في توقيت لافت، أصدرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقريراً جديداً بعنوان (سوريا: إسرائيل تُهجّر قسراً سكان قرى تحتلها في الجنوب)، وثّقت فيه ما وصفته بانتهاكات ممنهجة ترتكبها القوات الإسرائيلية في مناطق سورية تحتلها منذ أواخر عام 2024. يشير التقرير إلى عمليات تهجير قسري طالت سكان قرى جنوبية، وهدم منازل، ومصادرة ممتلكات، فضلاً عن نقل غير قانوني لمحتجزين سوريين إلى داخل إسرائيل، في خرق واضح للقانون الدولي الإنساني.
ويأتي التقرير مع تصاعد الحديث عن مفاوضات أمنية بين دمشق وتل أبيب، وسط مؤشرات عن اقتراب الطرفين من التوصل إلى اتفاق، بحسب ما أكده الرئيس السوري أحمد الشرع في مقابلة متلفزة بثّتها قناة “الإخبارية” الرسمية، حيث أشار إلى “تقدم حقيقي” في المحادثات الجارية، ووجود تفاهمات أولية حول ترتيبات أمنية تشمل مناطق التماس في الجنوب.
يعكس هذا التزامن مفارقة صارخة بين المساعي الدبلوماسية والانتهاكات الجارية على الأرض، فبينما توثق منظمات دولية انتهاكات على الأرض تطال المدنيين السوريين، تُطرح في المقابل مشاريع تفاهمات قد تُفضي إلى إعادة ترسيم العلاقة الأمنية بين الطرفين. وهو ما يثير تساؤلات جوهرية حول مستقبل هذه المفاوضات، وحدود قدرتها على معالجة آثار الانتهاكات، لا سيما تلك التي تمس الحقوق الأساسية للسكان في المناطق المحتلة.
ماذا يكشف التقرير؟
يرسم تقرير هيومن رايتس ووتش الصادر في 17 أيلول/سبتمبر 2025 صورة قاتمة لما يجري في القرى السورية الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي جنوب البلاد، ولا سيما في محيط منطقتي جباتا الخشب والحميدية قرب خط وقف إطلاق النار في الجولان.
التقرير، الذي استند إلى شهادات مباشرة ومقاطع مصوّرة وصور أقمار صناعية، يتهم القوات الإسرائيلية بارتكاب سلسلة من الانتهاكات التي تصنّف وفق القانون الدولي الإنساني كـ”جرائم ترقى إلى التهجير القسري”.
بحسب المنظمة، بدأ التصعيد الإسرائيلي في هذه المناطق أواخر عام 2024، في أعقاب هجوم شنته جماعات مسلّحة مرتبطة بإيران انطلاقًا من الجنوب السوري. وتحت ذريعة “إزالة التهديدات الأمنية”، قامت القوات الإسرائيلية بعمليات مداهمة وتفتيش موسّعة، تبعها إخلاء السكان قسرًا من قراهم، وفرض طوق عسكري يمنع عودتهم. وقد وثّق التقرير حالات لعائلات كاملة فُرض عليها المغادرة دون إنذار مسبق، مع منعها من أخذ ممتلكاتها الأساسية، وهو ما يُعد انتهاكًا مباشراً للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة.

توسّعت الانتهاكات لتشمل هدم منازل بعد مصادرتها بشكل غير قانوني. ويذكر التقرير أن “إسرائيل” استخدمت ذرائع أمنية لإضفاء غطاء قانوني شكلي على عمليات المصادرة، إلا أن النمط المتكرر للهدم، واستهداف مساكن لم تُستخدم لأي أغراض عسكرية، يطرح شكوكًا جدية حول نية مبيتة لتغيير الواقع الديمغرافي في المنطقة. كما تُظهر صور الأقمار الصناعية تغيّرًا ملحوظًا في توزيع التجمعات السكنية، وانخفاضاً في عدد المرافق الحيوية كالمزارع والآبار، ما يعني أن السكان حُرموا من سبل عيشهم بشكل منهجي.
