شدّد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال اتصال هاتفي أجراه معه رئيس وزراء بريطانيا، كير ستارمر، الخميس 11 سبتمبر/أيلول الجاري، على رفض تهجير الفلسطينيين من أرضهم، مؤكدًا أن أي تحرك في هذا الاتجاه يُعد تهديدًا مباشرًا لمنظومة السلام الإقليمي، وقد يفضي إلى موجات غير مسبوقة من النزوح والهجرة غير الشرعية نحو أوروبا، وفق ما ذكر بيان للمتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية نشره على صفحته على فيسبوك.
وتعد تلك المرة الأولى التي يربط فيها الرئيس المصري بين مخطط تهجير الفلسطينيين من القطاع، والذي يسير بسرعة جنونية، واحتمالية تعرض أوروبا لموجات جديدة من الهجرة غير الشرعية، وهو الربط الذي اعتبره البعض تحولًا لافتًا في الخطاب السياسي المصري، يعكس حالة القلق والتململ المتصاعدة خاصة بعد الإعلان عن العملية العسكرية لاحتلال مدينة غزة.
هذا الربط الأول من نوعه أثار الكثير من التساؤلات حول ما يحمله من رسائل ودلالات، فهل تلجأ القاهرة لاستخدام هاجس الهجرة غير الشرعية الذي يؤرق أوروبا كورقة ضغط تدفع قادة القارة العجوز إلى تكثيف الجهود الدبلوماسية لإثناء رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة عن مخططهم العنصري؟ وهل ترضخ أوروبا لمثل تلك الضغوط؟
التهجير.. خط القاهرة الأحمر
تتبنى القاهرة منذ اليوم الأول لحرب غزة موقفًا متشددًا من قضية تهجير الغزيين بصفة عامة وللأراضي المصرية على وجه الخصوص، حيث عبّرت عن هذا الرفض من خلال عشرات البيانات والتصريحات الصادرة عن الرئاسة المصرية ووزارة الخارجية والإعلام الرسمي وغير الرسمي، معتبرة أن هذا خط أحمر بالنسبة للأمن القومي المصري.
وبذلت الدبلوماسية المصرية مساعي وجهودًا عدة للتصدي لهذا المخطط الذي بدأت تنكشف تفاصيله خلال الأشهر الأخيرة، خاصة بعد خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتحويل غزة إلى “ريفييرا” الشرق الأوسط، حيث جاء رد القاهرة سريعًا بخطة مماثلة لإعادة إعمار القطاع مع بقاء سكانه بداخله، وهي الخطة التي رُفضت إسرائيليًا ولم تحظَ بالقبول الكامل أمريكيًا.
بداية الحرب استندت مصر في حشدها لرفض التهجير إلى مقاربة رفضها الكامل لتصفية القضية الفلسطينية، حيث يرى الجانب المصري أن تفريغ القطاع من سكانه بهذه الطريقة يعني عمليًا إنهاء القضية وطي صفحتها للأبد، وخسارة لا يمكن تداركها عبر عقود من الزمن، أسوة بما حدث في نكبة 1948.
لكن مع التطورات الأخيرة وتجاوز جيش الاحتلال لكل مقاربات الدبلوماسية وضربه بملاحق اتفاقية السلام الموقعة مع مصر عرض الحائط، وعبثه بالحدود المصرية الفلسطينية، واحتلاله محور فيلادلفيا، أضافت القاهرة بعدًا آخر لتمترسها الرافض للتهجير، يتعلق بالجانب الأمني، إذ إن التهجير وما يترتب عليه من تداعيات سيهدد الأمن القومي المصري والعربي، وهو ما يجب التصدي له بكل السبل.
