يتسم الهجوم الإسرائيلي الغادر الذي استهدف العاصمة القطرية الدوحة بكونه هجومًا مركَّبًا، متعدِّد التأثيرات، مرشَّحًا لترك انعكاسات عميقة على كثير من الترتيبات القطرية والخليجية، بل والشرق أوسطية عمومًا، بالنظر إلى أن هذا الاعتداء يمسُّ جملة من المعادلات التي حكمت المنطقة لعقود طويلة.
غير أن بُعدًا آخر لا يقلُّ أهمية يستحق التوقف عنده، وهو السيناريو الذي كان يمكن أن يتحول إلى واقع لو نجحت الضربة في تحقيق أهدافها، إذ كانت تستهدف الاجتماع الذي يضم الصف القيادي الأول في حركة “حماس” مع وفدها التفاوضي، ما كان سيعني إزاحة القيادة العليا للحركة بضربة واحدة.
كان من شأن نجاح هذا السيناريو أن يخلِّف فراغًا قياديًّا غير مسبوق، يختلف جذريًّا عن الاغتيالات الفردية التي اعتادت الفصائل الفلسطينية على التعامل معها عبر تاريخها. فلن يكون الحدث هذه المرة فقدان قائد بعينه، بل تصفية جماعية لقيادة الصف الأول في وقت تعرَّضت فيه الحركة أصلًا لخسائر كبيرة باغتيال رئيسَي المكتب السياسي على التوالي ونائب الرئيس وغالبية قياداتها السياسية داخل قطاع غزة.
ومن هنا تبرز أسئلة جوهرية: ما التأثيرات التي كان سيخلِّفها مثل هذا الحدث الجلل على سلوك المقاومة؟ وكيف كانت ستتعامل “حماس” مع تداعياته المباشرة؟ وما الإجراءات المستقبلية التي قد تتخذها لتقليص احتمالات تكرار مثل هذا التهديد الاستثنائي؟
الأمين العام للأمم المتحدة يعرب عن تضامنه مع قطر ويصف الهجوم على الدوحة بانتهاك صارخ للقوانين الدولية، وأمير قطر يؤكد اتخاذ كافة الإجراءات لحماية أمن البلاد. pic.twitter.com/9YmMZEgkgy
— نون بوست (@NoonPost) September 11, 2025
الاغتيالات بوصفها أداةً ردعيةً وهندسية
لا تُعدُّ الاغتيالات سلوكًا طارئًا في منظومة عمل الاحتلال الإسرائيلي، بل تمثِّل ركيزة راسخة في بنية العقل الأمني والأساليب العدوانية التي رافقت تأسيس الكيان الصهيوني ونكبـة الشعب الفلسطيني. فقد اعتمدت العصابات الصهيونية منذ البدايات على تصفية كل من يتقدَّم الصفوف لمواجهة المشروع الاستيطاني، بوصف ذلك وسيلة لحماية هذا المشروع وترسيخه.
ومع تحوُّل تلك العصابات إلى أجهزة أمنية واستخباراتية وجيش نظامي، تطوَّرت بدورها تقنيات الاغتيال وأدواته، كما توسَّعت أهدافها لتشمل الأثر بعيد المدى على البنية التنظيمية والوعي الجمعي للطرف المستهدَف. ومع الوقت، باتت “إسرائيل” تشنُّ حملات اغتيال وملاحقة لقادة فلسطينيين وعرب في شتى أنحاء العالم.
وقد شكَّل الردع واستعراض “ذراع إسرائيل الطويلة” عنصرًا ثابتًا في كل عملية اغتيال، إذ تحرص “تل أبيب” على ترك بصمات واضحة تدل على وقوفها خلف العملية، لتبعث برسالة مزدوجة إلى العالم والحركة النضالية الفلسطينية مفادها أن يدها قادرة على الوصول إلى خصومها في أي مكان.
تنوعت أساليب الاغتيال بين العمليات العسكرية المباشرة، مثل القصف الجوي أو الهجمات البرية، وبين العمليات الخاصة التي نفذتها وحدات “الكوماندوز”، مثلما حدث في اغتيال عدد من قادة حركة “فتح” في لبنان 10 أبريل/نيسان 1973، وقيادات المقاومة داخل قطاع غزة والضفة الغربية.
