قطعت الطائرات الإسرائيلية نحو ألفي كيلومتر لتصل إلى أجواء صنعاء في اليمن، حيث ألقت قنابلها على أحد الأحياء المزدحمة بالسكان في قلب المدينة، في العاشر من سبتمبر/ أيلول من هذا العام. وفي ثوانٍ معدودة، حوّلت الانفجارات الهائلة والنيران المشتعلة والدخان المتصاعد الحي السكني إلى منطقة منكوبة يلفّها الحزن والألم.
الجيش الإسرائيلي بارع في هدم المساكن على رؤوس ساكنيها، وهذا ما يعرفه العالم عنه منذ بدء الحرب في غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023. ضربتها الأخيرة على صنعاء استهدفت بدقة مبنى إعلامي يعمل فيه العشرات من الصحفيين، وحولت المبنى إلى ركام. تحت الركام، سقط عشرات الصحفيين قتلى، وأكثرهم حظًا نجا بجروح وصدمة نفسية لا يمكن نسيانها.
أعلنت جماعة الحوثي وصول عدد ضحايا القصف الذي نفذته الطائرات الإسرائيلية على العاصمة اليمنية صنعاء ومحافظة الجوف في 10 سبتمبر/أيلول، إلى 211 قتيلًا وجريحًا.
في منطقة التحرير بصنعاء، استمر البحث عن جثث الضحايا في جبال من الركام خمسة أيام، وتوصلت الجهات المعنية إلى توثيق مقتل 32 شخصًا يعملون في المجال الإعلامي، في مهام متعددة في صحيفة “26 سبتمبر” وصحيفة “اليمن”، كمصورين وصحفيين ومحررين. جمعتهم المهنة في مكان واحد، وقتلتهم “إسرائيل” بضربة واحدة، وشُيعوا جمعيًا في يوم واحد، في لحظة مليئة بالحزن والذهول.
لم تعهد اليمن مثل هذه المجزرة في صفوف الصحفيين، ولا يمكن تبريرها، فوفقاً لصحفيين ومواطنين يمنيين وحقوقيون. مع بدء الاستهداف الإسرائيلي لقطاع الإعلام في اليمن، لم تعد التحديات التي يواجهها الصحفيون من الداخل فقط، إذ باتت “إسرائيل” مصدر جديد لتهديد وإرعاب الصحفيين الذين يعملون في مؤسسات يسيطر عليها الحوثيين في صنعاء.
آلاف اليمنيين يشاركون في تشييع جثامين 32 صحفيًا استشهدوا في غارات إسرائيلية استهدفت مقر صحيفتي “26 سبتمبر” و”اليمن” في العاصمة صنعاء. pic.twitter.com/2LybXRsvHH
— نون بوست (@NoonPost) September 17, 2025
الاستهداف الإسرائيلي لصحيفة ” 26 سبتمبر” وصحيفة “اليمن” في صنعاء كان الأول من نوعه، وليس مؤكداً من أن ذلك الهجوم سيكون الأخير على مؤسسات الإعلام بصنعاء في ظل حرب يمنية إسرائيلية تزداد اتساعًا وتعقيدًا كل يوم.
بعد تنفيذ الغارات الجوية على مواقع عدة، أوضح وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي يسرائيل كاتس أن القوات الإسرائيلية قصفت في صنعاء وأماكن أخرى باليمن معسكرات، بينها وحدة الإعلام الحوثية، قائلًا: “لقد وعدنا بتنفيذ ضربات إضافية واليوم وجهنا ضربة موجعة لتنظيم الحوثيين في اليمن”. وأضاف أن ما سماها يد “إسرائيل الطويلة ستصل لتضرب الإرهاب في كل مكان يشكل تهديدا لنا”.
العدو الطائر
علي، 34 عامًا، صحفي مستقل في صنعاء، يصف الاستهداف الإسرائيلي للمرافق الإعلامية بـ “التصعيد الخطير” في مسار الحرب بين جماعة الحوثي و”إسرائيل”، “وخسارة غير مسبوقة” لقطاع الإعلام في اليمن.