الهجرة غير الشرعية.. كابوس الأوروبيين
تُعدّ الهجرة غير النظامية من أكثر الملفات إزعاجًا لأوروبا، إذ تجاوزت تداعياتها البعد الاقتصادي إلى الأمني والمجتمعي والسياسي. ورغم تخصيص الاتحاد الأوروبي نحو 580 مليون يورو بين 2021 و2023 لمكافحتها في دول شمال إفريقيا، فإن النتائج لم تحقق المأمول، حيث استمرت “قوارب الموت” وإن تراجعت وتيرتها بفعل القيود الأمنية.
هذا الملف حضر بقوة في مؤتمرات عدة، أبرزها قمة مولدوفا في يونيو/حزيران 2022 بمشاركة قادة أوروبيين ودول مجاورة، حيث أُطلقت خطة “أوقفوا القوارب” لتأمين الحدود وموازنة القوانين بالاعتبارات الإنسانية. كما شهدت روما في يوليو/تموز 2023 مؤتمرًا دوليًا للتنمية والهجرة، شاركت فيه 21 دولة إلى جانب منظمات دولية، حضره قادة بارزون بينهم رئيس الإمارات والرئيس التونسي ورئيسة المفوضية الأوروبية.
وفي إطار الحلول العملية، فضّل الاتحاد التعامل مع دول شمال إفريقيا كلٍّ على حدة، إذ وُقعت اتفاقية مع مصر في أكتوبر/تشرين الأول 2022 لدعم قدرات خفر السواحل وتمويل معدات مراقبة بقيمة 80 مليون يورو، بعدما باتت ثاني أكبر مصدر للمهاجرين بعد تونس، حيث وصل أكثر من 16 ألف مصري إلى إيطاليا عام 2022. أما تونس، فمثلت المنصة الأبرز بانطلاق نحو 60 ألف مهاجر إلى لامبيدوزا منذ بداية العام الحالي، بزيادة 133% عن 2022، ما دفع الرئيس قيس سعيد إلى توقيع اتفاق جديد مع الاتحاد الأوروبي.
مصر حارس بوابة أوروبا الجنوبية
حاولت القاهرة مع تزايد أعداد المهاجرين من الأراضي المصرية لأوروبا توظيف هذا الملف الحساس أوروبيًا لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، حيث قدّم السيسي نفسه كـ”حارس بوابة” أوروبا، والشرطي القادر على وقف قوارب الموت المهاجرة من الشواطئ المصرية إلى شواطئ جنوب القارة العجوز.
تُرجم هذا الاستثمار لهذا الملف باتفاقية إدارة الحدود الموقعة مع الاتحاد الأوروبي في أكتوبر/تشرين الأول 2022 بقيمة 80 مليون يورو، شملت تمويل معدات مراقبة وإنقاذ بحري، فيما خُصص للمرحلة الأولى منها 23 مليون يورو تولت جمعية فرنسية تنفيذها. ووفق مسؤولين أوروبيين، فإن الاتحاد يسعى إلى اتفاقيات إضافية مع القاهرة شبيهة بتلك التي أبرمها مع تونس.
قبل تلك الاتفاقية كانت هناك تجارب تعاون سابقة بين الطرفين، منها الاتفاق المبرم عام 2018 بقيمة 135 مليون يورو، والذي استهدف دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة وريادة الأعمال في 15 محافظة مصرية بهدف خلق فرص عمل للشباب والحد من دوافع الهجرة. ووفق بعثة الاتحاد الأوروبي في القاهرة، فإن إجمالي الدعم الأوروبي لمصر في مجال مكافحة الهجرة غير النظامية بلغ منذ 2017 نحو 241 مليون يورو.
ورغم هذه المساعدات، تبقى النتائج محدودة، إذ أقرّت الحكومة المصرية عدة إجراءات وتشريعات مثل تعديل قانون الهجرة غير الشرعية في أبريل/نيسان 2022 وفرض غرامات تصل إلى 5 ملايين جنيه على المهاجرين والمتعاونين معهم، مع الإصرار على تحقيق نجاحات في الحد من الظاهرة، إلا أن الواقع يشير إلى استمرارها دون حلول جذرية.