خمسة من قادة حماس اغتيلوا خلال أيام معدودة.. فما الخطة التي ينفّذها الاحتلال منذ استئناف حربه على #غزة؟ pic.twitter.com/JbPZN5qxoJ
— نون بوست (@NoonPost) March 24, 2025
وفي المقابل، مثَّل العمل الأمني السري أحد أبرز الأدوات التي لجأ إليها الاحتلال، من خلال جهاز “الموساد” الذي نفَّذ سلسلة اغتيالات طالت قادة فلسطينيين وعربًا وعلماء وسياسيين وكُتَّابًا وأدباء وأصحاب رأي، خصوصًا ضمن الحملة الشهيرة “غضب الرب” التي أقرَّتها جولدا مائير واستهدفت ناشِطِي منظمة التحرير في الخارج في العام 1972.
ومع تطوُّر العمل الأمني الإسرائيلي، تجاوزت أهداف الاغتيال مجرد الردع اللحظي، لتتحوَّل إلى أداة هندسية تسعى إلى إعادة تشكيل البنية القيادية للفصائل الفلسطينية. فلم يَعُد يهدف الاغتيال، في المنظور الإسرائيلي، إلى إزالة الهدف فحسب، بل أيضًا إلى إحداث أثر متدحرج يُفضي إلى بروز قيادات جديدة مردوعة سلفًا، ضعيفة الشرعية، وأقل قدرة على مواصلة النهج المقاوم، بما يدفع المنظومة المستهدَفة نحو الانكفاء والتراجع بفعل الفراغات التي تضرب بنيتها القيادية، سواء كانت السياسية أو العسكرية أو كليهما معًا.
البناء المؤسسي بوصفه درعًا فلسطينيًّا في مواجهة الاغتيالات
في المقابل، لم تكن القوى الفلسطينية بمعزل عن استخلاص الدروس من موجات الاغتيال المتكرِّرة وتبعاتها العميقة، ولا عن قراءة الأهداف الإسرائيلية الكامنة خلفها، والتي تهدف بالأساس إلى كبح الفعل الفلسطيني وشلِّه عبر ضرب رأسه القيادي وإرباك بنيته التنظيمية أو دفعه إلى ممرات إجبارية محدودة.
ومع تراكم الخبرة وتطوُّر أدوات العمل الفلسطيني، اتجهت الفصائل إلى تبنِّي آليات أكثر فاعلية لضمان استمرارية العمل ضمن نسق مؤسسي متماسك قادر على تجاوز أية اغتيالات مفاجئة، وهي اغتيالات لم تَسلَم منها أي من القوى المنخرطة في مسار المقاومة منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة.
في هذا السياق، سعت الفصائل إلى مأسسة أطرها التنظيمية المختلفة، عبر تقليص الدور المركزي للفرد لصالح العمل الجمعي والمؤسسي، واعتماد آليات القيادة الجماعية والقرارات التشاركية، ما أوجد حالة أوسع من الانخراط في صناعة القرار، وحوَّل الهيئات القيادية إلى فاعل متكامل لا يحتكر فيه فرد واحد مفاتيح القرار والحل والربط.
إلى جانب ذلك، عملت القوى الفلسطينية على توسيع أفقها الاستراتيجي وتحويله إلى خطط عملية واضحة، بحيث يُصبح المسار المتَّبَع مسارًا جمعيًّا يحكم عمل المؤسسات والفصائل بعيدًا عن تأثيرات التغيُّر المفاجئ في رأس الهرم القيادي أو في مكان إقامته. فليست العبرة في النهاية بسلامة الأفراد، بل بسلامة الخط الاستراتيجي الذي يضمن استمرارية العمل المؤسسي بشكل طبيعي.
صحيح أن هذه المعالجات لم تُطبَّق دومًا بصورة نموذجية، وأن مستوى النجاح تفاوَتَ من فصيل إلى آخر، إلا أن السمة العامة باتت تميل تدريجيًّا نحو قدرة أعلى على استيعاب أثر الضربات وتجاوزها بسرعة، مع إنجاز الترتيبات اللازمة للحفاظ على تماسك القدرات القيادية ومنظومة القيادة والسيطرة.
ولا يمكن إنكار التأثير الكاريزماتي لبعض الشخصيات القيادية أو الثقل النضالي والتاريخي الذي تضفيه على العمل التنظيمي، إلا أن هذه السمات الفردية باتت تُشكِّل عاملًا مُكمِّلًا لا جوهرًا ضمن بناء مؤسَّسي صلب.
وقد تجلَّى ذلك بوضوح في قدرة الفصائل، وبشكل خاص حركة “حماس”، على امتصاص صدمات الاغتيالات الكبرى التي طالت قمة هرمها السياسي والعسكري، وأجزاء واسعة من تركيبتها القيادية في خلال شهور الحرب، بينما واصلت ماكينتها الميدانية والسياسية العمل بالنسق ذاته دون انقطاع.
