختزل رئيسها وحكومته في صورة “قائد عصابة دولية” تهدد السلم العالمي، في سيناريو متجدد يختصر السياسة الأمريكية في خطاب تحذيري عالمي بديكور مختلف.
أي مستقبل ينتظر فنزويلا؟
هل تواجه فنزويلا نسخة جديدة من الغزو الأمريكي، أم أن الواقع الدولي والمحلي سيجعلها ساحة مختلفة تكسر أوهام الهيمنة الأمريكية في أمريكا اللاتينية؟ هذا السؤال ليس نظريًا، بل يفرض نفسه كلما ازدادت حدة التصعيد، وتكررت مشاهد استحضار الماضي في خطابات مادورو وأنصاره.
الرئيس الفنزويلي أمام الرؤساء الحاضرين لقمة بريكس: أين أنتم مما يحصل في #غزة و #لبنان؟ أين هو نظام العدالة للأمم المتحدة؟ أم أنها مجرد أداة لإصدار الوثائق والبيانات؟ pic.twitter.com/himgjXjQha
— نون بوست (@NoonPost) October 27, 2024
داخل أروقة البنتاغون، تتكاثر التكهنات حول سيناريوهات التصعيد المحتملة، وأكثرها إثارة للقلق أن تنزلق الأزمة إلى مواجهة شاملة بسبب حادث عرضي لا أكثر، أو اصطدام بين سفينتين في عرض البحر، أو تحليق لطائرة فنزويلية فوق المياه الإقليمية بشكل يُفسَّر على أنه استفزاز مباشر، فمثل هذه الأخطاء اصغيرة لطالما فجّرت حروبًا غير متوقعة في التاريخ.
وتستبعد التقديرات خيار الغزو البري الشامل، نظرًا لتكلفته الباهظة وانشغالها بجبهات مشتعلة في أوكرانيا وآسيا، فيما يبدو السيناريو الأقرب هو توجيه ضربات جوية محدودة مدعومة بهجمات إلكترونية لتعطيل الدفاعات، مع تكثيف الرهان على المعارضة، بينما تعزز كاراكاس دفاعاتها بزوارق صواريخ وغواصات ديزل لإرباك التفوق البحري الأمريكي.
في النهاية، تبدو فنزويلا اليوم وكأنها تتحول إلى برميل بارود جديد، على غرار أوكرانيا أو تايوان، ورغم أن المعركة لم تبدأ بعد إلا أن كل المؤشرات تشير إلى استعداد الكاريبي ليكون ساحة صراع عالمي، حيث تختبر القوى الكبرى حدود قوتها وصبرها.
وسواء تكررت سيناريوهات التدخل الأمريكي في العراق بحذافيرها أو لا، فإن مجرد التشابه في اللغة والأسلوب يكفي لإثارة مخاوف الشعوب من استمرار تبرير الحروب بذريعة أخلاقية أو أمنية، بينما تبقى الحقيقة مخفية وراء المصالح والصفقات.