هل تنجح القاهرة في توظيف هذا الملف؟
وإن كانت مصر لم تلوّح رسميًا بتوظيف ملف المهاجرين كورقة ضغط، إلا أنها خلال السنوات الأخيرة دأبت على الإعلان عن الأعباء التي تتحملها جراء استضافتها لما يقرب من 8 ملايين لاجئ ومهاجر، يكلّفون الدولة سنويًا قرابة 6 مليارات دولار، كما جاء على لسان رئيس لجنة الخطة والموازنة في مجلس النواب (البرلمان) فخري الفقي.
الفقي وفي مداخلة متلفزة له أشار إلى أن مفوضية اللاجئين تقدم دعمًا لعدد يقارب المليون شخص من المهاجرين واللاجئين المقيمين فوق الأراضي المصرية، في حين تتحمل الحكومة المصرية تكلفة الخدمات الأساسية المقدمة لنحو 8 ملايين آخرين يشكلون نحو 8% من إجمالي سكان البلاد.
هذا التوجه المصري الجديد في الإفصاح عن أعداد اللاجئين وكلفتهم المادية والذي تكرر أكثر من مرة، على لسان السيسي ورئيس حكومته ونواب البرلمان، يشي إلى رغبة مصرية في توظيف هذا الملف لحسابات خاصة، أغلبها اقتصادية، حيث الحصول على تعويضات دولارية أسوة بما يفعله الاتحاد الأوروبي مثلًا مع تركيا.
غير أنه ومع التطورات الأخيرة على الساحة الفلسطينية قد تلجأ القاهرة لتلك الورقة للضغط على قادة أوروبا لإثناء نتنياهو عن مخطط التهجير، خاصة بعد توتير الأجواء المصرية الإسرائيلية في أعقاب التصريحات الاستفزازية الهجومية الصادرة عن تل أبيب بحق القاهرة، حيث الاتهامات بحصار الغزيين وغلق معبر رفح أمامهم وتعريض حياتهم للخطر، وكان قد سبق تلك الاتهامات أخرى مماثلة على لسان الممثل القانوني للاحتلال أمام محكمة العدل الدولية حين قال إن مصر هي التي تغلق معبر رفح أمام المساعدات المقدمة للقطاع.
وتستند القاهرة في هذا المسار على قاعدتين أساسيتين، الأولى تتعلق بحساسية ملف الهجرة غير الشرعية بالنسبة لأوروبا، وهو الكابوس الذي يعتقد المصريون أنه سيكون دافعًا قويًا لقادة القارة العجوز للتحرك في هذا الاتجاه والاستجابة للضغوط المصرية. أما القاعدة الثانية فالعلاقة التاريخية والقوية بين تل أبيب وأوروبا، والتي تسمح للأخيرة بالضغط على الكيان بحكم المصالح المشتركة.
غير أن هناك تساؤلين يجب على الجانب المصري الإجابة عنهما قبل التحرك عمليًا لتوظيف تلك الورقة، الأول: هل ترضخ أوروبا للضغوط المصرية بسبب ملف الهجرة غير الشرعية على حساب علاقتها بالكيان الإسرائيلي ومن خلفه بطبيعة الحال الولايات المتحدة؟ بمعنى أدق: هل تغامر أوروبا بعلاقتها بأمريكا وإسرائيل في سبيل ملف الهجرة؟ خاصة وأن مصر ليست المُحرّك الوحيد لهذا الملف، فهناك أيضًا ليبيا وتونس، وربما هما الأكثر جهدًا وتأثيرًا في وقف قوارب الموت المهاجرة.