يقول في حديثه لـ نون بوست: “كنت في الأشهر الماضية أجد مبررًا في استهداف إسرائيل لمحطات الكهرباء ومخازن الوقود والموانئ. كنت أرى أن إسرائيل تريد أن تخلق أزمة وقود ومعاناة للمواطنين الذين يسكنون في مناطق سيطرة الحوثي. تريد أن تخلق فوضى واضطرابات اقتصادية لإرباك الحوثي وزعزعة الاستقرار”.
يضيف: “لكن الاستهداف الصهيوني للصحفيين لا يمكن تبريره، إذ إن الصحفي ليس مسؤولًا عما تقوم به الجهات العسكرية في صنعاء. الصحفي موظف مدني ينشر الأخبار ويسرد الأحداث. قتل الصحفي بالطائرات بشاعة غير مسبوقة، واستهتار همجي بدماء الأبرياء”.
يشير علي إلى أن العداء الإسرائيلي للمؤسسات الإعلامية في مناطق سيطرة الحوثي بدا اليوم واضحًا، وقد يتكرر العدوان على المراكز الإعلامية في أي وقت، وهذا الأمر يجعل الصحفي في قلق دائم وخوف مستمر من هجوم إسرائيلي آخر.
يتابع: “خلال سنوات الحرب في اليمن، تعرض الصحفيون للقتل والاختطاف والتهديد من قبل أطراف الصراع في البلد. لا يزال أعداء الصحافة في اليمن كثر، لكن العدو الطائر الذي يرمي قنابله فجأة من أخطر وأبشع الأعداء. عندما ينفذ هجوم بالطائرات المقاتلة، فرصة النجاة من هذا العدو ضئيلة جدًا”.
اليمن بين الفخر والخوف: ضربات الحوثيين على “إسرائيل” تكشف انقسامًا شعبيًا حادًا، بين من يراها ردًا مشروعًا ودعمًا لغزة، ومن يعتبرها مغامرة مدمّرة تستجلب على البلاد حصارًا ودمارًا إضافيًا.
كيف يفكر اليمنيون بشأن ضربات الحوثي على “إسرائيل”؟ 👇https://t.co/mKYCLWHoWN pic.twitter.com/F4HeCKLhn6
— نون بوست (@NoonPost) September 13, 2025
يشير تقرير“هيومن رايتس ووتش” إلى أن الهجمات المتكررة للأطراف المتحاربة على الصحفيين والمؤسسات الإعلامية تهدد حياة عشرات الصحفيين وتقوّض بشكل خطير حرية التعبير في اليمن، ويبين التقرير أن الأطراف المتحاربة في اليمن، بخاصة الحوثيون و”المجلس الانتقالي الجنوبي” والحكومة اليمنية، ارتكبوا انتهاكات حقوقية جسيمة ضد الصحفيين في اليمن.
منذ العام 2010 حتى نهاية سبتمبر من العام 2020، قُتل 44 صحافيًا قتل في اليمن، وفقًا لنقابة الصحفيين اليمنيين، ولم يتم تقديم أي من الجناة إلى العدالة.
يقول الصحفي علي: “لم يحصل الصحفي على عدالة والقاتل يمشي على أرض اليمن، كيف سيحصل على الإنصاف والقاتل في إسرائيل؟ هذه مأساة كبرى”.
أصيل سارية، صحفي يمني، يصف الهجوم الإسرائيلي على مؤسسة إعلامية في صنعاء بـ “المجزرة الصحفية الأكبر في تاريخ الإعلام الحديث”. وأضاف: “على مدى عامين قتلت إسرائيل ما يقارب 240 صحفياً في غزة، لكن في يوم واحد فقط سقط 30 صحفياً يمنياً، أي ما يعادل حوالي 10–12% من إجمالي الصحفيين الذين قُتلوا في غزة، وفي غارة واحدة فقط. إنها ليست مجرد أرقام، بل مأساة إنسانية وإبادة بدأت في غزة ووصلت صنعاء”.