🔸كمائن المقاومة في #غزة… رسائل تُربك الميدان ومسار المفاوضات
يأتي كمين بيت حانون امتدادًا لسلسلة كمائن مركّزة استهدفت فيها قوات الاحتلال، وبالأخص في المناطق التي يُعتقد أن الجيش يحاول تحويلها إلى مناطق عازلة.
تتجاوز خصوصية هذا الكمين البعد الميداني؛ فهو يتزامن مع لحظة سياسية… pic.twitter.com/fmKrbk7tP9
— نون بوست (@NoonPost) July 8, 2025
الاغتيال الجماعي والفراغ القيادي
على الرغم مما تحقَّق من بناء مؤسَّسي راسخ لدى الفصائل الفلسطينية، فإنه لا يمكن أن يكون هذا البناء حصينًا تمامًا أمام ضربة كبرى قادرة على تجاوز قدرة أي تنظيم على التحمل، وفي مقدمتها سيناريو الفراغ القيادي الكامل، أي تغييب صف قيادي بأكمله في ضربة واحدة أو ضربات متزامنة.
وعلى الرغم من أن هذا الاحتمال لم يخضع لاختبار عملي حتى الآن، فأنه حاضر في حسابات العديد من الفصائل التي وضعت له سيناريوهات وخططًا احترازية، خصوصًا في ضوء محاولات إسرائيلية سابقة لاستهداف اجتماعات قيادية.
فقد تعرَّضت “حماس” في قطاع غزة لمحاولتين مشابهتين: الأولى استهدفت اجتماعًا للمستوى السياسي عام 2003؛ والثانية استهدفت اجتماعًا نادرًا جمع كل القيادة العسكرية للحركة في العام 2006، حين قُصف الموقع ونجا الحاضرون بأعجوبة.
كان نجاح أي من هاتين المحاولتين كفيلًا بإحداث زلزال داخلي مدمر في صفوف الحركة، التي لم تكن آنذاك قد صلَّبت بنيتها المؤسسية بعد، خاصةً في سنوات “انتفاضة الأقصى”. لكن فشل الضربتين منح الحركة فرصة ثمينة لإعادة هيكلة صفوفها وتعزيز تماسكها، ما مكَّنها لاحقًا من التعامل مع موجات الاغتيالات بسلاسة أكبر وقدرة أعلى على التعافي المؤسسي.
وأما في الحالة الأخيرة، المتمثلة بالغارة التي نفَّذها جيش الاحتلال على مقار قيادية لحركة “حماس” في الدوحة، فإن تصميم الضربة والأهداف -التي شكَّلت في مجموعها أماكن العمل المعتادة للقيادة الأولى للحركة، وتزامنت مع موعد اجتماع مفترض يضم الصف القيادي الأول ووفدها التفاوضي بشقيه السياسي والأمني- يجعل نجاحها المحتمل مرشحًا لإحداث خسائر كارثية بحجم غير مسبوق في رأس الهرم القيادي.
ومع أن بناء “حماس” المؤسسي أثبت صلابته في محطات عديدة، فإن حرب الإبادة المستمرة منذ قرابة عامين ألحقت بالفعل ضربات شديدة بالصفوف القيادية للحركة، السياسية والعسكرية على السواء، وأدَّت إلى تصفية المثلث المركزي لصنع القرار السياسي، إضافةً إلى غالبية عضوية المجلس العسكري لـ”كتائب القسام”. وهذا يعني أن البنية -مهما بلغت متانتها- ليست منيعة تمامًا أمام ضربة بهذا الحجم، ولا تملك القدرة الطبيعية على امتصاص آثارها الفورية بسلاسة.
وفوق ذلك، كان نجاح مثل هذه الضربة سيضع الحركة أمام اختبار غير مسبوق في تاريخها، يتمثل باغتيال جماعي يخلِّف فراغًا قياديًّا كاملًا في لحظة شديدة الحساسية، تسبق هجومًا بريًّا كاسحًا كان يُخطَّط لأن يتزامن مع الاغتيال ويستهدف مدينة غزة، قلب القطاع الإداري والاقتصادي والمعنوي. وقد أشارت تقارير عبرية إلى أن التقدم البري النوعي في اتجاه الأحياء الغربية للمدينة كان مقررًا يوم 14 سبتمبر/أيلول الجاري، لكنه أُجِّل بسبب بطء حركة النزوح من غربي المدينة إلى جنوبي القطاع.