واحدة من أخطر ما كشف عنه التقرير هو النقل غير القانوني لمحتجزين سوريين إلى داخل “إسرائيل”. حيث وثّقت المنظمة حالات احتجاز ميداني لسوريين في محيط جباتا الخشب، نُقل بعضهم إلى داخل الأراضي الإسرائيلية دون توجيه تهم رسمية أو منحهم الحق في توكيل محامين أو التواصل مع عائلاتهم. وهو إجراء ينتهك اتفاقية جنيف والقانون الدولي لحقوق الإنسان، ويشكّل حالة اختفاء قسري مكتملة الأركان.
ما يلفت الانتباه في لغة التقرير هو أن المنظمة تتحدث عن “نمط متكرر”، لا عن حالات فردية معزولة، وهو ما يعكس تصورًا بأن السياسات الإسرائيلية في الجنوب السوري لا تأتي كرد فعل ظرفي، بل ضمن مقاربة أمنية–سياسية أوسع، ربما تسعى إلى إعادة رسم الوضع الميداني قبيل أي تفاهمات إقليمية محتملة. ويُستدل على ذلك من تزامن الإجراءات الميدانية مع توسّع النشاط العسكري الإسرائيلي في نقاط قريبة من مناطق التماس، بما في ذلك تلال تل أحمر وتل كروم.

في السياق ذاته، أشارت هيومن رايتس ووتش إلى غياب أي إطار قانوني واضح لحماية السكان، مع تقاعس الأمم المتحدة والجهات الدولية المعنية عن التدخل أو حتى إصدار مواقف رسمية، ما يضاعف من شعور سكان المنطقة بأنهم متروكون لمصيرهم، بين احتلال عسكري وانهيار مؤسسات الدولة السورية في الجنوب.
بذلك، لا يكتفي التقرير بالتوثيق، بل يدق ناقوس الخطر إزاء تدهور غير مسبوق في واقع حقوق الإنسان في الجنوب السوري المحتل. وهو تدهور يتطلب، بحسب المنظمة، تحركًا دوليًا عاجلاً، ليس فقط للضغط على إسرائيل لوقف انتهاكاتها، بل لضمان الحد الأدنى من الحماية للسكان المحليين إلى حين تسوية الوضع سياسيًا وأمنيًا.
اتفاق أمني قيد البحث
بالتوازي مع ذلك، تتّجه الأنظار في الوقت نفسه إلى مسار تفاوضي يجري خلف الكواليس، قد يعيد رسم قواعد الاشتباك بين دمشق وتل أبيب. الرئيس السوري أحمد الشرع، وفي تصريحاته البارحة مساء الأربعاء، أكد بشكل رسمي عن وجود مفاوضات أمنية مع “إسرائيل”، قائلاً إن التفاهمات قد تفضي إلى نتائج ملموسة خلال أيام، بشرط أن تضمن “احترام المجال الجوي السوري ووحدة الأراضي السورية”، وتتم برعاية أممية واضحة.
الشرع أكد أن “السلام والتطبيع ليسا مطروحين الآن”، في محاولة واضحة لتفادي أي ربط بين هذه المفاوضات والمسارات التطبيعية الجارية إقليمياً. كما شدد على أن واشنطن لا تمارس ضغطًا مباشرًا على دمشق، بل تقوم بدور الوسيط، ما يشير إلى رغبة سورية في الحفاظ على قدر من الاستقلالية السياسية في ظل التوازنات الدولية المعقدة.
وبينما حافظت دمشق على لغة حذرة، كشفت تسريبات إعلامية وسياسية تفاصيل أكثر دقة عن سير المحادثات. فقد أفاد مصدر حكومي سوري لقناة الجزيرة بأن لقاءً عُقد في لندن بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ونظيره الإسرائيلي رون ديرمر، تم خلاله مناقشة ترتيبات لوقف التصعيد، تستند إلى اتفاق فصل القوات لعام 1974.
الجانب السوري – بحسب المصدر – اشترط انسحاب “إسرائيل” من كافة المناطق التي احتلتها بعد 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، مع إعادة انتشار قوات الأمم المتحدة في المنطقة العازلة.