أما السؤال الثاني: هل تملك أوروبا فعلًا أدوات التأثير على تل أبيب في ظل الانقسام الحاد والواضح بين عواصمها وحكوماتها بشأن التعاطي مع القضية الفلسطينية وما يحدث في غزة؟ فإذا كانت أوروبا وبعد مرور عامين على حرب الإبادة الإسرائيلية عاجزة عن اتخاذ موقف موحد إزاء الاحتلال، فكيف لها اليوم أن تتخذ مثل هكذا مواقف بسبب ملف الهجرة غير الشرعية؟
أوروبا لا إسرائيل.. أي مقاربات للقاهرة؟
الربط المصري الاستثنائي بين تهجير الغزيين والهجرة غير الشرعية كورقة ضغط على أوروبا لتمارس ضغطًا موازيًا على حكومة نتنياهو، أثار الكثير من الجدل والسخرية لدى الشارع المصري في آن واحد، فطالما أن القاهرة تسعى لاستخدام أوراق الضغط التي بحوزتها في مواجهة أوروبا لتحقيق مصالحها القومية والسياسية والأمنية فمن باب أولى استخدام ذات الأوراق في مواجهة “إسرائيل” نفسها.
وتمتلك مصر العديد من أوراق الضغط السياسية والاقتصادية والعسكرية التي يمكنها إذا ما تم استخدامها تغيير قواعد اللعبة وإجبار تل أبيب على الرضوخ، أو على الأقل التفكير مليًا قبل تجاوز الخطوط الحمراء، غير أنها ورغم مرور عامين على حرب الإبادة التي ترتكبها قوات الاحتلال لم تفكر ولو لمرة واحدة في استخدام أي من تلك الأوراق، هذا في الوقت الذي يطالبها فيه البعض اليوم باستخدام ورقة الهجرة غير الشرعية ضد أوروبا.
بشكل عملي وواقعي تتحفظ القاهرة على مواجهة تل أبيب مباشرة، رغم الانتهاكات التي ارتكبتها بحق السيادة المصرية، عبر التحرشات المتتالية على الحدود، وتتحاشى تجاوز توتير الأجواء معها الخطوط الحمراء المرسومة، وعليه يحاول الجانب المصري الالتفاف على تلك المقاربة عبر البحث عن أدوات ضغط أخرى أقل كلفة، عبر الحليف الأوروبي، ودفعه لممارسة ضغوطه على تل أبيب بحكم العلاقات القومية بين الطرفين.
وهو التعويل الذي لا يُتوقع أن يؤتي ثماره في ظل مقاربات أوروبا في هذا المسار وتجنبها إغضاب الولايات المتحدة من جانب، وفقدانها للإرادة السياسية لذلك من جانب آخر، هذا بخلاف حالة الانقسام الحادة بشأن التعاطي مع التطورات في غزة والتي تجعل من تبني موقف أوروبي موحد مسألة غاية في الصعوبة.
في ضوء التطورات الأخيرة، يظهر أن القاهرة تحاول توظيف ورقة الهجرة غير الشرعية، باعتبارها كابوسًا يؤرق أوروبا، للضغط على العواصم الغربية من أجل اتخاذ مواقف أكثر صرامة تجاه مخططات التهجير الإسرائيلية، غير أن هذا النهج يظل محفوفًا بالتحديات، خصوصًا أن أوروبا نفسها تعاني من انقسامات عميقة إزاء التعاطي مع الحرب على غزة، كما أنها تأخذ في الحسبان حسابات معقدة تتعلق بعلاقاتها مع واشنطن وتل أبيب، ما قد يحد من فعالية أي ضغط مصري محتمل.
وفي المقابل، يرى مراقبون أن القاهرة تمتلك أوراق ضغط مباشرة وقوية في مواجهة إسرائيل، سياسية واقتصادية وأمنية، كان يمكن أن تُحدث فارقًا في موازين القوى لو أُحسن استثمارها. إلا أن تحفظ مصر على الدخول في مواجهة مفتوحة مع تل أبيب يدفعها إلى الالتفاف عبر البوابة الأوروبية، في رهان قد لا يحقق النتائج المرجوة، خاصة في ظل غياب موقف أوروبي موحد، وتردد القارة العجوز في التضحية بمصالحها الاستراتيجية الكبرى مقابل الاستجابة لضغوط تتعلق بملف الهجرة.