بين ادعاءات الاحتلال ونفيٍ لم تؤكده المقـ.اومة.. ما تفاصيل اغتيال #أبو_عبيدة؟ pic.twitter.com/sJfEI9fwWw
— نون بوست (@NoonPost) August 31, 2025
إن مثل هذا الاغتيال، لو نجح، كان سيُعقِّد بصورة بالغة عمل البنية القيادية لحركة “حماس”، خاصة في ظل محدودية قنوات الاتصال بين القيادة داخل قطاع غزة وبين المجلس القيادي والوفد التفاوضي في الخارج، وهي قنوات تُدار ضمن نطاق ضيق جدًا لاعتبارات أمنية صارمة. وكان سيخلق تزامُن نجاح الهجوم مع توسيع التحرك البري المفاجئ حالةَ ارتباك شديدة في المشهد القيادي للمقاومة الفلسطينية.
ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا الواقع الذي كان سيفرض نفسه، فإن طبيعة بنية الحركة المُصمَّمة للتعامل مع الاغتيالات والقدرة على تجاوُزها، واتساع هيئاتها القيادية وحرصها المستمر على سدِّ الشواغر بسرعة، كلها عوامل تتيح لها إمكانية استعادة تماسُكها وترتيب مشهدها القيادي في خلال مدة زمنية معقولة. إلا أن العامل الحاسم في مثل هذه الحالة سيبقى هو الزمن الفاصل؛ أي القدرة على تقليص فترة الفراغ التي تلي الضربة، ومنع تأثيرها الأوَّلي من التمدد وإصابته البنية القيادية والقاعدية في آن معًا.
إجراءات أشد واستعدادات أوسع
تفيد مصادر متعددة داخل “حماس” بأن التدابير الأمنية الاحترازية التي اتخذتها الحركة شكَّلت العامل الرئيس في إفشال الغارة الإسرائيلية الأخيرة ومنعها من تحقيق أهدافها، ما أفضى إلى نجاة قيادات الصف الأول من الاستهداف المباشر، على الرغم من استشهاد عدد من العاملين في دوائرهم القريبة، خصوصًا ضمن الدائرة الضيقة لرئيس الوفد التفاوضي للحركة وقائدها في قطاع غزة، خليل الحية.
وعلى الرغم من فشل عملية الاغتيال، فإن اقترابها من النجاح بفارق ضئيل جدًا في التوقيت أو نطاق الغارة وأماكن الاستهداف يفرض ضرورة استخلاص العِبر والدروس العاجلة، وفي مقدِّمتها ترسيخ قاعدة أن لا مكان آمن ومحَصَّن بالكامل من الاستهداف الإسرائيلي. وهذا ما يستدعي أن تكون إجراءات التحوُّط الأمني والاحتراز حاضرةً دائمًا وفي كل سياق وزمان ومكان.
من المرجح أن تُخضع حركة “حماس” هذا الحدثَ لفحص شامل، يتضمن تشخيص مواضع القصور، ودراسة التأثيرات المحتملة في حال نجاح الضربة، وذلك تمهيدًا لاتخاذ التدابير الكفيلة بتقليص احتمالات وقوع فراغ قيادي أو تعطُّل مسارات التواصل بين الداخل والخارج مستقبلًا.
وفي هذا الإطار، يمكن استشراف أن الحركة ستتجه إلى تفكيك آليات الاجتماعات القيادية الكبيرة، وتغيير نمط اللقاءات التشاورية، وإدخال أدوات تنظيمية وأمنية جديدة تُصعِّب من إمكانية تصفية كامل الهيكل القيادي في ضربة واحدة، بما يضمن حصر الخسائر وتقليل أثر أي استهداف محتمل إلى الحد الأدنى.
ومع أن الرد القطري على الغارة الإسرائيلية التي استهدفت أراضيه كان صاخبًا سياسيًّا وقد يشكّل عامل ردع جزئي أمام محاولات مشابهة مستقبلًا، فإن هذا لا يوفِّر ضمانة حاسمة في ظل حكومة إسرائيلية متطرفة تضرب عرض الحائط بكل الخطوط الحمراء والأطر الناظمة للعلاقات الإقليمية.
بناءً عليه، يُتوقَّع أن تتجه حركة “حماس” إلى تبنِّي تدابير أمنية أكثر صرامة، واحتياطات ميدانية أكثر نباهة، وخطوات استراتيجية أوسع نطاقًا تعزِّز من تماسُك قدراتها القيادية وتُقلِّص احتمالاتِ حدوث فراغ في بنيتها إلى الحد الأدنى.