ويتسم الطرح السوري حتى الآن بالثبات على مبدأ “وحدة الأرض”، مع تأكيد رسمي بأن أي اتفاق لن يُقبل إذا تضمّن مساساً بالسيادة الوطنية. كذلك شدّد المصدر على أن أي سلام مستدام يجب أن يعالج جذور التوتر، وعلى رأسها استمرار الاحتلال الإسرائيلي للجولان ومحيطه.
View this post on Instagram
في المقابل، كشفت صحيفة أكسيوس الأميركية عن معطيات إضافية تُلقي بظلال من الشك حول نوايا إسرائيل من هذا المسار. وفقًا للتقرير، قدّمت تل أبيب لدمشق مقترحًا يقضي بتقسيم الجنوب الغربي من العاصمة إلى ثلاث مناطق منزوعة السلاح، على غرار اتفاق كامب ديفيد مع مصر، مع توسيع المنطقة العازلة بعمق كيلومترين إضافيين داخل الأراضي السورية، وفرض منطقة حظر جوي للطيران السوري فوق المنطقة الممتدة من جنوب غرب دمشق حتى الحدود.
المقترح يتضمّن أيضًا انسحابًا إسرائيليًا تدريجيًا من المناطق التي سيطرت عليها منذ انهيار النظام السابق، مع استثناء نقطة جبل الشيخ، التي باتت تعتبرها “إسرائيل” موقعًا إستراتيجيًا لا يمكن التنازل عنه في الظروف الراهنة.
هذه البنود، إذا صحّت، تُظهر توجهًا إسرائيليًا نحو فرض واقع أمني جديد يقيّد حركة الدولة السورية حتى في مناطق سيادتها المفترضة، مقابل مكاسب محدودة على الأرض.
بالموازاة، نقل التلفزيون العربي عن مصدر حكومي سوري تأكيده أن الوفد السوري قدّم خلال اجتماع لندن رؤية واضحة لخفض التصعيد، تقوم على إعادة الالتزام بخطوط 1974، مقابل تعهد سوري بضمان أمن الحدود ووقف أي نشاط عسكري انطلاقاً من الجنوب.
علّق الدكتور مروان قبلان، رئيس وحدة السياسات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، على المقترحات المسرّبة قائلاً إن مضمون الخطة الإسرائيلية، إذا ثبت، فهو “غير مقبول”، وينطوي على محاولة لتثبيت وقائع جديدة باسم “الترتيبات الأمنية”.
كما أشار قبلان في حديثه إلى التلفزيون العربي إلى أن “الهشاشة السياسية والاقتصادية قد تدفع دمشق إلى التوقيع على اتفاق لا يخدم سوى المطامع الإسرائيلية”، مضيفاً أن “الخيار الأساسي أمام سوريا يجب أن يكون بناء جبهة داخلية وطنية قادرة على فرض معادلة ردع متوازنة، لا قبول الشروط الأمنية على حساب السيادة”.
بهذا المشهد المتشابك، تتقاطع ثلاثة مسارات كبرى تشكّل ملامح المرحلة الراهنة في الجنوب السوري: تقرير حقوقي يوثّق انتهاكات إسرائيلية خطيرة على الأرض، ومفاوضات سياسية تبحث عن ترتيبات أمنية لم تتّضح ملامحها بعد، ومواقف داخلية تحذّر من الانزلاق نحو تسويات تُفرض تحت وطأة الواقع الميداني لا وفق مبادئ السيادة الوطنية.
فمن جهة، تكشف الوقائع التي رصدتها منظمة هيومن رايتس ووتش عن نمط ممنهج من التهجير القسري وتغيير البنية السكانية والاقتصادية في قرى الجنوب، ما يعني أن أي اتفاق لا يعالج هذه الانتهاكات سيُبقي جذور الصراع قائمة. ومن جهة أخرى، تبدو المفاوضات الجارية محاولة لاحتواء التصعيد لا لحل جذري، وسط تباين في شروط الطرفين، وتكتم رسمي يُبقي الرأي العام السوري على هامش الحدث.