الولاء للمهنة
يعمل الصحفيون في اليمن في بيئة تتسم بالانقسامات السياسية والعسكرية والجغرافية، وهذه البيئة نتاج الحرب الأهلية التي اندلعت في عام 2015 بين جماعة الحوثي وحكومة اليمن المعترف بها دوليًا. خلال سنوات الحرب، حاولت أطراف النزاع استقطاب الصحفيين وأنشأت مواقع إخبارية وقنوات تلفزيونية، إذ تحتاج أطراف الحرب إلى وسائل إعلامية للتأثير على الرأي العام في اليمن والترويج لأجنداتها وأهدافها.
في ظل هكذا ظروف، يجد الصحفيون صعوبة في العمل باستقلالية، ويقبلون الانضمام إلى مؤسسات إعلامية تملكها أو تسيطر عليها الجهات المتصارعة.
عبد الكريم ناصر، 45 عامًا، يقطن في منطقة التحرير بصنعاء، بالقرب من المؤسسة الإعلامية التي دمرتها الغارات الإسرائيلية، ويعرف عددًا من الصحفيين. يقول في حديثه لـ”نون بوست”: الصحفيون الذين قتلتهم إسرائيل يعملون في مؤسسة تسيطر عليها جماعة الحوثي، لكن هذا لا يعني أنهم كلهم يؤمنون بالولاء للجماعة. كثير منهم شغوفون بمهنتهم، وولاؤهم الأول لمسارهم المهني، لا للحاكم”.
يرى ناصر أنه في حال سقط حكم الحوثي في يوم ما، لن يفر جميع العاملين في المؤسسات الإعلامية الحكومية، وسيقبلون العمل مع القيادة الجديدة، وهذا يعني أنهم يعملون في مهنة لا يمكن التنازل، سواء استمر حكم الحوثي أو اندثر.
يشير ناصر إلى أن فرص العمل في مجال الإعلام في اليمن قليلة، وهذا الأمر يدفع الإعلاميين في المؤسسات الحكومية في مناطق سيطرة الحوثي إلى الحفاظ على مواقعهم الوظيفية، حتى وإن كانوا لا يقبلون جماعة الحوثي.
ويضيف: “الطائرات الإسرائيلية تقتل الأبرياء في اليمن، ومنهم الصحفيين، وهذا الأمر لا يضعف الحوثي، ولن يؤثر على عملياته العسكرية ضد إسرائيل. تستطيع الجماعة استبدال القتلى من العاملين بغيرهم، ولن تتوقف الحرب”.
نيكو جعفرنيا، باحثة البحرين واليمن، قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمنظمة هيومن رايتس ووتش، تقول إن مرافق الإذاعة والتلفزيون هي أعيان مدنية ولا يمكن استهدافها.
تؤكد جعفرنيا: “تكون أهدافًا مشروعة فقط إذا استُخدمت بطريقة “تساهم بشكل فعال في العمل العسكري”. ومع ذلك، لا تصبح مرافق البث المدنية أهدافا عسكرية مشروعة لمجرد أنها مؤيدة للحوثيين أو معادية لإسرائيل، أو لأنها تبلغ عن انتهاكات قوانين الحرب من قبل طرف أو آخر، لأن ذلك ليس مساهمة مباشرة في العمليات العسكرية”.
لا يزال الصحفيون في اليمن متمسكين بأقلامهم، يوثقون الأحداث، وينشرون الأخبار، وتواصل المؤسسات الإعلامية صمودها في ظل الحرب والصراع. اليوم، تتفاقم التحديات؛ إذ لم يعد الصحفي يخشى بطش أطراف الحرب الداخلية فقط، بل أصبح التهديد الخارجي، تحديدًا الغارات الإسرائيلية، أشد فتكًا، وأبشع عدوانًا، ومن الصعوبة بمكان إيقافه.